بصوت ينتابه القلق، تحدث محمود العامل في ورشة خياطة عن ضعف العمل بشكل غير متوقع خلال الموسم الحالي، وهو ما تسبب بطرد العديد من زملائه في العمل من جهة، وانعدام ساعات العمل الإضافية التي كان يعتمد على ما يجنيه منها لتأمين دخل يعينه على غلاء الأسعار المستمر.
محمود (42 عامًا) العامل في مهنة الخياطة منذ أكثر من عشر سنين قبل دخوله لتركيا بطريقة غير شرعية عام 2022، لم يستطع تسجيل قيد له بشكل نظامي في أي من الولايات التركية والحصول على “بطاقة الحماية المؤقتة” (كملك) بسبب توقف تسجيل قيود جديدة في معظم الولايات، لكنه استطاع إيجاد عمل فور وصوله إلى مدينة اسطنبول حيث مركز التجارة التركية، وانتشار ورشات ومعامل الخياطة التركية والسورية.
وتنقل محمود (رفض ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية) بين عدة أماكن للعمل إلى أن استقر في معمل تركي للخياطة وجد فيه شروط عمل مناسبة من حيث الأجر المادي وظروف العمل، وبالرغم من منع القانون عمل أي شخص دون سجل كحال محمود، تقبل أصحاب الورشات ومعامل الخياطة مخاطر مخالفة القانون في سبيل إيجاد عمال لتغطية الطلب الكبير حينها داخليًا وخارجيًا.
وبحسب بيانات أعلنت عنها “جمعية المصدرين الأتراك”، حققت صادرات تركيا من صناعة الملابس الجاهزة أعلى صادرات سنوية على الإطلاق بصادرات بلغت 21 مليارًا و205 ملايين دولار في عام 2022.
أما في العام الحالي فقد انخفض الإنتاج والصادرات بشكل غير متوقع، ما وضع العديد من السوريين العاملين في هذا القطاع كعمال أو أصحاب ورشات في تهديد لمصادر دخلهم، ومنهم من تضرر بالفعل وأغلق ورشته أو بقي بلا عمل، وذلك بالرغم من عودة العديد من السوريين المقيمين في اسطنبول إلى ولايات أخرى أو الهجرة إلى أوروبا إثر الحملة الأمنية التي أعلنت عنها وزارة الداخلية منتصف العام لتعقب المقيمين بشكل غير نظامي.
غلاء ينعكس على الجميع
لم يعد الحد الأدنى للأجور في تركيا العام الحالي، البالغ 11400 ليرة تركية، مبلغًا مقبول به بين العمال سوريين كانوا أم أتراكًا وبالأخص في ولاية اسطنبول، إذ إن ارتفاع تكاليف المعيشة من إيجار المنازل وغلاء أسعار المواد الأساسية والمواصلات وغيرها، جعل طلبات الرواتب تزيد على الحد الأدنى وهو ما يظهر حتى بعروض توظيف المعامل التي تقدم رواتب تزيد أيضًا على هذا الحد.
في أيلول الماضي، أعلن اتحاد نقابة العمال في تركيا عن نتائج مؤشر الفقر والجوع، والتي شهدت زيادة في الإنفاق الشهري على الطعام لأسرة مكونة من أربعة أفراد بمقدار خمس مرات مقارنة بشهر كانون الثاني 2021.
وحددت الأبحاث التي أجرتها النقابة الحد الأدنى للجوع لأسرة مكوّنة من أربعة أفراد بـ13334 ليرة تركية، وسجل حد الفقر لعائلة مكوّنة من أربعة أفراد 43433 ليرة تركية، يشمل التغذية والإيجار والتعليم والرعاية الصحية، في حين جرى حساب تكلفة المعيشة للفرد الواحد العامل، وقُدّرت بحوالي 17336 ليرة تركية.
محمد أعرج صاحب ورشة لخياطة الألبسة في اسطنبول، تحدث لعنب بلدي عن تراجع إنتاج ورشته العام الحالي بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بالعام الماضي، وذلك خلال ذروة إنتاج موسم خياطة الألبسة التي تمتد بين حزيران وتموز.
وعبّر محمد عن تفاجئه من إنتاج هذا الموسم، واصفًا إياه “بالأضعف” خلال السنوات العشر التي عمل بها في تركيا منذ وصوله، إذ يقتصر الإنتاج حاليًا بالورشة على عمل ينتهي خلال نصف يوم بالمقارنة مع طلبات متراكمة كانت يتطلب إنتاجها “وصل الليل بالنهار”، على حد تعبيره.
وعن أسباب ضعف العمل أفاد محمد بحسب حديث الموردين إليه، أن الغلاء وانخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار من أهم أسباب ضعف العمل، وهو ما يشير إليه استمرار ارتفاع نسب التضخم، مما يؤثر في حجم المبيعات.
وتمر دورة غلاء المنتج الصادر عن ورشة محمد بعدة مراحل، بداية من ارتفاع أسعار الأقمشة الداخلة في المنتج، إلى ارتفاع تكاليف العمال ومستلزمات العمل بالورشة وهو ما يزيد من أجور خياطة المنتج، وبدوره البائع في السوق المحلية، حيث يذهب معظم إنتاج ورشة محمد، سيجبر على رفع قيمة مرابحه من سعر المنتج لمواجهة غلاء الأسعار.
هذه الحالة من ضعف الإنتاج أجبرت العديد من الورشات السورية الصغيرة على الإغلاق وفق ما رصدته عنب بلدي، إذ أصبحت الأرباح لديها أقل من التكاليف، وبات أصحابها يبحثون عن فرص عمل في الورشات أو المعامل الأكبر، التي خفضت بدورها من العمالة التي لديها للتقليل من المصاريف.
ويتخوف محمد من أن يجبر على الإغلاق بعد مطلع العام المقبل، حين تصدر القيمة الجديدة للحد الأدنى للأجور، ويبدأ العمال يطالبون بزيادة رواتبهم في وقت يكون فيه الإنتاج بالقيمة الأدنى بالأحوال الطبيعية وبشكل مضاعف في الوقت الحالي، ما يضعه أمام خيار الإغلاق المؤقت أو النهائي أو فصل بعض العمال لتوزيع رواتبهم كزيادة للبقية، وهو الذي فصل عاملين لديه خلال العام الحالي لضعف العمل.
خسارة في التصدير
صرح نائب رئيس مجلس إدارة رابطة “مصدري الملابس الجاهزة” في تركيا، تشاغلار باغجي، في تقييم لإذاعة “صوت أمريكا” بفرعها التركي خلال تموز الماضي، بأن هناك خسارة بنسبة 16% في صادرات القطاع على أساس سنوي في حزيران الماضي.
ووصف باغجي هذه النسبة بـ”الخطيرة للغاية وغير متوقعة”، مرجعًا الأسباب لانكماش الطلب، وبالرغم من انتعاش الطلب عالميًا بعد جائحة “كورونا”، فقدت تركيا ميزتها التنافسية مع الدول الأخرى بسبب زيادة التكاليف، وفق باغجي.
وفي إشارة إلى أن تكاليف العمالة هي العامل الرئيسي في صناعة الملابس الجاهزة، ذكر باغجي أن الزيادة الأحدث في الحد الأدنى للأجور قد وضعت المصدرين في مشكلة مقابل سعر صرف الدولار.
وقال باغجي، “الملابس الجاهزة قطاع ذو تكاليف عمالة مرتفعة للغاية، إذ تمثل تكاليف العمالة لدينا ما يقرب من 35 إلى 50% من إجمالي تكاليفنا، وارتفعت هذه التكاليف من 350 دولارًا إلى ما يتجاوز الآن 450 دولارًا، لذلك نحن نتحدث عن زيادة بنحو 35%، وينعكس هذا بشكل مباشر في أسعار منتجاتنا، وبما أن عملاءنا يريدون الشراء بالسعر القديم، فهناك تحول إلى بلدان أخرى”.
عمر ايلو العامل في شركة تركية تصدر الألبسة لأوروبا وللبلدان العربية، أفاد لعنب بلدي أن السوق الداخلي ضمن تركيا في تراجع كبير بسبب ارتفاع الأسعار، أما بالنسبة للسوق الخارجية فقد تأثر هذا الموسم بشكل كبير بسبب كارثة الفيضان الليبية والتصعيد الإسرائيلي على غزة كون ليبيا وفلسطين من الدول التي تعتمد بشكل شبه كلي على السوق التركية في استيراد الملابس، مقدرًا نسبة انخفاض المبيعات بأكثر من 60%.
ويقع مقر الشركة التي يعمل فيها عمر بمنطقة غونغرين حيث يوجد سوق لشركات بيع الألبسة بالجملة، وبحسب وصف عمر يشهد السوق حالة من الركود غير مسبوقة، وأثر هذا الركود بإغلاق مؤقت أو دائم لبعض ورشات الخياطة وصعوبة إيجاد فرص عمل للعاملين في هذا القطاع.
كما اضطر أصحاب المحال التجارية بالسوق وفق عمر إلى الاعتماد على عدد أقل من العمال ومنها ما أغلق بعد رفع إيجارات المحال مما جعل التكاليف تفوق الدخل.
وبالرغم من تخوفهم، أشار عمر إلى توقعات أصحاب المحال بتحسن حركة البيع في الموسم الصيفي المقبل.
–