علي عيد
يميل كثير من الصحفيين إلى تحليل الوقائع بالاستناد إلى شهادات فردية، أو بالملاحظة الشخصية، أو حتى برصد الظواهر بطريقة المراقبة التقليدية، متجاهلين كنز المعلومات الذي توفره البيانات الرقمية، وقدرة التكنولوجيا الحديثة على رفد الصحافة بكم هائل من المعلومات والتتبّع لمختلف الظواهر.
يعرّف بعض الدارسين صحافة البيانات (Data Journalism) على أنها اسـتخدام البيانات العامة والإحصاءات لكتابة أو سرد القصص الصحفية بالاعتماد على التطور التكنولوجي وسهولة الوصول إلى المعلومات في صورة رقمية وعرض المعلومات بشكل جذاب.
ويذهب آخرون لتعريفها على أنها “صحافة هيكلية” تشكّل نظامًا إداريًا يتم من خلاله تنظيم المعلومات في قاعدة بيانات بالاعتماد على علوم الحاسوب، بخلاف الهياكل التنظيمية التقليدية القائمة على الروايات.
لا يقتصر استخدام البيانات على الصحافة، فهي تسهم في تغذية الدراسات لمختلف المجالات، كما أنها القاعدة الأساسية التي يبني عليها الدارسون والباحثون استنتاجاتهم، إذ تفيد في قراءة المتغيرات، ويمكن عبرها استقراء مستقبل الظواهر الاجتماعية والطبيعية والاقتصادية، وكل ما يتعلق بنشاط الإنسان.
تلخص منصة “DataJournalism” التابعة لمركز الصحافة الأوروبي (European Journalism Centre) عمل البيانات في الصحافة بخمس وحدات أساسية يجري تدريب وتأهيل الصحفيين فيها، وهي استخدام صحافة البيانات في غرفة الأخبار، وكيفية العثور على بيانات لدعم القصص، والعثور على أفكار القصة باستخدام تحليل البيانات، والتعامل مع البيانات الفوضوية، وسرد القصص بالتصور.
ويساعد فهم المراحل الخمس الصحفيين على التفكير في استنباط المعلومات وتحليلها وترتيبها، ثم طرق استخدام تلك البيانات في سرد القصص.
ينبغي للصحفي أن يتعامل مع الأرقام بعد التأكد من صحتها معتمدًا على مراكز موثوقة، فقد يعثر على كنزه المفقود في مكان لم يخطر له بأنه مصدر بالغ الأهمية
حول التوزع الجندري الديموغرافي تشير إلى أن نسبة الإناث في بعض المناطق أعلى بكثير من نسبة الذكور، عندها لا يجب أن تمر المعلومة مرور الكرام، فبلد ابتلي بالحرب لأكثر من عقد من الزمان لا بد أنه تعرض لاختلالات في التوزيع السكاني أو فقد جزءًا كبيرًا من سكانه بسبب المواجهات العسكرية.
عليك أن تتوقف وتقرأ المتغيرات، فأنت على أبواب قضية بالغة الأهمية، تشبه تمامًا ما حصل في الحرب العالمية الثانية، عندما فقدت أوروبا عامة وألمانيا خاصة ملايين الذكور، وباتت النساء القوة العاملة المكلفة بالإعالة وإعادة الإعمار.
سقت المثال السابق مفترضًا تلك المتغيرات، والهدف هو فتح عين الصحفي على تحقيق في العمق، ربما يفسر انتهاكات أو جرائم حرب أو أزمة “عنوسة” أو اختلالات اقتصادية أو نفسية.
هناك بيانات أخرى قد تكشف عن فساد كبير كما حصل في 2 من تشرين الأول 2021، عندما أعلن الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ) عن تسريب نحو 12 مليون مستند يكشف عن ثروات سرية، وتهرب ضريبي، وغسل أموال لزعماء وأثرياء من مختلف أنحاء العالم، فيما يعرف بتسريبات “أوراق باندورا” Pandora Papers)).
عمل أكثر من 600 صحفي في 117 دولة على البحث في ملفات من 14 مصدرًا لأشهر، وتوصلوا إلى قصص نُشرت على مدى عامين، ولم ينتهِ الأمر بعد.
تم الحصول على البيانات من قبل الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ) بالمشاركة مع 140 مؤسسة إعلامية في تحقيق بيانات عالمي هو الأكبر من نوعه.
ينطبق الأمر على بيانات “ويكيليكس”، و”أوراق بنما”، وغيرهما من كنوز البيانات والأرقام والوثائق التي وضع الصحفيون أيديهم عليها، وكانت في الوقت ذاته موضع اهتمام منظمات حقوقية وحكومات ومؤسسات بحثية متخصصة.
بعد التأكد والاطلاع على البيانات، وتنسيقها وجدولتها، يستخلص الصحفيون الأرقام والنسب.
وبعد الجمع والجدولة والتحليل، يتم تحويل تلك الأرقام المعقدة إلى “إنفوجرافيك” و”فيديو جرافيك” وجداول وتصميمات تسهل على القارئ فهم تلك الأرقام.
ويجري استثمار تلك البيانات في تحقيقات استقصائية معمقة، والزيادة عليها باستحضار الشهود ذوي الصلة، والخبراء المتخصصين، والمعنيين بالقصة، وتصبح الصحافة في أعلى مراتب المحاسبة والمساءلة، وتشكل مصدر إبلاغ للسلطات القضائية، كما تفتح عين الحكومات على طرق مكافحة الفساد بمختلف أشكاله.
يمكن لصحافة البيانات أن تعتمد على تجميع معلومات عبر عشرات أو مئات الشهود، كما حصل في إعادة رسم سجن “صيدنايا” سيئ الصيت في سوريا من قبل منظمة “أمنستي”.
استخدمت شهادات سجناء سابقين وأشخاص عملوا في السجن من قبل مهندسي صوت وإضاءة وخبراء، لتحديد شكل المبنى الذي بقي مجهولًا لسنوات طويلة، وارتكبت فيه مجازر مروعة لم تجرِ محاسبة المسؤولين عنها بعد.
إعادة تشكيل السجن بطريقة ثلاثية الأبعاد (D3) تعتبر المرحلة العملية النهائية في صحافة البيانات، وبعدها يبدأ تسليط الضوء على القضية، وإعادتها إلى الواجهة.
تتداخل صحافة البيانات مع جميع أنواع الصحافة التحليلية والتفسيرية والبحثية، كما أنها تغذي الأنماط الخبرية أو تكون مادتها الأولى في مرحلة لاحقة.. وللحديث بقية.