إبراهيم العلوش
يقرّ أطراف الصراع الهدنة كمساحة تكتيكية لا علاقة لها بمعاناة الناس، فالحروب الإسرائيلية الحالية مثلًا، كانت دائمًا ضد وجود الشعب الفلسطيني الذي يعرقل أحلامها الاستيطانية، ويفسد عليها مظاهر الديمقراطية والرفاهية، وما إلى ذلك من “مكياجات” تجمّل بها وجهها الاستعماري الخَرِف.
بعد قرابة الـ50 يومًا من القصف المتواصل، تنفسنا الصعداء صباح الجمعة 24 من تشرين الثاني الحالي، ونحن نراقب شاشات التلفزة ومواقع “الميديا” بعد إعلان الهدنة التي تعيد لسكان غزة بعضًا من وجودهم الذي تنفيه إسرائيل، وفي أحسن الأحوال إذا اعترفت بهم، فإنهم بنظرها مجرد حيوانات بشرية، تقطع عنهم الماء والطعام والكهرباء والاتصالات، وتحتل المستشفيات التي قد تؤوي جرحاهم، وتدمّر المدارس التي يلجؤون إليها بعد تدمير بيوتهم.
ومثل هذا التوقف المؤقت للقصف جربناه في سوريا، جربه المحاصرون في غوطة دمشق وحمص وحلب ودير الزور ودرعا وفي الشمال السوري، حيث تقصف الطائرات والصواريخ والمدفعية مستهدفة المدنيين بحجة أن الإرهابيين يختبئون بينهم، وتهجّرهم من بيوتهم لتطهير البلاد من الإرهاب.
وبعدها تتفرغ للهندسة الطائفية التي تديرها الميليشيات الإيرانية، بعد أن قام الروس بكل ما يلزم من قصف صاروخي وجوي وتدمير المدارس والمستشفيات والأسواق الشعبية، بحجة مكافحة الإرهاب أيضًا!
عندما يتوقف القصف كنا نخرج إلى الشارع ونركض غير مصدقين توقف الانفجارات، نبحث عن “بقالية” أو عن بائع متجول نشتري منه الخبز أو الطحين أو أي شيء يؤكل، فالحرب التي يخوضها النظام وروسيا وإيران ضدنا لم تكن تأبه بنا كمدنيين، وهي مثل حرب إسرائيل اليوم على الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية، حرب معنية بالأهداف السياسية والاستراتيجية المزعومة ولا علاقة لها بالبشر إلا كمعوقات تقف حائلًا أمام تحقيق الأهداف الخيالية التي لن تجلب إلا المزيد من الحروب والأحقاد.
في هذه الهدنة بدأ الفلسطينيون يبنون خيام اللجوء بعد تهجيرهم من شمال غزة إلى جنوبها، وبدؤوا يتزاحمون على أبواب الأفران، وقد يستغرق الطابور عشر ساعات أو أكثر في مناظر تشبه مشاهد وقوف السوريين أمام الأفران، وعلى طوابير الغاز ومازوت التدفئة وبنزين السيارات، في وجوه غاضبة وحزينة تبحث عن الأمل في الخلاص من محنتها.
سوف تستأنف الطائرات الإسرائيلية قصف من استطاعوا أن يأكلوا أو من لم يستطيعوا، ستقتلهم أو تهجرهم من جديد أو تقترح طرقًا “فانتازية” للخلاص منهم، كأن يهاجر أكثر من مليوني غزاوي إلى صحراء سيناء في مصر، أو حتى إلى القطب الجنوبي، من أجل أن يرتاح قادة إسرائيل وأن يحققوا نصرًا يرقع فشلهم بحماية مستوطنيهم في 7 من تشرين الأول الماضي.
هذه الهدنة قد تفتح باب الأمل في زيادة الضغط العالمي على إسرائيل من أجل احترام القوانين الإنسانية والدولية، وإيقاف عقلية القبيلة الغاضبة التي تسحق الفلسطينيين متجاهلة أحقيتهم في الحياة على أرضهم.
العالم ينتظر هذه الهدنة لعلها تعيد بعضًا من المفاهيم الإنسانية إلى قادة أمريكا وألمانيا وبريطانيا، الذين رفضوا خلال أسابيع جهنمية قرارات وقف إطلاق النار ضد الفلسطينيين، وتمسكوا بحجة دفاع إسرائيل عن نفسها، حتى ولو حطمت كل القيم الإنسانية التي كانوا يتباكون عليها في الجبهة الأوكرانية، مع احترامنا لكل نفس بشرية وحقها في الحياة الآمنة والكريمة مهما كان انتماؤها.
وإذا فشل العالم في إجبار إسرائيل على وقف الحرب فإن الطائرات ستقلع من جديد، وتستعد الصواريخ والتصريحات الكاذبة لاحتلال الفضاء الإعلامي، ويستعد الفلسطينيون للبحث عن مكان آمن لأطفالهم أو البحث عن مستشفيات لجرحاهم، ويستعد قادة الجيش الإسرائيلي لتلاوة ادعاءاتهم عن عدم استهداف المدنيين رغم أن أكثر من ثلث مساكن الفلسطينيين قد تم تدميرها بقذائفهم الأرضية والجوية وهم ينشرون شعارات الانتقام الذي يودي بمئات ألوف الناس إلى البؤس والحاجة والخوف والحقد.
في نفس الوقت فإن الطائرات الروسية والقذائف المدفعية من جيش الأسد لا تترك للاجئين السوريين في الشمال مهلة للتنفس، وهي تنطلق حينما يشتهي قادتها غير آبهين بحالة اللاجئين وبؤس حياتهم، مستفيدين من انشغال العالم بأخبار فلسطين، مستعملين نفس التبريرات الإسرائيلية وهم يقصفون الخيام والمستشفيات والأسواق.
الحروب التي تجري في منطقتنا العربية هي حروب ضد الشعوب وليست ضد الجيوش الغازية أو المحتلة، فالبنادق الموجهة إلى الخارج صدئت بسبب عدم الاستعمال، أما البنادق الموجهة إلى الداخل فهي دائمة الانشغال بالقتل والتهجير.
حرب نظام الأسد ضد السوريين واللبنانيين والفلسطينيين لم تهدأ منذ أن استولى حافظ الأسد على الحكم في سوريا، أما الحرب ضد إسرائيل أو غيرها فلم تكن إلا خطوات تكتيكية وغير جدّية، وكثيرًا ما تكون مشوبة بالخيانة وطعن المقاتلين في ظهورهم، ولعل حادثة تسليم القنيطرة عام 1967 من قبل حافظ الأسد عندما كان وزيرًا للدفاع دليل يفقأ الأعين.
اليوم نشارك الفلسطينيين لحظات الهدوء والهدنة، ونراقب الخوف في أعينهم وفي أعين أطفالهم مثلما نراقب الخوف في أعين سكان الشمال السوري، نتنفس معهم لحظات السلام المفقود، ونصرّ معهم ومع محمود درويش على الأمل رغم كل هذا الجحيم:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة: عشب على حجر، أمهات يقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكريات!