لمى قنوت
دفعت آلة الاستعمار الصهيونية المتوحشة الأمهات الفلسطينيات في غزة إلى كتابة أسماء أطفالهن على أجسادهم، بعد أن أرعبتهن صور الأكفان البيضاء المكتوب عليها “طفل مجهول”، بعضهن كتبن الأسماء على الأقدام، وبعضهن كتبنها على البطون، لأن الصاروخ يفتت الأطراف في أغلب الأحيان، كما قالت رجاء محمد (أم لثلاثة أطفال)، أما عبير (أم أحمد وراشد وهبة) فقد كتبت في كل مكان على جسدها ما سبق، وأضافت بأنها زوجة الشهيد فهمي صالح، وكتبت على كفي وذراعي وفخذي وظهر وبطن وصدر وباطن قدمي ابنها أحمد، اسمه وعمره وزمرة دمه واسم أبيه واسمها، وكذلك فعلت مع ابنتها هبة ذات الخمس سنوات، لكن جسد ابنها راشد ذي الثلاث سنوات لم يتسع لكل تلك الكلمات، لكنها كانت مطمئنه بأنه سيظل في حضنها، ثم قالت لأبنائها الثلاثة مع ابتسامة هادئة: “تخافوش، سيجمعوننا معًا ولو كنا أشلاء”.
كتابة الأسماء على الأجساد أو على كل عضو من أعضاء الجسد هي شكل من أشكال مقاومة الإفناء والإبادة الجماعية والتهجير القسري التي يركز عليها المستعمر، لإبقاء استعماره “أبديًا، مُؤنسنًا وحضاريًا” بوجه “الحيوانات البشرية” التي تقاومه وتعوق مخططاته وسردياته، فيطمرها تحت الركام، ويسعى أن تتحول إلى أشلاء، وتُدفن دون شواهد وفي مقابر جماعية.
في سياق آخر، تُرَقِمُ آلة النظام الأمنية السورية جثامين من قتلتهم في المعتقلات والمستشفيات العسكرية، وتكتبها على جباههم، وتدفنها في مقابر جماعية، وتحرص على عدم تسليم الجثمان لأسرته، وتدخل أسر المعتقلين والمخفين قسرًا في رحلة تيهٍ للبحث عن أحبائها. لا يكتفي النظام بمحو هوية الجثمان وتشييئه عبر ترقيمه فحسب، بل يغدو التنكيل به وإذلاله هدفًا لأجهزة الأمن، كوضع الرأس في حفرة الحمام العربي، فمثلًا، يروي عمر، وهو كاتب مسرحي، شهادته خلال فترة اعتقاله، كيف طُلب منه ومن آخرين، نقل جثامين المعتقلين من طابق سفلي في المعتقل إلى سيارة نقل: “كانوا ينظرون إلينا ويقولون (أنت تعال وأنت وأنت)، نذهب معهم إلى الطابق السفلي حيث الجثث ممددة على البطون، والرؤوس داخل حفرة الحمام العربي، وعلى الأجساد مكتوبة أرقام ملفاتهم ومهاجعهم”.
حتى في السجلات الرسمية، بقيت الأرقام تلازم جثامين المعتقلين والمعتقلات، فمن خلال البيانات التي جمعها “سيزر/قيصر” (وهو لقب لمصور الطب الشرعي بالشرطة العسكرية في سوريا) وسربها بعد انشقاقه عن النظام، قسمت “هيومن رايتس ووتش” الصور إلى ثلاث فئات، ضمت الأولى وهي الأكبر، ما لا يقل عن 6786 جثة، تعود لأشخاص توفوا أو قتلوا تحت التعذيب وهم رهن الاعتقال في أي من مراكز الاعتقال أو بعد نقلهم إلى مستشفى عسكري، كل جثة تحمل أرقام تعريف (عبارة عن ثلاثة أرقام)، وتضم الفئة الثانية، جثث الجيش أو عناصر الأمن، التقطت في مشارح مستشفيات عسكرية، لكنها عكس الفئة الأولى، تتضمن بطاقات باسم الشخص المتوفى وأحيانًا تاريخ وفاته (في العديد من الحالات، تسبق اسمه كلمة شهيد والرتبة العسكرية للمتوفى). وفق ما سبق، فحتى الجثامين تخضع لمعايير “سوريا المتجانسة” التي هندسها رأس النظام في سوريا، أي بين الاعتراف بمواطنية الأفراد ومكانتهم وبين تشييئهم ونزع إنسانيتهم.
تستبيح العدسات والعيون الفاحصة صور الأجساد/الجثامين المجساة جراء التعذيب في المعتقلات أو القصف والبراميل المتفجرة، ولكن من قال إن أصحابها، لو كانوا من الناجين والناجيات، أو أسرهم سيوافقون على عرضها للفرجة أو لإثبات جرمية القتلة. لقد سبب النشر العشوائي لصور “قيصر” في الإعلام صدمات ورضات قاسية للعديد من الأسر الباحثة عن أحبائها، فآثار التجويع والتعذيب والجلد المسلوخ والعيون المقلوعة وتعرية الأجساد ستبقى صورًا مؤبدة تستدعيها الذاكرة عن أحبائهم الذين قتلهم نظام الأسد.
دائرة تشييء الأجساد/الجثامين لا تكتمل دون الحديث عن المقابر الجماعية المستمرة والمفتوحة حتى الآن، كما ورد في شهادة “حفار القبور”، وهو لقب موظف إداري كان يعمل في بلدية دمشق، وعمل مع أجهزة أمنية بين عامي 2011 و2017 لدفن معتقلين في مقابر جماعية، وذلك قبل فراره من سوريا في عام 2018.
الكتابة على الأجساد كفعل مقاوم ضد آلة التوحش الصهيونية التي تحصد حيوات السكان في غزة، والكتابة على أجساد/جثامين المعتقلين وترقيمهم كجرم نازع لهويتهم ومواطنيتهم، هادر لكرامتهم، كالتي يمارسها النظام في سوريا بشكل منهجي ونسقي، لن تتوقف ما لم يحاسب المجرمون على جرائمهم، وأي نضال ضد الأنظمة الشمولية والاستبدادية الأبوية لا يشمل النضال ضد الاستعمار، أو العكس، لا يعول عليه.