استئناف الموت

  • 2023/12/03
  • 11:34 ص
الكاتب السوري إبراهيم العلوش

الكاتب السوري إبراهيم العلوش

إبراهيم العلوش

مع نهاية الهدنة صباح 1 من كانون الأول الحالي، عاد القصف إلى قطاع غزة بمختلف أنواع الأسلحة الإسرائيلية التي تستهتر بالقانون الدولي وبدعم صريح من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول التي تستخف بدماء الفلسطينيين وبالقانون الدولي وحقوق الإنسان مع استئناف المحرقة الفلسطينية العلنية.

صباح الجمعة 1 من كانون الأول، عاودت وكالات الأنباء وشاشات التلفزة بث صور الخراب والقتل والأشلاء البشرية التي تنجزها إسرائيل أمام العالم وبخرائط تشبه الزنازين، تأمر الفلسطينيين بالتنقل بينها كلما صدرت إليهم التعليمات، وكأن قضية حماية المدنيين أوكلت لأحد مديري السجون الإسرائيلية، وليس لرجال حقوق الإنسان والقانون الدولي، وقد ظهرت من بين الأشلاء قدم لطفل فلسطيني ترتفع فوق الأنقاض بينما ابتلع الدمار جسده وكأنه يوجه ركلة لكل أكاذيب الساسة والمتحذلقين الذين يتفننون بتبرير المحرقة بحق الفلسطينيين.

في الليلة السابقة ليوم الجمعة الماضي كانت إسرائيل تتفاوض مع “حماس” حول المحتجزين، وفي الصباح باشرت بقتل المدنيين بحجة البحث عن رجال “حماس”، وهذه مفارقة ونفاق إسرائيلي يتنصل من مسؤوليته عن الأوضاع التي يتسبب بها لأهالي غزة، ليس فقط بعد 7 من تشرين الأول الماضي، بل منذ ادعاء إسرائيل الانسحاب من قطاع غزة عام 2005، إذ أحكمت الحصار عليه وحوّلته إلى سجن بلا أمل وبلا مستقبل وهو أكبر سجن في العالم ويحتوي على 2.2 مليون شخص.

العالم لا يزال يتلهى بالمؤتمرات الدولية عن حماية الحياة البشرية وكوكب الأرض، وقد تم افتتاح مؤتمر “COP 28” في الإمارات العربية وبحضور عدد كبير من رؤساء ومسؤولي العالم الذين استفاقوا على صور الدمار والقتل الجماعي وصورة قدم الطفل الفلسطيني التي طفت على الأنقاض وهي تستهزئ بنفاقهم وبخطاباتهم عن حماية الحياة والبيئة، وتصمت عن قتل آلاف الفلسطينيين في عملية انتقامية وحشية يشنها الجيش الإسرائيلي المعتاد على قتل وإذلال المدنيين.

الولايات المتحدة أنذرت إسرائيل بأنه ليس لديها أشهر للاستمرار في قتل الفلسطينيين، وهي تسمح بذلك ضمنًا إن استمرت عمليات القتل أسابيع متعددة، مع دفع تكاليف القصف وتوريد الصواريخ والبوارج والمعلومات المخابراتية التي تغذي المحرقة العلنية.

أما بريطانيا فإنها عادت تمارس دورها الذي تصدت له منذ وعد بلفور عام 1917 مع رفد روح العداء القديمة بروح عداء يمينية جديدة تختلط بروح “الإسلاموفوبيا” التي يحملها رئيس الوزراء البريطاني ووزيرة داخليته السابقة ذوا الأصل الهندي، في عهد جديد للهند برئاسة نارندرا مودي، وهي تنغمر في روحها القومية المعادية للمسلمين وبشكل مجاني.

أما ألمانيا التي لا تزال تعيش عقدة الذنب في جريمة المحرقة اليهودية التي تورط بها النازيون في الحرب العالمية الثانية، فهي تسدد الدَّين بالسكوت عن المحرقة الفلسطينية، وتورّد الأسلحة لإسرائيل عبر سنوات طويلة، و تدافع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها رغم كل الجرائم الوحشية بحق المدنيين، وترفض الموافقة على وقف إطلاق النار بحجة أن هذا قد يقوي الإرهاب، وتدعو مواطنيها ولاجئيها إلى الحذر، وهي تطلق رقابة شديدة عليهم، تكاد ترتقي إلى مرتبة محاكم التفتيش كما قال رئيس تحرير سابق  لمجلة “فكر وفن” الألمانية الشهيرة شتيفان فايندر في مقابلة معه على أحد المواقع أجراه الصحفي حميد لشهب.

ما معنى مؤتمر “COP 28” في ظل القتل المتواصل للمدنيين، وهل هذه الدول التي تشهد على القتل وتدعمه وفي أحسن الاحوال تصمت عنه، جديرة بالثقة، وهل علينا أن نصدق حرصها المزعوم في الدفاع عن كوكب الأرض وهي تورّد الصواريخ لقتل الأطفال، وتفشل في حل المشكلات العامة عبر التفاوض وعبر السياسة وعبر القانون الدولي الذي لا تفطن إليه إلا إذا كانت لها مصلحة في إحدى دول العالم الثالث أو في الصين أو في روسيا.

مؤسسات الأمم المتحدة أثبتت جدارة ورفعت الصوت عاليًا، ولعل صوت الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، كان من أجرأ الأصوات، بالإضافة إلى أصوات منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، لكن هذه المنظمات والمؤسسات انتزعت منها الدول القدرة على تنفيذ قراراتها، وجعلت الأمن العالمي بيد الدول الخمس الكبار التي استولت على العالم بعد الحرب العالمية الثانية بحجة أنها هي الضامن للسلم والأمن الدوليين، في حين أننا نجدها اليوم هي الضامن لاستمرار الحروب والتهجير والتنكيل بالبشر.

هذه المأساة عانينا ولا نزال نعاني منها نحن السوريين، فالدول الكبيرة لا تزال غير آبهة بالشعب السوري ولا بمصيره تحت القصف الروسي والإيراني، وتحت براميل وكيماوي نظام الأسد ومخابراته، ولا يزال حق “الفيتو” هو الذي يمنع حلًا سياسيًا يجنّب السوريين طول المعاناة، ولعل القصف اليوم ضد المدنيين في غزة استمرار للحرب ضد شعوب المنطقة وضد مطالبها بحق تقرير المصير والعيش بكرامة وحرية بعيدًا عن الهيمنة الغربية وعن هيمنة الدكتاتوريات المدعومة من الدول الكبرى.

انهيار الهدنة واستئناف الموت في غزة انهيار للثقة بهذا القانون الدولي وبكل الوعود السياسية الكاذبة، وانهيار للثقة بمختلف أنواع المؤتمرات والقمم التي لا تجلب للشعوب إلا المزيد من القتل واليأس، ولا تنتج إلا المزيد من التلوث الأخلاقي والبيئي الذي ينذر بتدمير كوكب الأرض.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي