محمد فنصة | خالد جرعتلي | براءة خطاب
لم تشفع آثارها الاقتصادية والصحية الخطيرة في الزمن القريب والمدى البعيد بأن تتصدر مشكلة البيئة المتدهورة أجندات سلطات الأمر الواقع في سوريا، لتظل الملف الأكثر تهميشًا على الرغم من خطورته وفداحة أضراره، وذلك بعد أكثر من عقد شهد وقوع ما يزيد على مليون قذيفة متفجرة خلال المعارك بين الأطراف المتحاربة.
بدأت جهود المنظمات والمؤسسات المهتمة بالشأن البيئي خلال السنوات الأخيرة بالكشف عبر دراسات عن حجم أضرار العمليات العسكرية في سوريا على بيئتها، لكن هذه الدراسات اقتصرت على مناطق جغرافية محددة غابت عنها الدقة أحيانًا، وهو ما يؤخر إيجاد حلول شاملة، والاقتصار على ممارسات بيئية إسعافية، وفق خبراء.
تسلط عنب بلدي الضوء في هذا الملف على آثار العمليات العسكرية المدمرة على البيئة السورية، وتبحث مع خبراء عن الحلول الواجبة والأثر القانوني الدولي بحق المتسببين بتلوث البيئة، بالتزامن مع مشاركة حكومة النظام السوري في قمة المناخ الأممية بالإمارات.
مليون قذيفة.. ثلثها يسمم الأرض
أصدر مركز “كارتر للأبحاث”، في نيسان 2022، تقريرًا يسلّط الضوء على ضرورة تخليص سوريا من الأسلحة الخطرة غير المنفجرة، حيث رجح المركز وجود أكثر من 300 ألف ذخيرة لم تنفجر في الأراضي السورية.
واستند التقرير إلى البيانات التي جُمعت من مواقع النزاع المسلح في جميع أنحاء سوريا بين كانون الأول 2012 وأيار 2021، واستقراء الكمية المحتملة من الذخائر غير المنفجرة بناء على تقارير حول عدد أنواع الأسلحة المختلفة التي استخدمت خلال مواجهات محددة.
وسجّل التقرير ما لا يقل عن 972 ألف استخدام للذخائر المنفجرة خلال 99 ألفًا و194 نزاعًا مسلحًا في فترة الدراسة المذكورة، وحوالي 62% من إجمالي الذخائر المنفجرة كانت ذخائر أرضية، بينما حوالي 37% كانت ذخائر مُطلقة من الجو.
وبحسب التقرير، فإنه خلال أي نزاع مسلح، لا ينفجر ما بين 10 و30% من الذخائر، وبعد تطبيق النسبة على البيانات ينتج أن ما بين 100 ألف و300 ألف من الذخائر لم تنفجر في سوريا.
الدكتور الأكاديمي في جامعة “الشام” بريف حلب، ميسر الحسن، والمشارك في دراسة صادرة في نيسان الماضي حول “العناصر السامة بالتربة في شمال غربي سوريا”، بدعم من معهد “جيمس هوتون” البريطاني، يرى أن من الصعب إحصاء عدد القذائف المنفجرة في سوريا بشكل علمي، بسبب تعدد أنواع وأحجام القذائف المستخدمة في سوريا.
وقال الحسن لعنب بلدي، إن علماء البيئة اتفقوا على أن التربة تتأثر بتسرب المواد الكيماوية من الذخائر (المنفجرة وغير المنفجرة)، فتقلل خصوبتها وصلاحيتها للزراعة، كما يمكن أن تتسبب الانفجارات أيضًا بتغيير نمط تدفق المياه وتلويثها، ما يضر بالنظام البيئي المائي وبالحياة البرية (النباتية والحيوانية).
وأشار الحسن إلى أن عددًا قليلًا جدًا من الأبحاث تناول تأثير الحروب على النظام البيئي، مرجعًا ذلك إلى “تعتيم الحكومات”، وذكر عدة أمثلة على ذلك، منها دراسات أجريت على تربة إيرانية ملوثة بالذخائر خلال الحرب الإيرانية-العراقية، إذ تسببت بارتفاع تركيز الرصاص والكروم إلى عشرة أضعاف المستوى الطبيعي.
ما آثار القذائف
تعددت المناطق السورية التي تعرضت للقصف بقذائف متفجرة، لكن دراسة آثارها على البيئة لم تشمل جميع المحافظات بسبب تقييد الجهات التي تسيطر عليها.
وتعد منطقة شمال غربي سوريا واحدة من أكثر المناطق التي تعرضت وما زالت تتعرض للقصف بعدة أنواع من القذائف المنفجرة، من قبل سلاح المدفعية والطيران الروسي والتابع لقوات النظام.
وخلصت الدراسة المسحية التي أجرتها جامعة “الشام” بالتعاون مع باحثين دوليين وبدعم من معهد “جيمس هوتون” البريطاني، بحيث غطت كامل مناطق شمال غربي سوريا، إلى وجود عناصر النيكل والكروم بمستويات تتجاوز العتبات التوجيهية الأوروبية النموذجية للتربة الزراعية، وإلى زيادة تركيز الكادميوم وأول أكسيد الكربون بثلاثة أضعاف التركيز الموثق في الأراضي التركية المجاورة.
وتجاوز تركيز الكادميوم والزنك والكوبالت أيضًا عتبات الخطر الأوروبية، وبحسب الدكتور في جامعة “الشام” المشارك بإعداد الدراسة ميسر الحسن، كان أشد التأثيرات المرتبطة بالاستخدام المباشر للذخائر هو ظهور ارتفاع واضح بتركيز النحاس والرصاص والزنك.
وعزا معدّو الدراسة التلوث بالنيكل والكروم إلى الزراعة المكثفة المروية بمياه الصرف الصحي مع استخدام جائر للأسمدة، ورجحوا أن يكون سبب زيادة تركيز بقية الملوثات هو النشاط السكاني الكثيف في المخيمات والمناطق الصناعية العشوائية.
أما عن آثار هذا التلوث واسع النطاق للموارد المائية في شمال غربي سوريا بتراكم عناصر سامة في التربة الزراعية، فقد يؤدي إلى أخطار محتملة على صحة الإنسان، بسبب انتقال الملوثات من التربة إلى النبات أو الهواء، ووصول مسببات الأمراض إلى الإنسان، بحسب الحسن.
الأسلحة الكيماوية.. آثار آنية وتشوهات مستقبلية
استخدمت أطراف الصراع في سوريا، وخصوصًا النظام السوري، مختلف أنواع الأسلحة في قصف المدن والبلدات، مثل البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية، كما استخدمت الصواريخ المحملة بغازات كيماوية سامة مثل “السارين” والكلور.
ولم يكن البشر فقط هم ضحايا هذه الأسلحة الخطيرة، بل امتدت آثارها لتطال الماء والهواء والتربة والحيوانات.
واستخدام النظام السوري الأسلحة المحملة بمواد كيماوية سامة في مناطق عدة، أبرزها الغوطة الشرقية، إذ تعرضت لقصف بغازات سامة في آب 2013، وفي 2018، وخان شيخون بريف إدلب في نيسان 2017.
الصحفي المتخصص بقضايا البيئة زاهر هاشم، قال لعنب بلدي، إن الأسلحة الكيماوية تترك تأثيرات طويلة الأمد على البيئة.
وأوضح أن النظام السوري استخدم غاز “السارين” والكلور بشكل أساسي كونها مركبات تتفكك بسرعة بالهواء بغية الإفلات من العقاب، لكن التأثيرات التي تتركها هذه الأسلحة عند إصابتها التربة والمياه والحياة البرية في الطبيعة، تتفاقم على مدى سنوات طويلة.
وتؤدي الأسلحة الكيماوية إلى تخريب التربة الزراعية وجعلها غير صالحة للزراعة، وهو ما يهدد سبل العيش في المناطق المنكوبة، كما ينتج عن تأثيرها خراب الغابات التي هي موطن أساسي لكثير من الأنواع النباتية والحيوانية، وخصوصًا تخريب الأشجار المثمرة التي تعد موردًا غذائيًا واقتصاديًا مهمًا للسكان.
“تعد الأسلحة الكيماوية أسلحة دمار شامل تؤثر بشكل مباشر على الإنسان، وتؤدي إلى الوفاة المباشرة أو الإصابة بالتهابات وسرطان الكبد، والتسمم العصبي وإجهاض الحوامل، كما أنها تفتك بالثروة الحيوانية والسمكية، وتسبب طفرات جينية لدى الإنسان والأنواع الحيوانية والنباتية، وتنتج عنها تشوهات ولادية”.
زاهر هاشم – صحفي متخصص بقضايا البيئة
لا يقتصر التلوث الكيماوي على الأسلحة الكيماوية، بل إن الأسلحة التقليدية والمواد المتفجرة تخلف وراءها عناصر كيماوية ومعادن مثل الرصاص والزئبق والنحاس و”النتروجليسرين” و”التنغستين”، تلوث التربة والمياه الجوفية والأنهار، وقد تصل هذه المواد السامة إلى جسم الإنسان من خلال السلسلة الغذائية، كما تهدد المحاصيل الزراعية والأشجار والغابات والأنواع الحيوانية، وفق هاشم.
يعد استخدام الأسلحة الكيماوية خلال النزاعات المسلحة “جريمة حرب”، وحُظر استخدام هذه الأسلحة بموجب “بروتوكول جنيف” لعام 1925، وبموجب اتفاقية “حظر الأسلحة الكيماوية” لعام 1997.
واستخدام الأسلحة السامة أو الغازات الخانقة هي جرائم تدخل في اختصاص “المحكمة الجنائية الدولية” (ICC)، لأنها تشكل انتهاكات خطيرة للقوانين والأعراف السارية في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
وقد عزّز مجلس الأمن الحظر الذي فرضته اتفاقية “حظر الأسلحة الكيماوية” بالقرار “1540” لعام 2004، والذي دعا جميع الدول إلى تبني تشريعات وطنية لمنع ومعاقبة الأفعال المحظورة بموجب هذه الاتفاقية.
سوريا.. ساحة تجارب روسية
تعد روسيا صاحبة النصيب الأكبر في استخدام وتجربة العديد من أنواع الأسلحة المدمرة في سوريا، إذ قال وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، في تموز 2021، إن “الجيش الروسي جرب أكثر من 320 نوعًا مختلفًا من السلاح خلال عملياته في سوريا”.
وأكد الوزير خلال تصريحاته الصحفية في شركة “روست فيرتول” الروسية لصناعة المروحيات، أن الأخيرة طوّرت إحدى مروحياتها نتيجة العمليات العسكرية في سوريا.
وقال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في نيسان 2020، إن الزيادة الحاصلة في تصدير الأسلحة الروسية إلى دول العالم، يقف وراءها الاختبار العملي لهذه الأسلحة في سوريا، رغم المنافسة الشديدة في هذا المجال.
كما أشار، في أيلول 2019، إلى أن روسيا تعمل على تحديث معداتها العسكرية بنسبة 70% خلال عام 2020، بعد التجارب في سوريا.
أستاذ العلوم الزراعية الأكاديمي عبد العزيز ديوب، قال لعنب بلدي، إن هناك عناصر تدخل في تصنيع البارود، الذي يعد العنصر الأساسي كوسيلة فاعلة في استخدام الأسلحة، أهمها الرصاص، ذو التأثير المتعدد، فعلى الإنسان يعد مادة سامة في الدم، وعلى التربة الزراعية عنصر ثقيل لا يذوب في الماء.
كما توجد عناصر فاعلة أخرى تدخل في تصنيع البارود ومعظمها ثقيل وغير قابل للذوبان، وفي الوقت نفسه يتحد مع عناصر خفيفة لتتشكل مواد سامة في التربة تجعلها غير صالحة للزراعة، وفق ديوب.
ديوب قال إن البيئة السورية “أشبعت” بهذه المواد السامة، بالإضافة إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، والنفايات النووية التي دفنت في ريف حمص، وريف تدمر، وسببت انتشارًا واسع الطيف للسرطانات في كل من حمص وحماة وأريافها.
وفي دراسة استقصائية عام 2021، للباحثة في مجال الاقتصاد ربا جعفر، رجحت أن يؤدي استخدام الأسلحة الكيماوية والمتفجرات التي تحتوي على عناصر من المعادن الثقيلة والوقود والمذيبات والمواد النشطة إلى تلوث المياه الجوفية والتربة، وإلى مشكلات بيئية خطيرة لمستقبل قطاع الزراعة في سوريا، الأمر الذي سيؤثر على الاقتصاد الذي لطالما اعتمد على الإنتاج الزراعي لسنوات.
كما سينتج عنها تفاقم أشكال أخرى من التداعيات البيئية المستقبلية، كالجفاف والعواصف الرملية وانخفاض نسبة هطول الأمطار، مشيرة إلى عواقب طويلة الأمد للاستخدام الكثيف للمتفجرات والأسلحة الكيماوية على البيئات الحضرية وغير الحضرية في سوريا وخارجها.
وقالت، “رغم أن البشر يحصون دائمًا خسائر الحروب بعدد القتلى والجرحى بين الجنود والمدنيين، تبقى البيئة، في كثير من الأحيان، ضحية غير معلنة للحروب”.
وثق تقرير صادر عن “مرصد استخدام القنابل العنقودية” التابع لـ”الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية”، في أيلول الماضي، ما لا يقل عن 4408 ضحايا (قتيل أو مصاب) بالذخائر العنقودية في سوريا منذ تموز 2012، كثاني أكثر دولة من حيث عدد الضحايا المسجلين بعد جمهورية لاوس، في حين بلغ عدد الضحايا عام 2022، 90 ضحية بالذخائر العنقودية.
وتطلق القنابل العنقودية من الجو أو من الأرض، في عبوة تحتوي على مئات القنابل الصغيرة التي تنتشر بشكل عشوائي في مناطق واسعة.
وتشكّل الذخائر العنقودية خطرًا وهي ذات أثر مستمر لأنها لا تستهدف هدفًا محددًا، وينفجر نحو 40% منها فورًا، في حين تشكّل القنابل التي لا تنفجر تهديدًا مستمرًا لحياة المدنيين، لا سيما الأطفال، وتأثيرًا مستقبليًا على البيئة.
الجمعية العامة للأمم المتحدة أعلنت بموجب قرارها “A/RES/56/4” الصادر في تشرين الثاني 2001، 6 من تشرين الثاني من كل عام بوصفه اليوم الدولي لمنع استخدام البيئة في الحروب والصراعات العسكرية.
مخلّفات الحرب.. خطر يمتد من البشر للبيئة
تعرّف “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” مخلّفات الحرب بأنها “الذخائر المتفجرة بجميع أشكالها وأنواعها، المتروكة أو غير المنفجرة التي تظل في منطقة معينة بعد انتهاء نزاع مسلح ما”.
وتضم هذه الذخائر قذائف المدفعية، والقنابل اليدوية، وقذائف الهاون، وأنواعًا أخرى من القذائف، يضاف إليها الصواريخ بمختلف أشكالها.
وتفرّق اللجنة الدولية بين “الذخائر غير المنفجرة” التي تعتبر “أشد مخلفات الحرب القابلة للانفجار خطورة”، وهي التي لم تنفجر على النحو الطبيعي بعد إطلاقها، لكنها قد تنفجر في حالات كثيرة عند “لمسها أو تحريكها”، وبين “الذخائر المتفجرة المتروكة” التي تركت في أثناء النزاعات بمواقع غير آمنة من دون حراسة.
تقرير “الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية” و”تحالف الذخائر العنقودية” المشترك السنوي الصادر في 14 من تشرين الثاني الماضي، أوضح أن سوريا سجلت وللعام الثالث على التوالي أكبر عدد من الضحايا للألغام ومخلفات الحرب القابلة للانفجار، حيث وثق التقرير 834 ضحية في عموم سوريا لعام 2022، بالرغم من بدء الحرب بين روسيا وأوكرانيا في هذا العام، التي جاءت في المرتبة الثانية بعدد الضحايا.
في محافظة درعا على سبيل المثال، هجر مزارعون أراضيهم الزراعية، نظرًا إلى تكرار حالات انفجار أجسام من مخلفات الحرب فيها.
بينما أحجم بعض العاملين في قطاع الزراعة عن ممارسة مهنتهم بسبب الأخطار التي تحيط بها، والتي تتجلى بالألغام والأجسام غير المنفجرة.
وفي 4 من نيسان الماضي، أصدرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” تقريرًا قالت فيه، إنها وثقت انتشار الألغام الأرضية ضمن مساحات واسعة في سوريا، أسفرت عن مقتل 3353 مدنيًا بينهم 889 طفلًا منذ عام 2011.
ووفقًا للتقرير، فإن النظام السوري استخدم الألغام قبل عام 2011، ولكن استخدامه لها تضاعف بعد الحراك الشعبي في آذار 2011، إذ زرع الألغام على طول الحدود مع لبنان وتركيا خلال بداية الحراك.
وأضاف التقرير أن العديد من أطراف النزاع والقوى المسيطرة استخدمت الألغام الأرضية المضادة للأفراد، لكن مخلفات الحرب كالذخائر العنقودية سجل استخدامها من قبل جهتين فقط هما النظام السوري والقوات الروسية
وفي ورقة بحثية قدمتها الدكتورة سارة نيجيري لمستشاري الأمم المتحدة في مجال مكافحة الألغام، حلّ انتشار الألغام في المناطق الزراعية كمسبب لاستمرار العنف، وضعف المجتمعات نتيجة ضعف الأمن الغذائي الذي ينتج عن التلوث البيئي، وصعوبة مزاولة الزراعة.
أنقاض تُسرب السموم
قاضي المحكمة الجنائية الدولية السابق هوارد موريسون، نشرت له منظمة “Temple Garden Chambers” البيئية البريطانية تقريرًا في 8 من تشرين الثاني الماضي، حول مسؤولية النظام السوري عن الأضرار البيئية في سوريا، وذلك على خلفية دعوة الأسد للمشاركة في قمة المناخ “COP 28”.
وذكر التقرير أن النظام السوري مسؤول عن “الدمار الشامل والأضرار التي لحقت بالبيئة”، من خلال هجمات النظام وحملات القصف التي استمرت لسنوات.
وأشار التقرير إلى دراسة أجراها البنك الدولي عام 2017، وبينت أن ما بين 14.9 و5.3 مليون طن من الحطام قد تراكمت في مدينتي حلب وحمص على التوالي بسبب العمليات العسكرية حتى ذلك العام.
وتحتاج إزالة الأنقاض في حلب إلى ست سنوات من العمل المتواصل و26 مليون كيلومتر بالشاحنة (وحدة قياس للمسافة التي تقطعها الشاحنات لإنجاز المهمة)، كما سيستغرق قرابة سنتين ونصف و2.3 مليون كيلومتر بالشاحنة في حمص، في حين رجح التقرير أن تكون هذه الأرقام قد زادت منذ ذلك الحين.
وبحسب التقرير، فإن وجود مثل هذه الكمية من الحطام يشكل خطرًا على البيئة والصحة العامة، إذ يمكن أن يحتوي على عدد من المواد الخطرة، مثل الذخائر غير المنفجرة، و”الأسبستوس” (معدن مسرطن)، والأسمنت، والمعادن الثقيلة، والمواد الكيماوية المنزلية، ومواد قابلة للاحتراق، كما أن إزالته ستنتج عنها أضرار بيئية مثل الغبار وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وفاقمت العمليات العسكرية المشكلات المتعلقة بإمدادات المياه والصرف الصحي في سوريا، وهو ما يزيد من أخطار تلوث البيئة بالمياه الملوثة والصرف الصحي، وذكرت منظمة الصحة العالمية في عام 2015، أن البنية التحتية لإمدادات المياه في سوريا قد تضررت وأصبح توفر المياه الصالحة للشرب داخل سوريا عند ثلث مستويات ما قبل 2011.
وفي عام 2017، قيّم البنك الدولي الأضرار المادية التي لحقت بـ457 مركزًا من البنية التحتية لإمدادات المياه والصرف الصحي في ثماني محافظات، ووجد أن نحو ثلثي محطات معالجة المياه، ونصف محطات الضخ، وثلث أبراج المياه، وربع محطات معالجة مياه الصرف الصحي، وسدس الآبار قد تدمرت أو تضررت جزئيًا في جميع أنحاء سوريا.
حلول تحتاج إلى عشرات السنوات
تحتاج التربة الزراعية التي تأثرت بالبارود إلى عدة سنوات لإعادة تأهيلها من أجل استثمارها، وذلك تبعًا للأثر المتبقي في التربة، فكلما كان أكثر احتاجت التربة إلى وقت قد يصل إلى 25 سنة، والأهم في علاجها تعريضها لأشعة الشمس وزراعتها بالبقوليات دون أكلها، كونها سامة، بحسب حديث أستاذ العلوم الزراعية عبد العزيز ديوب.
يجب أن تشكل معالجة التربة وتخفيف الأخطار على صحة الإنسان في شمال غربي سوريا جزءًا من أعمال الإغاثة الإنسانية العاجلة على المدى القصير، ومن جهود الإنعاش الاقتصادي والبيئي على المدى الطويل، وفق توصيات الأكاديمي في جامعة “الشام” ميسر الحسن.
“من أجل تخفيف آثار التلوث على المدى القصير، يجب على المنظمات غير الحكومية التي تعمل مع المزارعين أن تعطي الأولوية لإجراء مسح إقليمي منهجي يرصد استخدام مياه الصرف الصحي لأغراض الري، ونشر بيانات جودة التربة ومياه الآبار والأنهار المستخدمة في الري، وتنفيذ برنامج مستقل لأخذ عينات من التربة بشكل دوري، وتحليلها لتقييم أخطار تلوث التربة بالكادميوم والكوبالت والزئبق بشكل خاص، ثم إجراء دراسات حول امتصاص المحاصيل الرئيسة في المنطقة للعناصر السامة من التربة والغبار ورواسب الدخان الناتجة عن الحرائق”.
ميسر الحسن – دكتور في جامعة “الشام” بريف حلب
ودعا الحسن إلى الاستثمار الإقليمي في الهندسة الزراعية والبيئية من أجل فهم أفضل لأخطار التلوث على صحة السكان، وتطوير بروتوكول متسق لأخذ العينات وتحليلها عبر مشاريع المنظمات المهتمة بالبيئة والزراعة، مع التركيز على مناطق القصف الكثيف والمساحات الملوثة بزيوت “الحراقات” ومخلفات الصناعة.
كما دعا إلى توعية أصحاب المصلحة بخطورة الملوثات الناتجة عن الذخائر التي قصفت بها المنطقة والتي قد تستمر “لقرون مقبلة”، وضرورة تركيز الجهود على معالجة التربة الملوثة بها، باستخدام طرق مستدامة ومنخفضة التكلفة كاستخدام الفحم الحيوي والمعالجة النباتية.
ويجب العمل على تطوير أصناف محاصيل مقاومة للتلوث ولتغيرات المناخ، مع استخدام الري الجزئي والتقطير الشمسي وغيرهما لإدارة جودة المياه، وتقليل الطلب على المياه الملوثة، وفق الأكاديمي السوري.
أوضح الحسن أن مثل هذه الخطوات تتجاوز إمكانيات المنظمات العاملة في الشمال السوري حاليًا، وتتطلب إمكانيات دولة منظمة، تعمل بشكل مديد، لكن يمكن حاليًا إجراء الإسعافات السريعة للتربة للتخفيف من الآثار القاتلة للتلوث.
حكومة النظام في “قمة المناخ”.. ما الأهداف
ترويج حكومي
قبل حلول موعد قمة المناخ (COP 28) بدبي، بمشاركة قادة العالم في 1 و2 من كانون الأول الحالي، بدأت حكومة النظام السوري المدعوة للقمة بنشاطات تروج لاهتمامها بالبيئة في سوريا، وتحميل مسؤولية تدهورها لأطراف أخرى.
غياب رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عن القمة، رغم تلقيه دعوة إماراتية في 15 من أيار الماضي، عزته صحيفة “نيزافيسيمايا” الروسية إلى خوف الأسد من السفر إلى الإمارات.
واعتبرت الصحيفة خلال تقرير لها، في 28 من تشرين الثاني الماضي، أن غياب الأسد يرتبط بحقيقة أن السلطات الفرنسية أصدرت مذكرة بحقه، وهناك اتفاق ساري المفعول بين باريس وأبو ظبي لتسليم المجرمين، ومن شأن مشاركة الأسد أن تشكل تحديًا لالتزام أبو ظبي بمثل هذه الترتيبات.
ودعا “التحالف الأمريكي لأجل سوريا” (ACS)، في 28 من تشرين الثاني الماضي، فرنسا لتقديم طلب تسليم الأسد في حال حضوره القمة.
ونشر “التحالف” بيانًا طالب فيه فرنسا بتوجيه طلب الاعتقال لدولة الإمارات.
وصل رئيس حكومة النظام السوري، حسين عرنوس، في 30 من تشرين الثاني الماضي، إلى الإمارات لرئاسة الوفد المشارك في مؤتمر المناخ.
ونقلت وكالة “رويترز” عن رئيس دائرة الموارد الطبيعية في وزارة الزراعة بحكومة النظام، منهل الزعبي، والمشارك في الوفد، قوله إن عرنوس سيركز خلال مشاركته في القمة على “حشد التمويل لمشاريع المناخ في سوريا”، مضيفًا، “هدفنا الأساسي جذب المشاريع والتمويل لتنفيذ أنشطة مهمة للتكيف مع المناخ في سوريا”.
وفي 22 من تشرين الثاني الماضي، أقامت حكومة النظام ورشة عمل حول تقرير حالة البيئة في سوريا، قال فيها عرنوس، إن “الإرهاب المدعوم من قوى الشر في العالم أثر بشكل مباشر في مقدرات الوطن، ولم تسلم البيئة بكل مكوناتها من هذا الشر”، مشيرًا إلى أن “العقوبات والإجراءات القسرية الأحادية الجانب” أدت إلى زيادة هذه المشكلات، وإعاقة التعافي في مختلف المجالات التي تمس البيئة والإنسان.
من جهته، ركز وزير الإدارة المحلية والبيئة، حسين مخلوف، في كلمته على الآثار البيئية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بشمال شرقي سوريا، بما يشمل مواقع التكرير البدائي للنفط.
توجه حكومة النظام بضم وزارة الدولة لشؤون البيئة عام 2016 إلى وزارة الإدارة المحلية، يشير إلى تهميش دور هذه الوزارة، وضعف نشاطها.
وتبعد حكومة النظام عن نفسها مسؤولية حماية البيئة وآثار التغير المناخي في سوريا، وتحمله إلى المجتمع الدولي والدول المتقدمة، وهو ما أظهرته كلمة وفد حكومة النظام المشارك بقمة المناخ عام 2021 في اسكتلندا، التي جاء فيها، “إن على الدول المتقدمة بوصفها المسؤول الأول عن ظاهرة تغير المناخ، أن تفي بالتزاماتها القانونية والإنسانية تجاه الدول النامية، من خلال تقديم الدعم الفني والمالي لتطبيق سياسات التكيف، وبناء القدرات”.
وأضافت أن “سوريا تحتاج في المرحلة المقبلة إلى حشد دعم المجتمع الدولي، لتجاوز الآثار المدمرة للبيئة والمناخ التي خلفتها الحرب العدوانية عليها”.
تجريم غير مباشر بالقانون الدولي
بالرغم من تأثير العمليات العسكرية خلال العقد الماضي على البيئة في سوريا، لا يتطرق الحديث في المؤسسات الدولية والدول الغربية عن محاسبة الأطراف المتصارعة على الانتهاكات، فيما يخص تأثير العمليات العسكرية على البيئة، بل يُدعى أحد أكبر الأطراف (رئيس النظام السوري) مساهمة بالانتهاكات وفق تقارير منظمات بيئية للمشاركة بقمة المناخ.
الدكتور في القانون الدولي وسام الدين العكلة، أوضح لعنب بلدي أن التسبب في ضرر واسع النطاق أو تدمير النظم البيئية، أو إلحاق الضرر بصحة وسلامة الأنواع بما فيها البشر، يعتبر انتهاكًا لمبادئ العدالة البيئية، لكنه استدرك قائلًا، إن الإضرار بالبيئة أو الإبادة البيئية خلال الحرب، أو ما يعرف بـ”Ecocide”، لم يدرج حتى الآن كجريمة دولية من قبل الأمم المتحدة.
وأشار العكلة إلى وجود العديد من المحاولات الدولية خلال السنوات الأخيرة لتضمين الـ”Ecocide” في ميثاق “روما” الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واعتماد تعريف موحد لهذه الجريمة.
وورد الإضرار بالبيئة باعتباره “جريمة حرب” بشكل عرضي في المادة الثامنة من ميثاق “روما” الأساسي، التي تعتبر الانتهاك جريمة حرب في حال “شن هجوم متعمد مع العلم أن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح (…) وإحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية”.
ويشمل الإضرار بالبيئة استخدام الأسلحة الثقيلة والمتفجرات، وتدمير الغابات وفقدان التنوع البيولوجي، إضافة إلى انتشار النفايات الصلبة ومخلفات الأسلحة والألغام، وفق القانوني السوري.
“يمكن محاسبة الجهات التي تسببت بأضرار للبيئة كجريمة حرب، في سياق شامل يتضمن المحاسبة على استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا كالغازات السامة وغيرها من الأسلحة الكيماوية أو أسلحة الدمار الشامل”.
وسام الدين العكلة – دكتور في القانون الدولي
الكاتب الصحفي في مجال البيئة زكي دروبي، قال لعنب بلدي، إن الحرب التي أطلقها النظام السوري دمرت معظم الأنظمة البيئية في سوريا تقريبًا، كما لوّثت التربة والبنية التحتية البيئية.
ويرى أنه لا يمكن معالجة الضرر بمعزل عن إيقاف الحرب التي تزيد يومًا بعد آخر الضغط على الأنظمة البيئية في سوريا، فكيف ستعالج الأضرار وفي كل ساعة هناك قصف جديد يسبب دمارًا وضغطًا أكبر على الأنظمة البيئية ويلوثها أكثر فأكثر.
وحمّل دروبي النظام السوري مسؤولية الضرر الذي لحق بالبيئة السورية، مشيرًا إلى أنه ليس مهتمًا سوى ببقائه في السلطة، واستمرار حالة الفساد في البلد.
ثمة قواعد وتوصيات متعلقة بحماية البيئة خلال النزاعات المسلحة في إطار القانون الدولي الإنساني، لأن أضرارها واسعة الانتشار وطويلة الأمد، وتمتد آثارها السلبية لأجيال متلاحقة، ومع تغير المناخ، تزداد الروابط بينها وبين زيادة معدل الهجرة واللجوء والفقر واستمرار النزاعات أو نشوبها.
ونددت عدة منظمات حقوقية وبيئية بدعوة الأسد لقمة المناخ، منها منظمة “Temple Garden Chambers” البيئية البريطانية، التي أوصت بعدم دعوة الأسد لـ”COP 28″ في الإمارات، كونه وحكومته مسؤولين عن “كارثة بيئية وإنسانية واضحة ومستمرة في سوريا”.
وكانت منظمة “الحملة السورية” (The Syria Campaign) أطلقت عريضة تطلب من الإمارات المضيفة إلغاء دعوة رئيس النظام السوري لحضور الدورة الـ28 لمؤتمر “القمة العالمية للعمل المناخي”، ما يمنحه “الفرصة المثالية لتبييض جرائمه ضد الإنسانية في أول مؤتمر دولي له منذ عام 2011”.
وسبق أن انتقدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية دعوة الأسد لحضور “قمة المناخ”، واصفة ذلك بأنه “أمر مشين” أن يستغل مؤتمر يهدف إلى تحفيز العمل المناخي الطموح لإعادة حكومة النظام إلى الساحة الدولية، دون أي محاولة لضمان المساءلة عن انتهاكاتها الكبيرة.