غزوان قرنفل
في بيانه الصادر بتاريخ 15 من تشرين الثاني الحالي، قال “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، إن مذكرة التوقيف التي أصدرها القضاء الفرنسي بحق بشار أسد وأخيه ماهر وضباط آخرين ضمن دائرة القرار الأولى في سوريا، هي “سابقة تاريخية ونصر جديد لأسر الضحايا والناجين، وخطوة جديدة على طريق العدالة والسلام المستدام في سوريا”.
المركز هو إحدى المنظمات الحقوقية السورية التي تعمل إلى جانب منظمات سورية وأوروبية أخرى على ملف مقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا بالاستناد إلى مبدأ الولاية العالمية للقضاء الأوروبي في هذا الشأن.
وكانت الوحدة المتخصصة في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التابعة للمحكمة القضائية في باريس حول الهجومين بالأسلحة الكيماوية في آب 2013، قد فتحت تحقيقًا بهذا الشأن بناء على شكوى المركز المذكور ومنظمات سورية أخرى (الأرشيف السوري، ومبادرة عدالة المجتمع المفتوح، ومنظمة المدافعين عن الحقوق المدنية، بالإضافة إلى أعضاء من رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية)، ووصلت من خلال ما قُدم لها من قرائن وأدلة وتوثيقات وشهادات شهود إلى قناعة راسخة بمسؤولية الأسد وأعوانه عن تلك الجريمة، وبناء عليه صدرت مذكرات التوقيف عن قضاة التحقيق الجنائي الفرنسيين، التي نفترض أنه سيتم تعميمها دوليًا عبر مؤسسة الشرطة الدولية (الإنتربول) ليجري العمل على إنفاذها وفق الأصول والإجراءات القانونية.
يتساءل سوريون كثر عن جدية هذا الإجراء وجدواه، وهل له فعلًا قيمة قانونية، وعمّا إذا كان من الممكن إنفاذه أصلًا؟ وهو تساؤل مشروع في ظل شعور السوريين بالخذلان في مواجهتهم للنظام وقيام كل الداعمين والمتدخلين بالعمل على إجهاض ثورتهم، وشعورهم أن المسألة السورية لم تعد قضية ذات أولوية قصوى لدى مختلف الفاعلين، فضلًا عن تقبل دول الإقليم لتلك المآلات ومساعي إعادة إدماج النظام السوري ضمن النظام العربي والإقليمي، التي ظهرت ملامحها في إعادة النظام للجامعة العربية ودعوته للقمتين العربيتين العادية والطارئة، وتلهف تركيا لتطبيع علاقاتها معه، وتسليم الجميع بحقيقة “بقاء النظام” و”هزيمة الثورة”، دون أن ننسى الإشارة إلى حقيقة أن المعارضة السورية تعرّت تمامًا وبانت سوءتها وأظهرت للعالم أن رجالاتها مجرد هواة تعوزهم الكثير من الخبرة والنضج وسلامة الرؤية ووضوحها.
وحتى لا نسوّق الوهم بين السوريين، فإن مسؤوليتنا الوطنية والحقوقية تقتضي منا وضع الأمور بهذا الشأن ضمن نصابها الصحيح، وهو أنه لا يمكننا تتفيه هذه الخطوة ولا يجوز لنا ذلك، لأنها فعلًا بالمعنى القانوني هي خطوة مهمة ونوعية، وستكون لها آثار وتداعيات إيجابية على القضية السورية وسبل صناعة الحل لها.
صحيح أن تلك المذكرة ربما لا تفضي إلى اعتقال بشار الأسد، لكنها بالضرورة ستجعله سجين قصره وستحد من حركته السياسية والدبلوماسية الدولية إلى حد كبير، لكن الأهم من ذلك أنها تسهم وتدعم جهود إخراج الأسد والكثير من رموز منظومته الأمنية والعسكرية خارج نطاق الحلول الممكنة للصراع في سوريا بل وخارج نطاق المشهد السياسي السوري المستقبلي، وهي ربما ستبطئ أو تعطل الكثير من الجهود المبذولة لإعادة تعويم نظامه وإدماجه في المشهد السياسي السوري كما في المشهد الدولي.
لكن يبقى الأهم أكثر بتقديري أن تلك المذكرة تلحق هزيمة محققة لثقافة الإفلات من العقاب، الراسخة في المنطقة عمومًا، كما ستجعل من قضية المساءلة عن الجرائم المروعة التي ارتكبت في سوريا جزءًا من جهود عملية صناعة الحلول والتسويات السياسية للصراع السوري، بمعنى أنها تؤكد وتعزز فكرة أن أي حل لهذا الصراع لا يلحظ حقوق السوريين في الإنصاف والعدالة لن يُكتب له النجاح، بالنظر إلى الكم الهائل من الجرائم المروعة التي مورست بحقهم من قبل هذا النظام، وليست سياقًا معرقلًا لتلك الحلول، وفق ما كان المبعوث الدولي السابق، ستيفان ديمستورا، يحاول تسويقه، وهو شيء خبرته بنفسي في العديد من اللقاءات ضمن نطاق عمل غرفة المجتمع المدني بجنيف.
وفي هذا السياق من المهم أن نثمّن وندعم تلك الجهود الحقوقية التي تبذلها منظمات سورية وأوروبية وازنة، والتي أثمرت عن توقيف ومحاكمة العديد من المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا أمام المحاكم الفرنسية والألمانية والسويدية والنمساوية والهولندية، وعن إصدار مذكرات توقيف دولية بحق العديد من القادة العسكريين والأمنيين الذين نأمل أن تطالهم يد العدالة يومًا.
فليس من الأخلاقي ولا من القانوني أن نتصرف ونسير نحو حل سياسي مزعوم أو مفترض وكأن شيئًا لم يكن، أو كأن مئات آلاف الضحايا قضوا في كارثة طبيعية، وأن عشرات آلاف المعتقلين والمختفين قسرًا لا قيمة لأوجاعهم وسني عمرهم المهدورة في الأقبية الرطبة، أو كأن تشريد ثلثي السوريين في مناحي الأرض أمر يمكن معالجته واستدراك آثاره.