ما أسباب تجنب الصدام المباشر بين أمريكا وإيران
أكثر من 50 يومًا مرت على عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها “حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) ضد الاحتلال الإسرائيلي، حملت معها توقعًا بنشوب حرب “قد تغير وجه المنطقة”، بحسب ما جاء على لسان رئيس الوزار الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في وقت سابق.
ومع مرور الوقت، تغلغل الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، مخلفًا آلاف القتلى من المدنيين، وسخنت الجبهة الإسرائيلية الشمالية مع “حزب الله” اللبناني بشكل محدود، واستمر القصف المتواتر للقواعد الأمريكية في سوريا والعراق، لكن لم يطرأ تغيير جذري على مجريات الأحداث.
وبينما لا يزال وكلاء إيران في سوريا والعراق يحاولون ربط استهدافاتهم المتكررة للقواعد الأمريكية بأحداث غزة، ترى واشنطن أن هذه الاستهدافات امتداد لطموح قديم، يهدف لدفع الأمريكيين خارج جغرافيا البلدين.
ولا يزال طرفا التوتر الحاصل (إيران وأمريكا) محافظين على استراتيجية عدم الصدام، إذ تتنصل طهران من الهجمات، وتصر واشنطن على أن الأخيرة مسؤولة عنها، لكنها لم تتخذ إجراء مباشرًا ضد إيران، واقتصرت ردودها على ميليشيات موالية لطهران بسوريا والعراق.
طموح قديم
قال السكرتير الصحفي لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) العميد بات رايدر إن وكلاء إيران يستغلون “الحرب” الدائرة في غزة لدفع أمريكا نحو الانسحاب من سوريا والعراق.
وأضاف في مؤتمر صحفي مسجل، نشره “البنتاجون” مساء الاثنين 27 من تشرين الثاني، أن “وكلاء إيرانيين يحاولون الاستفادة من الحرب في غزة لتحقيق أهدافهم الخاصة”.
وفي حالة العراق وسوريا، تطمح هذه الجماعات منذ فترة طويلة لرؤية القوات الأمريكية تغادر، بحسب رايدر، مشيرًا إلى أن وجود قوات بلاده في العراق جاء بدعوة من الحكومة العراقية، ويركز فقط على هزيمة تنظيم “الدولة”، دون الإشارة إلى مبررات انتشارها في سوريا.
رايدر اعتبر أن الحرب الدائرة في فلسطين تم احتواءها، لكن وكلاء إيران مستمرون بمحاولات استغلال الموقف.
وأشار إلى أن أحدث هجوم لوكلاء إيران على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق كان في 23 من تشرين الثاني الحالي، تزامنًا مع الهدنة التي سرت في فلسطين بغرض استبدال الرهائن.
وفي صباح الجمعة 24 من تشرين الثاني، دخلت الهدنة بين “حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) والاحتلال الإسرائيلي، حيز التطبيق، وتستمر لأربعة أيام، يجري خلالها تبادل محدود للأسرى بين الجانبين، وأعلن عن تمديدها ليومين إضافيين، اليوم الثلاثاء.
ولم تعلن الميليشيات المرتبطة بإيران عن قصف قواعد أمريكية في سوريا والعراق منذ بدء تنفيذ اتفاق الهدنة في قطاع غزة المحاصر في فلسطين، كما غابت الإعلانات الأمريكية عن تعرض قواعدها لهجمات تكررت بشكل مكثف على مدار أكثر من شهر.
إذا احتجنا إلى تنفيذ ضربات إضافية، فسوف نستمر في تقليص قدرة (الحرس الثوري) في العراق وسوريا لحماية قواتنا ومهمتنا التي تتمثل في هزيمة تنظيم (الدولة الإسلامية). السكرتير الصحفي للبنتاجون، العميد بات رايدر. |
78 هجومًا لوكلاء إيران
في 25 من تشرين الثاني الحالي، نشرت “المقاومة الإسلامية في العراق” إحصائية لهجماتها التي طالت قواعد أمريكية في سوريا والعراق وأخرى استهدفت الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقالت إنها نفذت 39 هجومًا على قواعد أمريكية في العراق، وحول تفاصيل الهجمات قالت إن 22 منها استهدفت قاعدة “عين الأسد” الجوية في العراق، و10 هجمات على القاعدة الأمريكية بـ”مطار أربيل”، وتسع هجمات على قاعدة “حرير” شمالي العراق، وهو ما يزيد بهجومين على إجمالي الهجمات التي أعلنت عنها في العراق.
وأضافت أنها نفذت في سوريا 36 هجومًا توزعت على قاعدة “رميلان”، وقاعدة “المالكية”، وقاعدة “خراب الجير”، وقاعدة “تل بيدر” وقاعدة “الشدادي” شرقي الحسكة.
وفي دير الزور قالت إنها هاجمت قاعدة “القرية الخضراء” وقاعدة “حقل كونيكو” وقاعدة “حقل العمر” شرقي المحافظة، إضافة إلى هجمات على قاعدة “التنف” وقاعدة “الركبان” شرقي حمص.
بيئة إيران الاستراتيجية
في دراسة صدرت في كانون الأول 2020، حملت عنوان “مجموعات الوكلاء الإيرانيين في العراق وسوريا واليمن: تحليل مقارن بين الوكيل الرئيسي” نشرته وكالة نظم المعلومات الدفاعية الأمريكية، وهي هيئة حكومية، طرحت من خلاله إجابات لتساؤلات حول البيئة الاستراتجية لإيران، وحرب الوكلاء التي أطلقتها ضد الولايات المتحدة منذ سنوات.
وذكرت الدراسة التي جاءت في 154 صفحة، في فصلها الأول أن جميع العمليات الهجومية الإيرانية ضد المصالح الأمريكية تقريبًا، تنفذها طهران بالتعاون مع وكيل مدعوم من قبلها، تساعده من خلال توفير المعدات والتدريب، تجنبًا للانخراط في صراع مع أعدائها.
وحول أهداف إيران قالت الدراسة، إن طهران تستخدم نهجًا ثوريًا في سياستها الخارجية التي تهدف لتحسين وضعها في الشرق الأوسط، والنظام الدولي على نطاق أوسع.
وأضافت أن أهداف سياسة طهران الخارجية المعلنة متعددة الجوانب، لكن يمكن ترتيبها في أربع فئات عريضة، هي تصدير الثورة الإيرانية، وبسط النفوذ الاقتصادي والسياسي على المنطقة، وحماية أتباع “النظام الشيعي”، وتعزيز قوتها التقليدية.
ويسعى نظام الحكم في إيران حاله حال جميع الحكومات إلى البقاء بأي ثمن، ويشمل ذلك الاستفادة من قوة الجماعات سواء كانت تتفق معها أيديولوجيًا أم لا، على سبيل المثال، بعد الحرب العراقية- الإيرانية، غض نظام صدام حسين العراقي الطرف عن نشاط جماعات سنية بمحافظة الأنبار العراقية بعمليات تهريب بضائع كانت تمنع العقوبات دخولها إلى البلاد.
بمجرد مغادرة القوات الأمريكية العراق عام 2011، استخدمت إيران المجموعات نفسها كوكلاء لاحتواء طرق الإمداد القبلية السنية، لتحقيق وصول غير مقيد إلى المواني على البحر الأبيض المتوسط مرورًا بالعراق وسوريا.
لماذا تتجنب إيران الصدام المباشر؟
بناء على أمثلة استحضرتها الدراسة من الحرب العراقية- الإيرانية، والآثار التي تركتها على الإيرانيين إثر حجم الخسائر البشرية التي خلفتها، رأت الدراسة نفسها أن إيران تتجنب الصدام المباشر مع الولايات المتحدة وحلف “الشمال الأطلسي” (الناتو).
ونظرًا للقيود التي فرضتها واشنطن على تسليح الجيش الإيراني، وضعف طهران النسبي مقارنة بمنافسيها الرئيسيين، وخاصة الولايات المتحدة، اختارت إيران تأكيد أهداف سياستها الخارجية من خلال استراتيجية “الاستبدال”، والمقصود هنا “تجنب الصراع مع القوى الكبرى من خلال استخدام قوات بالوكالة”، بحسب الدراسة.
وتمنح هذه الاستراتيجية الإيرانيين إمكانية الإنكار المعقول لمسؤوليتها عن هجمات ينفذها وكلاؤها على أعدائها، بالتالي يبقى الصراع في “المنطقة الرمادية”، أي دون الأسود والأبيض، لا سلم ولا حرب، ويُظهر نجاح “حزب الله” اللبناني مدى قدرة هذه الاستراتيجية على خدمة المصالح الإيرانية.
العنصر الثاني وراء تجنب إيران للصدام، هو التعزيز والتوسع الضمني لـ”الحرس الثوري الإيراني” المتصل بشكل مباشر بالقضايا التكتيكية الأكثر إلحاحًا بالنسبة لإيران، بحسب الدراسة.
وبينما تمتلك طهران ترسانة من الصواريخ الباليستية وأسلحة الردع، ركزت على ما أسمته الدراسة “الردع الأمامي”، والمقصود به امتلاك قدرة الردع خارج الحدود الوطنية للدولة، أو من المناطق المتاخمة لحدود الخصم، كما هو الحال بالنسبة لوكلائها المنتشرين في سوريا ولبنان، على مقربة من الحدود الإسرائيلية.
“التهديد الهجين”
مجلة “Dialogo Americas” العسكرية التي تصدرها القيادة الجنوبية الأمريكية، قالت في تقرير يتحدث عن النشاط الإيراني بشكل عام، الاثنين، إن إيران استخدمت أدوات غير تقليدية لاختراق وتوسيع نفوذها في مناطق من العالم، بما في ذلك أمريكا اللاتينية، خلال محاولتها تجنب صراع مسلح.
وأضافت أن طهران تراهن على العمليات النفسية والعمليات السرية، بمهاجمة أعدائها، طالما أنهم بعيدون عن حدودها.
واستندت المجلة إلى تقرير أصدرته جامعة “نافارا” الإسبانية بعنوان “The Hybrid”، جاء فيه أن الخبراء اعتمدوا مصطلح “التهديد الهجين” للإشارة إلى دمج التكتيكات والتقنيات والإجراءات غير التقليدية وغير النظامية الممزوجة بـ”الأعمال الإرهابية والدعاية والارتباطات بالجريمة المنظمة”.
أحد الأمثلة التي نفذت فيها إيران مثل هذه الاستراتيجية هو تفجير ثكنات مشاة البحرية في تشرين الأول 1983، ما أجبر قوات حفظ السلام الأمريكية على الخروج من لبنان، بحسب ما نقلته المجلة عن مدير المركز العسكري والأمني في معهد “واشنطن”، مايكل آيزنشتات.
أمريكا ودروس الحرب
في تموز الماضي، أي قبل اندلاع الحرب في فلسطين المحتلة بثلاثة أشهر، نشرت مجلة “منبر القدس الاسترتيجي” (The Jerusalem Tribune) التي تقول إنها تمثل وجهات النظر الإسرائيلية والأمريكية حول الشؤون الدولية، مقالًا حول دروس الحرب التي تعلمتها كل من واشنطن وطهران مؤخرًا، كتبه أستاذ السياسة الخارجية الأمريكية في كلية “نيتز” للدراسات الدولية بجامعة “جونز هوبكنز” مايكل ماندلباوم.
وافتتح ماندلباوم مقاله مستحضرًا مثلًا قديمًا يقول “إن الجنرالات يميلون إلى خوض الحرب الأخيرة، لكن عادة ما يفضل القادة السياسيون والأشخاص الذين يمثلونهم تجنب الصراع المسلح”.
مايكل ماندلباوم اعتبر في مقاله أن الولايات المتحدة تبنت خلال الحربين العالميتين في القرن الـ20 سياسة خارجية تهدف إلى تجنب ضرورة شن حرب أخرى من هذا القبيل، وبسبب خيبة أملها إزاء نتائج الحرب العالمية الأولى، قررت أمريكا أن تنسحب من الأمن الأوروبي حتى لا تتورط في صراع آخر مشابه في تلك القارة، لكن هذا النهج فشل.
وانجذبت البلاد إلى الحرب العالمية الثانية، وفي أعقابها اتخذت مسارًا مختلفًا تمامًا، وانخرطت بعمق في أوروبا ونفذت سياسة ردع ناجحة تجاه الاتحاد السوفييتي، الذي حل محل ألمانيا النازية باعتباره التحدي الرئيس لأمريكا وأوروبا.
وبالنظر إلى تجارب الولايات المتحدة السابقة، تجد واشنطن نفسها في وضع مماثل بالشرق الأوسط، إذ خاضت حربين مؤخرًا في المنطقة (في أفغانستان والعراق)، واعتُبرتا على نطاق واسع حربين فاشلتين، وكلفتا الكثير من الأرواح والأموال، وفشلتا في تحقيق الأهداف التي حددتها البلاد لهما، بحسب ماندلباوم.
أمريكا تواجه “تهديدًا خطيرًا”
يرى كاتب المقال نفسه أن أمريكا تواجه “تهديدًا خطيرًا” في الشرق الأوسط متمثلًا بإيران التي تسعى لامتلاح قنبلة نووية، لكن الحكومة الأمريكية متمثلة بثلاثة رؤساء متعاقبين رفضوا الاستراتيجية التي ارتكز عليها “الردع الناجح” للاتحاد السوفييتي في أثناء الحرب الباردة، وتجنبوا تقديم تهديد حقيقي باستخدام القوة، بعد أن أدى استخدام القوة الأمريكية إلى نتائج غير مرضية مرتين في القرن الحالي بالشرق الأوسط.
وترتكز السياسة الأمريكية الحالية على الاقتناع بأن مواجهة إيران بتهديد الحرب من المرجح أن تؤدي إلى حرب يمكن أن تتبع النمط الذي حدث في أفغانستان والعراق، ما يثبت أن شنها مكلف وغير مرضٍ في نتائجه بمثل تلك الصراعات.
وخلص ماندلباوم في مقاله إلى أن “خيبة الأمل” التي أصابت الولايات المتحدة بعد الحروب الأخيرة، وما ترتب على ذلك من رغبة في تجنب تكرارها، شكلت سعيًا إلى تجنب تجربة مع إيران على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :