انحياز تغطيات حرب غزة.. هل الصحافة المستقلة في ورطة

  • 2023/11/26
  • 12:33 م
الصحفي علي عيد

علي عيد

تميل المدارس المهنية إلى تعريف الانحياز في الصحافة على أنه نقيض الموضوعية، لكن هذا التعريف يبقى تعريفًا نسبيًا، خصوصًا في حالات الحروب والصراعات التي ينقسم معها الناس، ويصبح الانحياز القائم على تقييم العوامل التاريخية للصراعات مثلًا نوعًا من الاصطفاف السياسي.

وخلال الحروب والصراعات تظهر الانحيازات بشكل فاضح، وينعكس هذا في المحتوى واللغة، فينقسم الضحايا إلى شهداء وقتلى حسب ميل الصحافة، ويذهب محررو الأخبار إلى صياغات تخدم أجندة الجهة المشرفة أو الحزب أو الحكومة أو حتى عاطفة الجمهور.

خلال الحرب الأخيرة في غزة مثلًا، بدأت معظم وسائل الإعلام بالتعاطي مع الأحداث من منطلق سياسي تاريخي، أو من منطلق أيديولوجي، فالصحافة العربية بمعظمها تعاطت مع الحق التاريخي للفلسطينيين، والصحافة الغربية بمعظمها انحازت إلى الشعور بالذنب تجاه ما ارتكبه النازيون بحق اليهود، وبناء على ذلك انقسم الإعلام على المستوى العالمي، وانعكس ذلك في اللغة الصحفية والمصطلحات، وقد أسهمت الدعاية بتغذية الانقسام على حساب الضحايا، أو تم إغراق الضحايا في سياقات الصراع التاريخي.

هل انحاز الإعلام في حرب غزة؟ ذلك سؤال يحتاج إلى تمرين عملي حول أنماط أو أنواع الانحياز، وأين تمت ممارستها.

يمكن إخضاع نموذج من التغطيات للتقييم بناء على بضعة أنواع من الانحياز التي وضعها الدارسون، ودعونا نتحدث عن الأنماط التالية من الانحياز مع شرح لكيفية تعامل الصحافتين العربية والغربية دون تخصيص أو تعميم:

  • الانحياز بالمحاباة: اتخذت الصحافة الغربية موقفًا داعمًا لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد “حماس”، بينما اتخذت الصحافة العربية موقفًا داعمًا للفلسطينيين، وفي كلا الموقفين انزاحت الصحافة عن مهمتها الإخبارية واستقلاليتها المهنية.
  • الانحياز باختيار القصص: بالغت الصحافة الغربية في نقل قصص روجت لها إسرائيل عن القتلى والمختطفين، خصوصًا خلال الأسبوع الذي أعقب هجوم السابع من تشرين الأول، وتجاهلت كثيرًا من التفاصيل على الطرف المقابل، أما الصحافة العربية فكانت تنقل قصص القتلى الفلسطينيين والدمار الواسع في غزة، مع إغفال أثر القصف الصاروخي لـ”حماس” على المدن والمستوطنات الإسرائيلية.
  • الانحياز باختيار المصادر: اعتمدت الصحافة الغربية على مصادر من الجهات الرسمية الإسرائيلية في تقييم طبيعة الأهداف التي يجري قصفها، بينما اعتمدت الصحافة العربية على مصادر “حماس”، وأصبح ما يقدمه الناطق الإعلامي “أبو عبيدة” محلّ تحليل ومتابعة أكثر مما يقدمه وزير الحرب الإسرائيلي.
  • الانحياز بالتنميط: اعتمد الإعلام الغربي على صورة “حماس” كحركة “إرهابية” متطرفة أكثر منها جماعة “مقاومة”، وعلى الطرف الآخر تم التعامل مع فكرة إسرائيل ككيان “صهيوني”، ودرجت هذه الصورة النمطية في الصياغات واللغة لدى الجانبين.
  • استخدام الحقائق للوصول إلى نتائج زائفة: استخدم الإعلام الغربي حجة هجوم السابع من تشرين الأول لتبرير قصف قطاع غزة متجاهلًا جرائم الحرب بحق المدنيين، بينما استخدم الإعلام العربي القضية الفلسطينية “العادلة” لتبرير هجوم السابع من تشرين الأول وما رافقه من انتهاكات بحق المدنيين، خصوصًا من تم اختطافهم من كبار السن.
  • الانحياز بمدة العرض: أفرد الإعلام الغربي مساحات واسعة لتفاصيل داخل المجتمع الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين، بينما خصص الإعلام العربي معظم المساحة لنقل وجهة النظر أو الأحداث داخل غزة.
  • استخدام الإثارة: اعتمد الإعلام الغربي على روايات الإثارة الإسرائيلية التي تبين عدم دقتها لاحقًا، وخصوصًا روايات قطع الرؤوس، بينما ركز الإعلام العربي على انتصارات “حماس”.

بعد هذا الاختبار العاجل، ينص أحد المعايير الدولية في الكتابة الصحفية على أنك “لست طرفًا في الأحداث”، وأنه “حتى وإن كنت” فعليك أن “لا تعبر أو تكتب نيابة عن أي طرف”.

ويحث هذا المعيار الصحفي على البحث عن أطراف القصة الفاعلين فيها أو المتأثرين بها، وإعطائهم فرصًا متكافئة للتعبير عن أنفسهم، والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف.

مع هذا المعيار وما سبقه من أمثلة على أنماط الانحياز التي جرى اختبارها، كيف يمكن تجاوز المعضلة، وهل هذا ممكن بالأساس؟

تعتبر الحرب على غزة بعد هجوم “حماس” واحدة من أصعب الاختبارات لمصداقية الصحافة وحياديتها، مع الاعتراف المسبق بصعوبة الحياد، ويبالغ المؤدلجون في شيطنة كل ما يتعارض مع أيديولوجياتهم، ويتم إخضاع تقييم عمل الإعلام للموقف السياسي الدولي، ففي حالة تجارب الإعلام العربي المستقل مثلًا، نشأت أزمة أخلاقية سببها الارتباط العميق لشعوب المنطقة بوجدانية القضية الفلسطينية، ففي سوريا لم تكن هناك صحافة مستقلة طوال فترة حكم حزب “البعث” الممتدة منذ عام 1963، وبعد عام 2011، ظهرت مبادرات لمجموعات من الناشطين والصحفيين انتهت بظهور بعض التجارب المستقلة، وهي تجارب لم تخضع لضغط الجمهور في قضايا أو ملفات لا تتعلق بالشأن الداخلي السوري، كما يحصل في قطاع غزة اليوم.

بدا الصحفيون المستقلون مرتبكين وهم يلاحظون انحياز الإعلام الغربي لمصلحة إسرائيل، وثارت مخاوف حول مصير الإعلام المستقل الذي يعتمد بغالبه على دافع الضرائب الغربي عبر منظمات تدعم تجارب إعلامية ديمقراطية، إذ بات صانعو الإعلام الجدد بين نارين، التزام المهنية مع خسارة الجمهور، أو الانحياز لقضية فلسطين مع خسارة كل ما تعلموه، أو ربما خسارة الدعم المحدود المتبقي لهذه التجارب الناشئة.

اختبار “غزة” يحتاج إلى وقفة لتقييم الأداء، وإعادة النظر في الدور والعلاقة مع الجمهور وعدم خداع النفس فيما حققه هذا الإعلام من جهة، والالتزام بالمصداقية والاستقلال مع المحافظة على الشراكات أو جدواها من جهة أخرى.. وللحديث بقية.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي