إدلب – شمس الدين مطعون
تحرص السيدة نور الكشح، مهجرة من ريف دمشق وتقيم في بلدة الفوعة، على جمع بقايا الأواني البلاستيكية التالفة والأحذية والملابس المهترئة في صندوق بإحدى زوايا منزلها على مدار العام، لتستعملها للتدفئة في الشتاء، متجاهلة أخطارها على الجهاز التنفسي.
وقالت السيدة لعنب بلدي، إنها تسعى جاهدة لتنظيف المدفأة وتوصيلاتها (البواري) بشكل دوري، لتلافي انغلاقها جراء الدخان الكثيف الذي يطلقه احتراق هذه المواد، وللتقليل من انبعاث رائحتها وأدخنتها التي تتسبب بالتهابات تنفسية شديدة لأطفالها في كل عام.
يدفع ارتفاع أسعار وسائل التدفئة التقليدية الأهالي شمال غربي سوريا إلى البحث عن حلول بديلة خلال فصل الشتاء تلائم الوضع المعيشي المتردي، في وقت يصل فيه سعر ليتر المازوت (مستورد) إلى 33 ليرة تركية (1.2 دولار أمريكي).
ويُستخدم البلاستيك (النايلون) والأحذية والملابس البالية كوقود لكثير من المدافئ في إدلب وأريافها، رغم أنها تصنف مواد خطرة عند اشتعالها، وتسبب أمراضًا كثيرة.
من جانبه، معاذ وهو عامل بناء من سكان كفر جالس غربي إدلب، يجمع أكياس الأسمنت الورقية الفارغة صيفًا، وبقايا أحذية مهترئة، وعلبًا بلاستيكية يصادفها في أثناء عمله، ويغمر الأكياس بالماء لفترة، ثم يجففها لتصبح صلبة ما يجعلها تحترق بشكل أبطأ، وهي الوسيلة التي يعتمد عليها لتدفئة أفراد عائلته.
بينما يشتري محمد صافي، وهو مهجر من ريف حماة ويقيم في بلدة الفوعة، الأحذية والحقائب وملابس “البالة” التي لا تجد من يشتريها للاستعمال بسبب اهترائها وعدم قابليتها للبس، وتباع بالكيلو ويتراوح بين 0.15 و0.50 دولار أمريكي (كل دولار 29 ليرة تركية).
وقال محمد لعنب بلدي، إن احتراق هذه المواد يعطي حرارة أكبر، ويمكن استغلالها بالطبخ وتسخين المياه، لافتًا إلى عدم قدرته على شراء أصناف أخرى للتدفئة، فكل ما يتقاضاه أجرة نهار عمل لا يتجاوز خمسة دولارات أمريكية.
رغم تنوع وسائل التدفئة وتوفرها في أسواق محافظة إدلب، فإن خيارات الأهالي دائمًا ما تكون محدودة، نظرًا إلى الظروف الاقتصادية والمعيشية المتردية.
ومع بدء فصل الشتاء، تختلف جودة وسائل ومواد التدفئة، لكنها تشترك بارتفاع أسعارها، ما يجبر السكان على البحث عن وسائل بديلة أقل تكلفة رغم أخطارها الكثيرة، وما تسببه من أمراض، وأضرار للممتلكات إثر الحرائق الناتجة عنها.
كما تختلف الوسائل المستخدمة باختلاف مكان السكن في المدن والبلدات والقرى، أو مخيمات النازحين، إذ تضم مناطق شمال غربي سوريا 4.5 مليون إنسان، منهم 4.1 مليون بحاجة إلى مساعدة، و3.3 مليون منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي، 2.9 مليون منهم نازحون داخليًا، ومليونان منهم يعيشون في المخيمات.
الكهرباء خيار غالٍ
تعد الكهرباء من خيارات السكان للحصول على التدفئة، بعد أن أصبحت متوفرة على مدار الساعة في معظم المدن والبلدات، إضافة إلى توفر المدافئ الخاصة بها.
وتبدأ أسعار المدافئ الكهربائية من عشرة إلى 200 دولار أمريكي، بحسب مهاب الشيخ، وهو صاحب محل لبيع الأدوات الكهربائية في إدلب.
وأوضح مهاب لعنب بلدي، أن اختيار المدفأة يعتمد على مصروفها من الكهرباء، لذلك تحاول المحال توفير مدافئ ذات استطاعة أقل، لافتًا إلى أن انخفاض التكلفة ينعكس على أداء المدفأة، إذ لا يمكنها أن تعطي حرارة كافية في أيام البرد الشديد.
ويبلغ سعر كيلوواط الكهرباء 0.16 دولار أمريكي (16 سنتًا)، وتستهلك المدفأة العادية كيلوواطًا واحدًا لتشغيل كل شمعة فيها لمدة ساعة واحدة.
طن الحطب حسب جفافه
يعتبر الحطب إحدى الطرق التقليدية التي يلجأ إليها الأهالي للحصول على التدفئة خلال فصل الشتاء.
“أبو العبد الباشا”، تاجر حطب في مدينة بنش شرقي إدلب قال لعنب بلدي، إن أسعار الحطب لهذا العام تشهد ارتفاعًا كبيرًا، وخاصة حطب أشجار الزيتون، وذلك لقلته في الأسواق، ويتراوح سعر الطن اليابس (مجفف قبل أشهر) بين 180 و215 دولارًا أمريكيًا، أما الناشف فيباع بـ175 دولارًا، والأخضر (الرطب) بـ140 دولارًا للطن الواحد.
وأوضح التاجر أن الارتفاع شمل أيضًا أصناف الحطب الأخرى كالسنديان والمشمش والصنوبر والرمان وغيرها، ولا يقل سعر الطن الواحد عن 150 دولارًا أمريكيًا، لافتًا إلى أن الأسعار ربما تشهد انخفاضًا بعد فترة “التشحيل” (قص أغصان الأشجار)، ما سيوفر كميات جديدة في السوق.
أرخص طن قشور بـ170 دولارًا
خلال السنوات الماضية، دخلت القشور كإحدى وسائل التدفئة، ولاقت رواجًا كبيرًا، وانتشرت مهن تصنيع مدافئ مخصصة لها لتسهيل عملية احتراقها، إلا أنها باتت خيارًا صعبًا، وفق ما قاله التاجر جميل الرزوق.
وتسجل أسعار القشور، وفق جميل، ارتفاعًا لهذا العام، إذ يتراوح سعر طن قشر الفستق الحلبي بين 200 و235 دولارًا أمريكيًا، وقشر المشمش بين 200 و225 دولارًا، وقشر البندق من 170 إلى 180 دولارًا، وقشر الجوز 190 دولارًا، ويحصل التجار على هذه المواد عن طريق الاستيراد.
“بيرين” وفحم حجري
يبلغ سعر طن “البيرين” 175 دولارًا، وهي مادة قابلة للاشتعال، مصنوعة من بقايا الزيتون بعد عصره لاستخلاص زيت الزيتون منه.
وترتفع أسعار “البيرين” في حال كان مخزنًا، لأن ذلك يساعد على الاشتعال بشكل أسرع، أما فحم بقايا “حراقات” الفيول المقطّع للاستعمال مباشرة فسجل سعر الطن منه 185 دولارًا.
ويتراوح سعر طن الفحم الحجري بين 130 و150 دولارًا، ويرجع انخفاض سعره لأنه يوزع من قبل المنظمات الإنسانية، ويعتمد عليه الأهالي بشكل أقل من بقية المواد، إضافة إلى أن الفحم بشكل عام صعب الاشتعال وذو رائحة كريهة، ويحتاج إلى مدافئ خاصة ومداخن واسعة، إلا أنه أيضًا يؤمّن تدفئة جيدة.
أخطار صحية
تتسبب وسائل التدفئة البديلة بأخطار كبيرة أقلها تأخير شفاء الأمراض كنزلات البرد وحدوث الربو والحساسية، إضافة إلى ظهور حالات من الوهن والتعب وصولًا إلى الاختناق، وفق طبيب الصدرية أحمد الحسن.
وفي حديث لعنب بلدي قال الطبيب، إن ﺍﻟﻀﺮﺭ في ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﺘﺪﻓﺌﺔ لا ينحصر ﺑﺨﻄﺮ ﺍﺷﺘﻌﺎﻟﻬﺎ ﻓﻘﻂ، ﺑﻞ ﻳﺘﻌﺪﺍه إلى الإصابة بأمراض صدرية نتيجة ﺍﻟﺮﻭﺍﺋﺢ ﻭﺍﻷﺩﺧﻨﺔ ﺍﻟﻤﻨﺒﻌﺜﺔ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ، ﻓﻤﺜًﻼ يلاحظ أن بعض أنواع ﺍﻟﻮﻗﻮﺩ ﺍﻟﻤﺴﺘﻌﻤﻞ ﻳﻄﻠﻖ ﺭﺍﺋﺤﺔ ﻛﺮﻳﻬﺔ ﺗﺴﺒﺐ ﺣﺴﺎﺳﻴﺔ ﻟﺪﻯ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﺷﺨﺎﺹ، ﻭﺨﺎﺻﺔ ﻣﻦ ﻳﻌﺎﻧﻮﻥ ﺣﺴﺎﺳﻴﺔ ﺗﺠﺎﻩ ﺍﻟﺮﻭﺍﺋﺢ.
وأوضح الطبيب أن حالات من الاختناق الجماعي والالتهابات الصدرية كانت تراجع عيادته بشكل يومي خلال فصل الشتاء الماضي، بسبب استنشاقها غاز أول أكسيد الكربون الذي ينجم عن احتراق مواد التدفئة.
وأضاف أن احتراق هذه المواد يصدر غازات ضارة أخرى كأكسيد الكبريت والآزوت، وهي من أسباب الإصابة بمرض الربو، كذلك تسبب تهيجًا في الأغشية المخاطية والتنفسية، وتؤثر على صحة العين، وتضعف مقاومة الجسم للأمراض المعدية والفيروسية، كما تطلق عملية الاحتراق تلك مركبات الهيدروكربون مثل غاز الميتان والإيتان، وهي من الغازات المسببة لمرض السرطان.
وأشار الطبيب إلى أن الإجراءات اللازمة لتلافي تلك الأخطار هي التوعية الصحية للأهالي، ومحاولة تأمين مصادر الطاقة الأقل خطورة، إضافة إلى تأمين مواد أكثر سلامة ولا تنبعث منها روائح مؤذية.
ويحذر خبراء من أن الخطر الأكبر لاستخدام المواد البديلة للتدفئة هو استخدامها في مكان مغلق، الأمر الذي قد يسبب الاختناق نتيجة نقص الأكسجين، موصين بعدم استعمال هذه المواد داخل الأماكن المغلقة التي تفتقر للتهوية.
وفي عام 2022، قال “الدفاع المدني السوري“، إن فرقه استجابت لـ1929 حريقًا شمال غربي سوريا، كان منها 593 حريقًا في منازل المدنيين، و185 حريقًا في المخيمات، فيما بلغت حصيلة ضحايا الحرائق خلال العام ذاته 21 حالة وفاة، بينها تسعة أطفال وامرأة، و94 حالة إصابة بينها 36 طفلًا و22 امرأة.