خطيب بدلة
استهزأ بي أحد الكتاب، ذات مرة، لأنني كتبت زاوية صحفية بمناسبة رحيل الفنانة شادية، وسوغ استهزاءه بالمبدأ الذي يشتغل عليه حزب “البعث” الحاكم في سوريا، منذ سنة 1963، وهو أن بلادنا تمر بظروف استثنائية، ومنعطف تاريخي، ويتعرض شعبنا “العظيم” لمؤامرة عالمية، تستهدف صمودنا، ولذلك فإنه من المعيب أن يكتب أحد شيئًا عن مطربة غير ملتزمة بقضايا أمتها، بدليل أنها تغني “سونه يا سنسن جيت لك أهُو”!
أيام جمال عبد الناصر، عندما كانت الديماغوجية الشعبوية المضللة في أوجها، أطلق الناصريون شعار “كل شيء للمعركة”، وهذا يعني ألا يأكل أحد، أو يشرب، أو يزرع، أو يصنع، أو يستورد، أو يصدر، إلا لأجل المعركة التي سيخسرونها، بالتأكيد، ثم يبكون، ويندبون حظوظهم، ويلعلع صوت أحمد سعيد من إذاعة صوت العرب، متحدثًا عن المؤامرة الإمبريالية الصهيونية الرجعية، والأشقاء العرب خاذلوا، فلم يمدونا، في أثناء المعركة، بالمال، والسلاح، والرجال، والذخائر، ولم يساعدونا بما يكفي من المال، لإعادة إعمار البلاد التي خربها العدو الغاشم.
الرفاق البعثيون هم أكثر الناس نبوغًا وتألقًا في مجال إطلاق الشعارات، لذا راعهم النجاح الجماهيري الذي حققه الشعار الناصري، فراحوا يفكرون في أفضل طريقة للمزاودة عليه، وسحقه، وقد هداهم المولى إلى حالة الصراخ الكيفي التي تحدث في بوازير الغنم والكدش والدجاج، حيث تتداخل الأصوات، ولا يمكن لأحد أن يفهم شيئًا من أحد، فهتفوا “وجدتُها”، وأطلقوا شعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة، وهم، بالطبع، يقصدون المعركة نفسها التي خسرها الأشقاء في مصر على جبهتهم، ونحن سنخسرها على جبهتنا، بالتأكيد، ثم نبكي، ونكتئب، ونسب على أشقائنا العرب الذين تخاذلوا، ولم يدفعوا لنا مالًا لأجل إعادة الإعمار، ونُظهر نقمتنا على المجتمع الدولي الذي يكيل بمكيالين، ويعطي لعدونا، من تحت الطاولة، ما يحتاج إليه من أسلحة وأموال و”فيتوهات” في مجلس الأمن، ويبخل علينا حتى باستنكار قتل أطفالنا ونسائنا وشيوخنا.
وأطلق البعثيون، بعدما تراجعت الناصرية، بموت مؤسسها، سلسلة من الشعارات العظيمة، أهمها، على الإطلاق، شعار “هلق مو وقتو”، وشعار “العدو على الأبواب”، لذلك استمروا بتطبيق قانون الطوارئ الذي يمنحهم الحق في اعتقال الناس، وتعذيبهم، وإلقائهم في غياهب السجون شهورًا وسنين، وحينما سألناهم عن ذلك، أجابونا بسؤال معاكس: أتريدون أن نتوقف عن إهانتكم وقتلكم وتعذيبكم والعدو على الأبواب؟
كان لي صديق ذو خيال مسرحي شديد الخصوبة، يستطيع أن يرسم لكل جملة يسمعها من الناس مشهدًا تمثيليًا يناسبها. أخبرني، مرة، أنه يتخيل رماة المدفعية الإسرائيليين وقد لقموا مدافعهم، وأداروها باتجاه مدينة دمشق، والطائرات الإسرائيلية المقاتلة رابضة في المطارات، وكل طائرة يجلس طيارها وراء مقودها، والدبابات متخذة وضعية الرتل المهاجم، بينما تقوم قوات الاستطلاع الإسرائيلية بتجاوز الحدود، والتنصت على مراكز القيادة والاتصالات السورية، فما إن ترسل هذه القوات إشارة إلى مقر القيادة، بأن السوريين بدأوا بتطبيق إجراءات من شأنها تخفيف الضغط على المواطن السوري، واحترام إنسانيته، ومواطنيته، وكرامته، تنطلق بكل صنوف الأسلحة، لتحتل دمشق، وتسقط هذا النظام، وتلعن سنسفيله!