عنب بلدي – براءة خطاب
بعد انتظار دام أشهرًا، وجلسات تخللها تجاهل وغياب تام للنظام السوري، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها في القضية المتعلقة بتطبيق اتفاقية “مناهضة التعذيب” المرفوعة من كندا وهولندا ضد النظام السوري.
ونص قرار المحكمة على أن تقوم سوريا، وفقًا لالتزاماتها بموجب اتفاقية “مناهضة التعذيب” الذي صدّقت عليها عام 2004، باتخاذ جميع التدابير لمنع أعمال التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وضمان عدم ارتكاب مسؤوليها أو المنظمات أو الأشخاص من الخاضعين لسيطرتها للتعذيب.
كما أمرت النظام السوري باتخاذ إجراءات فعالة لمنع إتلاف الأدلة المتعلقة بأعمال التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة وضمان الحفاظ عليها.
رمزية سياسية
تعد القضية المرفوعة ضد النظام السوري في محكمة العدل الدولية أمرًا في غاية الأهمية، باعتبار أن جميع الدول تكون ملزمة في قراراتها، بحسب ما قاله مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، لعنب بلدي.
وأوضح عبد الغني أن قرارات “العدل الدولية” يجب أن تطبق، لكن المحكمة لا تملك قوة التطبيق، أي يمكن للدولة المعنية انتهاك القرار.
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، قال لعنب بلدي، إنه عندما تبت محكمة العدل الدولية في النهاية بأساس الدعوى، ستبت أيضًا في السؤال ما إذا كان النظام السوري التزم في الحكم الابتدائي بخصوص “التدابير المؤقتة” أم لا، ومن الممكن أن تدين المحكمة النظام السوري بفشله في احترام القرار، فيما يتعلق بـ”عدم إتلاف الأدلة وحماية السوريين من التعذيب”، مضيفًا أن “قرار محكمة العدل الدولية له أهمية ورمزية سياسية كبيرة”.
ولا يتوقع العبد الله أن يطبق النظام السوري قرار المحكمة، أو أن تكون له مفاعيل مباشرة، مضيفًا أن الحكومة السورية قلقة ومرتبكة في العمل مع المحكمة.
وأضاف أن النظام قاطع في البداية المحكمة، ليبلغها لاحقًا بالحضور، وقبل يوم من جلسة الاستماع الأولى أبلغ المحكمة بعدم حضوره للجلسة.
العبد الله قال إنه إذا كانت الدولة المعنية بالقرار لا تهتم للقانون أو يمكن حمايتها في “فيتو” بمجلس الأمن، فإن إنفاذ قرار المحكمة عليها بشكل قسري يعتبر فرصة محدودة لكنه لا ينفي أهمية القرار، كما تذهب مثل هذه الأحكام إلى مجلس الأمن، ويصوت عليها، متوقعًا أن تستخدم روسيا والصين حق “الفيتو”، ما يجعل تنفيذها من قبل النظام أمرًا مستبعدًا.
“ارتباك النظام السوري وعدم معرفته بالتعامل مع قرار المحكمة يعزز أن الحكومة السورية هي من ارتكبت هذه الانتهاكات ويدينها”.
محمد العبد الله – مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”
الرأي السابق يؤيده مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، قائلًا إنه لا يعتقد أن يلتزم النظام السوري بقرارات المحكمة، مثل عدم التزامه بحضور الجلسات، وهو عامل معزز لإسراع المسار.
“ضغط” على الأمم المتحدة
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، قال لعنب بلدي، إن قرار المحكمة في مرحلة انتقالية يعتبر ضغطًا على الأمم المتحدة فيما يخص مفاوضات “جنيف” باعتبارها شبه فاشلة أو متوقفة.
وأوضح أن القرار الذي صدر من المحكمة في 16 من تشرين الثاني الحالي، لا يبت في أساس الدعوى، بل يبت حاليًا فقط في “التدابير المؤقتة” التي طلبتها كل من هولندا وكندا لـ”وقف التعذيب”، و”منع إتلاف الأدلة” المتعلقة بأعمال التعذيب.
ويرى أن إصدار قرار من “العدل الدولية” له مفاعيل وثقل سياسي في غاية الأهمية، ولا ترغب أي دولة في العالم أن تدان ويصدر قرار بحقها من “العدل الدولية”.
ويعد القرار أمرًا مهمًا في مسار التقاضي، إذ يمكن الاستناد إليه في محاكمات لاحقة عندما يرفع سوريون دعاوى ضد مسؤولين سابقين أو شخصيات أمنية أو ضباط وصلوا إلى أوروبا، عن طريق استخدامه كإثبات بأن الحكومة السورية ارتكبت التعذيب بشكل ممنهج وفشلت في إيقافه، بحسب العبد الله.
“صدور قرار من محكمة العدل الدولية يدين الحكومة السورية على الاستخدام الممنهج للتعذيب يعزز رواية الضحايا ويدحض رواية النظام السوري بأن صور (قيصر) وغيرها من الأدلة غير صحيحة”.
محمد العبد الله – مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”
كما يساعد السوريين في تكريس فكرة أن سوريا دولة يمارس فيها التعذيب بشكل ممنهج من قبل حكومتها، فيما فشلت حكومتها في إيقاف هذا التعذيب، بل إنها تدمر الأدلة عليه، مضيفًا أن جميع هذه النقاط تعد من مصلحة السوريين فيما يخص قضايا الهجرة واللجوء وإعادتهم قسرًا إلى سوريا.
العبد الله أشار إلى تعيين شخصين دبلوماسيين من البعثات السورية مؤخرًا، ويعتقد أن مقرهما سيكون في بلجيكا وجنيف، ليمثلا الحكومة السورية في إجراءات التقاضي.
قرار “تاريخي”
حظي قرار محكمة العدل الدولية بترحيب دولي وحقوقي، ووصفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” القرار بـ”التاريخي”، وبأنه خطوة فارقة نحو حماية المدنيين في البلاد.
وقالت المديرة المساعدة في أحد برامج المنظمة، بلقيس جرّاح، إنه مع استمرار التعذيب المنهجي والواسع في سوريا، سيكون تنفيذ هذا الحكم مسألة حياة أو موت بالنسبة لكثير من السوريين في مراكز الاحتجاز.
من جهتها، رحبت لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا بقرار المحكمة الذي يأمر النظام باتخاذ جميع التدابير لمنع التعذيب في سجونه ووقفه.
وقالت اللجنة، “إن هذا أمر تاريخي من أعلى محكمة في العالم، لوقف التعذيب والاختفاء القسري والوفيات في مرافق الاحتجاز السورية”.
كما رحبت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” بالقرار، مشيرة إلى أنه لا يزال أكثر من 135 ألف شخص بينهم 3693 طفلًا و8478 سيدة يعانون الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب في مراكز احتجاز قوات النظام السوري، منذ آذار 2011 حتى آب الماضي.
ورحبت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة بالقرار، وقالت سفارة الولايات المتحدة في سوريا عبر حسابها على “إكس”، “نرحب بقرار محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة”، واعتبرته “خطوة رئيسة نحو محاسبة نظام الأسد بسبب تعذيبه الآلاف من السوريين”.
وشددت الولايات المتحدة على أن “الضحايا والناجين وأسرهم يستحقون العدالة والمساءلة عن الفظائع”، مؤكدة ضرورة “العمل بجدية للوصول إلى حل سياسي لتحقيق العدالة”.
من جانبها، رحبت السفارة البريطانية في سوريا بالقرار وقالت عبر حسابها على “إكس”، “نرحب بقرار محكمة العدل الدولية في القضية الرائدة المقدمة من كندا وهولندا ضد النظام السوري، بشأن اتخاذ تدابير لمنع المزيد من التعذيب والمعاملة القاسية وغير الإنسانية التي تُمارس على يد النظام السوري”.
وأكدت أن قرار العدل الدولية “خطوة حيوية نحو تحقيق العدالة للناجين وأسرهم”.
قرار محكمة العدل سبقته بيوم مذكرة اعتقال دولية، إذ أصدر قضاة التحقيق الجنائي الفرنسيون، في 15 من تشرين الثاني الحالي، مذكرات توقيف بحق رئيس النظام السوري، بشار الأسد، وشقيقه ماهر الأسد، واثنين من معاونيه، بتهمة استخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة ضد المدنيين في مدينة دوما والغوطة الشرقية في دمشق عام 2013، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 1000 شخص.
وفي 8 من حزيران الماضي، قدمت كل من كندا وهولندا طلبًا مشتركًا إلى محكمة العدل الدولية، لإقامة دعوى ضد النظام السوري، ويتعلق الطلب بالمسؤولية الدولية للنظام بسبب فشله “الجسيم والمنهجي” في الوفاء بالتزامات سوريا المتعلقة بمنع التعذيب وغيره من أشكال المعاملة القاسية واللاإنسانية والانتهاكات العديدة لأحكام اتفاقية مناهضة التعذيب.
كما طلبت كندا وهولندا من المحكمة أن تأمر باتخاذ “تدابير مؤقتة”، وفقًا للمادة “41” من نظام المحكمة، لوقف التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة من قبل حكومة النظام، ريثما يتم البت في القضية.