عنب بلدي – ريم حمود
“أتحمل آلام إصابتي لإعالة أسرتي”، بنبرة هادئة وحزينة تحدثت ابتسام لعنب بلدي عن معاناتها في أثناء العمل متأثرة بإصابة في يدها اليسرى، تعرضت لها إثر قصف لقوات النظام السوري على مدينة داريا بريف دمشق قبل عشر سنوات.
ابتسام (58 عامًا) التي تنحدر من مدينة داريا في ريف دمشق الغربي، وتقيم في بلدة الفوعة شمالي إدلب، قالت لعنب بلدي، إنها أصيبت في يدها اليسرى منذ أكثر من عشر سنوات إثر صاروخ أطلقته قوات النظام السوري على مدينة داريا.
ولا تعد ابتسام الوحيدة ممن تجبرهم ظروفهم على العمل لإعالة أسرهم رغم الإصابة، إذ يوجد في شمالي سوريا 13% من الأطفال ذوي الإعاقة يعملون لنفس السبب، وفقًا لتقرير صادر عن “وحدة تنسيق الدعم” في تشرين الأول الماضي.
تسلط عنب بلدي في هذا التقرير الضوء على سوريين تركت الحرب آثارها على أجسادهم وألحقت بهم إعاقات وسط ظروف اقتصادية ومعيشية متردية، وأجهزت على فرص علاجهم شمال غربي سوريا.
عمل رغم الألم
يجبر السوريون ذوو الإعاقة على العمل بأعمال شاقة تؤدي إلى تفاقم إصاباتهم الجسدية القديمة التي تعرضوا خلال الثورة السورية التي بدأت في آذار 2011، وخاصة مع غياب الشخص المعيل البديل في عائلاتهم.
تعمل ابتسام (تحفظت على ذكر اسمها الكامل) في منزلها لتأمين مصروف عائلتها المكونة من أربعة أشخاص، ويقتصر عملها على صناعة الخبز الذي تبيعه لجيرانها ولأحد محال “الشاورما” في منطقة الفوعة بريف إدلب الشمالي حيث تقيم.
الكمية التي يطلبها محل “الشاورما” من ابتسام تختلف بين يوم وآخر، بينما توفر لعائلتها مبلغًا لا يتجاوز الـ100 دولار أمريكي شهريًا، وفي الحالات التي ينخفض البيع تحصل على مبلغ 50 دولارًا أمريكيًا، وفقًا لابتسام.
تعاني ابتسام في أثناء عملها من ألم شديد بمكان إصابتها وخاصة لاستمرارها بعملية مد العجين لأكثر من ساعتين دون توقف، ما يفاقم الإحساس بالتعب ومصدره العصب المصاب، كما أن الوجع لا يقتصر على العمل الصعب، بل يزداد في فصل الشتاء عند تعرض الإصابة للبرد، وفقًا لحديثها لعنب بلدي.
ولا يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة للشاب محمد زكريا غنوم، المصاب عدة مرات بأماكن مختلفة من جسده، ولكن أكبرها ضررًا كان في ساقه اليسرى عام 2015، إثر شظية خرجت من صاروخ “كونكورس” في أثناء معركة بين قوات النظام السوري وفصائل المعارضة في الغوطة الشرقية.
وفي شباط 2018، شنت قوات النظام المدعومة روسيًا هجومًا على الغوطة الشرقية، وانتهت الحملة بسقوط أكثر من 1500 مدني بين شهري شباط وآذار 2018، قبل أن تسيطر قوات النظام على المنطقة.
وعقب اتفاق بين قوات النظام السوري وفصائل المعارضة حينها، فرغت الغوطة الشرقية من جميع سكانها الناجين، منهم من حملتهم حافلات التهجير إلى الشمال السوري ومنهم من غيب في المعتقلات، أما القسم الأكبر فوصلوا إلى مراكز الإيواء في مناطق سيطرة النظام ليعود أغلبهم فيما بعد إلى أرض الغوطة مرة أخرى.
وبلغ إجمالي عدد المهجرين قسرًا من الغوطة الشرقية 78 ألف شخص، كما خرج أكثر من 80 ألف شخص من المنطقة في أثناء الحملة العسكرية من معابر فتحها النظام، وتم احتجازهم فيما يعرف بمراكز الإيواء، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).
محمد غنوم (37 عامًا) ينحدر من بلدة حمورية في ريف دمشق، متزوج ولديه طفلان، وأجبره عدم وجود شخص آخر لإعالة أسرته على العمل سائق سيارة أجرة (تاكسي)، ولكن الضغط في أثناء قيادة السيارة يتسبب بألم وانتفاخ بجرحه يوميًا، ويضطره لاستخدام أدوية لتخفيف الألم على قدمه التي قصرت بعد آخر عملية جراحية أجريت لها.
يواجه محمد صعوبات بالتأقلم مع وضعه الحالي والوجع اليومي، ولكن لا حل يخفف عنه الألم سوى ترك عمله الحالي الذي لا يوفر سوى مبلغ لا يصل إلى 100 دولار أمركي شهريًا، واللجوء إلى البيع على “البسطات” والعربات أمام المدرسة، بهدف تخفيف الضغط عن إصابته لعدم خسارة ساقه إثر الانتفاخ المستمر للإصابة التي تعوقه عن تركيب طرفه الاصطناعي لمدة تتراوح اليومين، وفقًا لحديثه.
فات الأوان.. المال يتحكم بالعلاج
الصعوبات التي تواجه مصابي الحرب لا تقتصر على التعرض للإصابة وخسارة أحد أعضاء الجسد حركته الطبيعية أو بتره وتغير شكله بالكامل، إذ يلحظ أن بعضهم ما زالت فرصة العلاج أمامهم متاحة مع غياب القدرة على تطبيقها، بينما تلاشت أمام الآخرين منهم لمضي وقت طويل على الإصابة.
بعد تعرض محمد للإصابة رفض بتر ساقة ولجأ إلى علاجها بعدة طرق، إحداها كانت استخراج الأطباء عظمة من خاصرته ومن قدمه السليمة لترميم العظم التالف مكان الشظية بساقه اليسرى، ما أدى إلى التهاب الجرح لعدم التوافق مع العظام السليمة، وفق قوله.
وأضاف محمد أنه أجبر على تغيير طبيبه لإجراء عملية تقصير الساق عوضًا عن البتر، ما سبب بتقصيرها نحو 13 سنتمترًا إثر استئصال العظام الملتهبة.
أفاد الشاب عنب بلدي أن جرحه لا يزال في مرحلة قابلة للعلاج بمبالغ كبيرة، وتحتاج عملية تركيب جهاز بالساق المصابة لحوالي 1500 دولار أمريكي، مهمته إطالة الساق شهريًا نحو سنتمتر واحد، وهذا ما يتطلب الاستلقاء لمدة تصل إلى عام ونصف للحصول على النتيجة المطلوبة، وفقًا لمعلومات حصل عليها الشاب من طبيبه.
قدرة الشاب المالية لا تتناسب مع تكاليف العملية وتبعاتها من تأمين مصروف العائلة والأدوية والأطعمة الصحية المناسبة لحالته الصحية لرفع احتمالية نجاحها، بحسب محمد الذي أبدى رغبته بتلقي العلاج.
أما ابتسام فقالت لعنب بلدي، إنها حاولت جاهدة البحث عن علاج ليدها المصابة لتكتشف ضرورة تلقيها العلاج للعصب في وقت أبكر وذلك بعد أقل من عام على الإصابة في أثناء إقامتها بمدينة داريا المحاصرة، إذ كانت حينها ظروفها المعيشية والطبية والإنسانية صعبة.
تلف العصب بشكل كلي لدى ابتسام يدل على خسارتها الفرصة الوحيدة التي كانت تبحث عنها للخضوع للعلاج عند تحسن ظروفها، ولكن غيابها يجبرها اليوم على التأقلم مع وجعها دون القدرة على تخفيفه إلا بأدوية مسكنة للألم، وفق ما قالته لعنب بلدي.
إحصائيات
أصدرت “وحدة تنسيق الدعم“ تقريرًا في تشرين الأول الماضي بشأن الإعاقة في شمالي سوريا ومدى انتشارها وتأثيرها على المجتمع، وبلغت نسبة العاطلين عن العمل من ذوي الإعاقة في المنطقة 82%.
وتشير الإحصائيات في التقرير إلى عمل 13% من الأطفال ذوي الإعاقة لإعالة أسرهم، مقابل 9% من الأطفال من غير ذوي الإعاقة الذين يعملون لإعالة عائلاتهم.
ويشير أحدث تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عام 2022 إلى أن 28% من السوريين هم من ذوي الإعاقة.
وفي تقرير للمكتب عام 2020، ذكر أن 36% من النازحين السوريين هم من ذوي الإعاقة، الذين ينحدرون من المناطق التي شهدت قصفًا مكثفًا من قوات النظام وحليفها الروسي، ويتوزعون في شمال شرقي وشمال غربي سوريا.
يوافق 3 من كانون الأول من كل عام اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، وحددت الأمم المتحدة هذا اليوم منذ عام 1992 لدعم ذوي الإعاقة، ويهدف إلى زيادة الفهم لقضايا الإعاقة وضمان حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، كما يدعو لزيادة الوعي بإدخال الأشخاص الذين لديهم إعاقات في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.
تبلغ نسبة الإعاقة في مناطق سيطرة النظام من عدد السكان 27%، وفي مناطق سيطرة “الحكومة السورية المؤقتة” 19%، وبمناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” 37%، وفي مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ” 28%، وفق تقرير صادر عن برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية بالأمم المتحدة في 2021.
ويعاني حوالي 1.5 مليون سوري من إعاقات مستديمة ناجمة عن الصراع، ومنهم 86 ألف شخص أفضت إصابتهم إلى بتر الأطراف بحسب تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في 2017.