حسن إبراهيم | حسام المحمود | خالد الجرعتلي
لم يكن القطاع الزراعي بمنأى عن الضرر الذي طال جميع مناحي الحياة في سوريا على مدار 12 عامًا، لتتحول من بلد زراعي يملك اكتفاء ذاتيًا في محاصيل استراتيجية، إلى بلد تتداعى ثرواته وموارده الزراعية، ويطال فيه الجوع أكثر من 12.1 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي.
وكانت الزراعة تشكل نحو 33% من الناتج المحلي للبلاد، لتنخفض إلى 17% عام 2010، وليس معلومًا أين وصلت الحال اليوم، مع انهيار هذا القطاع.
محاصيل استراتيجية من قمح وقطن وشمندر سكري وزيتون وحمضيات، كانت مصدر دخل للسكان ودعامة للاقتصاد المحلي من حيث الإنتاج والتصدير، تراجعت وتقلصت مساحة زراعتها، ما يعود بأثر مدمر على المزارعين والاقتصاد، ويغير نمط الحياة في البلاد.
ويعاني فلاحو سوريا في مناطق السيطرة الأربع نقصًا في الدعم وارتفاعًا في أسعار مستلزماتهم الزراعية، وعدم وجود أسواق لتصريف منتجاتهم، وتحديد الجهات المسيطرة أسعارًا للمحاصيل لا تتناسب مع تكاليف الزراعة ولا تترك هامش ربح للفلاح، وتنعكس زيادة الإنتاج خسارة على المزارع، فالإنتاج الوفير يعني أسعار محاصيل أقل.
تسلط عنب بلدي في هذا الملف الضوء على واقع زراعات ومحاصيل استراتيجية في سوريا، وتناقش مع باحثين ومختصين ومهندسين زراعيين وفلاحين أسباب تراجعها، وأثرها على الفلاح والسكان والاقتصاد، ونتائج تدهور القطاع الزراعي، وسط مؤشرات تدل على أن القادم أسوأ.
بالأرقام.. الزراعة تتراجع
يعتبر القمح من المحاصيل الاستراتيجية الرئيسة في سوريا، وكان متوسط إنتاج المحصول منذ 1990 إلى 2010 يزيد على أربعة ملايين طن، وسجلت سوريا في 2006 أعلى رقم في إنتاجه بمقدار 4.9 مليون طن، وفق المكتب المركزي للإحصاء، وكان متوسط الاستهلاك المحلي 2.5 مليون طن، ما أتاح فائضًا للتصدير يتراوح بين 1.2 و1.5 مليون طن.
وبلغت الكميات المتسلمة من موسم القمح في مناطق سيطرة النظام لهذا العام 725 ألف طن، وحددت حكومة النظام ثلاثة أسعار لشراء الكيلو أصدرتها تدريجيًا إثر انتقادات حادة بأن السعر لا يتناسب مع التكاليف.
وكان السعر الأول في 18 من نيسان الماضي، وبلغ 2300 ليرة سورية (بحدود 30 سنتًا من الدولار الأمريكي)، ثم حددت مرة ثانية سعر الكيلوغرام الواحد بـ2500 ليرة سورية، يضاف إليها مبلغ 300 ليرة كـ”حوافز تشجيعية”، ليصل السعر إلى 2800 ليرة للكيلو الواحد.
وبسبب قلة الكميات المتسلمة من المناطق الشرقية في سوريا، أعلن رئيس مجلس الوزراء، حسين عرنوس، عن منح الفلاحين “مكافأة تشجيعية” قدرها 200 ليرة سورية لكل كيلوغرام قمح يسلّم هذا العام إلى مراكز مؤسسة “الحبوب” في محافظة دير الزور.
ومنذ سنوات، تؤمّن حكومة النظام القمح من روسيا بطرق وأساليب متعددة، منها عبر اتفاقيات ثنائية نادرًا ما يتم الكشف عن أجزاء من تفاصيلها، أو عبر مناقصات تطرحها “المؤسسة العامة للحبوب” في سوريا لشراء القمح، أو ما ترسله روسيا من كميات وتسميه “مساعدات”، أو “سرقة” موسكو للقمح الأوكراني وإرسال قسم منه إلى سوريا، وفق ما كشفته جهات رسمية أوكرانية ووكالات أنباء، رغم نفي النظام لذلك.
إلى شمال شرقي سوريا حيث تسيطر “الإدارة الذاتية”، اشترت الأخيرة من المزارعين مليونًا و150 ألف طن من إنتاج القمح لموسم حصاد العام الحالي، بسعر 43 سنتًا من الدولار لكل كيلوغرام (3700 ليرة سورية)، وأعلنت، في 31 من تموز الماضي، إيقاف عمليات الشراء من المزارعين.
وحددت حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب سعر شراء القمح من الفلاحين بـ32 سنتًا للكيلوغرام (2870 ليرة سورية)، في حين حددته العام الماضي بـ45 سنتًا.
مدير المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب في حكومة “الإنقاذ”، أحمد عبد الملك، قال لعنب بلدي، إن المساحة المزروعة من مادة القمح لهذا العام وصلت إلى 32 ألفًا و800 هكتار، ووصل الإنتاج إلى قرابة 95 ألف طن، وبلغت الكمية التي اشترتها وزارة الاقتصاد من المزارعين في إدلب 52 ألف طن.
وذكر عبد الملك أن كمية الإنتاج تكفي المنطقة من مادة الخبز لثلاثة أشهر على أقصى تقدير، وتستورد “الإنقاذ” مادة القمح من الخارج، لافتًا إلى أن القمح المحلي يُستخدم في الأزمات وعند الحاجة الملحة لتوفير مادة الخبز للأهالي في فترة انقطاع الطحين لأي سبب كان.
وحددت “الحكومة السورية المؤقتة” سعر شراء القمح بـ33 سنتًا للكيلوغرام (2960 ليرة سورية) في مناطق سيطرتها، وبلغت تقديرات الإنتاج في مدينتي تل أبيض ورأس العين بين 200 و250 ألف طن، وفي ريفي حلب الشمالي والشرقي 40 ألف طن.
القطن متروك
توالت المشكلات التي تواجه محصول القطن في سوريا، الذي يعد محصولًا استراتيجيًا ثانيًا بعد القمح.
وتتضارب الأرقام حول كمية الإنتاج، إذ تشير بيانات دراسة نشرتها وزارة الزراعة السورية عام 2006، إلى أن إنتاج سوريا من القطن بلغ عام 2004 ما يزيد على مليون طن، بينما تشير بيانات قسم تقييم الإنتاج الدولي في وزارة الزراعة الأمريكية إلى أن محافظة الحسكة تنتج 38% من مجمل إنتاج القطن في سوريا، تليها الرقة بـ24%، ثم حلب بـ16%.
وانخفض الإنتاج خلال سنوات الحرب، إذ لم يتجاوز56 ألف طن لعام 2023 في مناطق سيطرة النظام، وفق تصريح رئيس “الاتحاد المهني لعمال الغزل والنسيج”، محمد عزوز.
ولم تستطع حكومة النظام هذا العام دفع قيمة مادة القطن المسوقة من الفلاحين إلى مؤسساتها، وسط وصول الكميات المسلّمة إلى نحو 1100 طن، بعد رفعها سعر شراء الكيلو من أربعة آلاف ليرة إلى عشرة آلاف ليرة (70 سنتًا من الدولار).
وحددت “الإدارة الذاتية” 80 سنتًا من الدولار للكيلو الواحد (نحو 11 ألف ليرة سورية)، دون إعلانها شراء المحصول، مع سماحها بتصديره خارج تلك الأراضي.
وفي إدلب، حددت “الإنقاذ” سعر شراء الكيلوغرام الواحد من القطن بـ70 سنتًا، وقررت شراء المحصول من المزارعين، مع توقعات بوصول الإنتاج إلى نحو 500 طن.
ولم تحدد “الحكومة المؤقتة” سعرًا للقطن أو رغبتها في شراء المحصول، وتراوح سعر الكيلو بين 50 و55 سنتًا من الدولار الأمريكي، ما ترك المزارعين والمحصول عرضة لاستغلال التجار.
الشمندر علف للحيوانات
انتهى المطاف بمحصول الشمندر السكري الاستراتيجي هذا العام علفًا للحيوانات، بعد رفض حكومة النظام تسلمه، رغم أنها حددت سعر شرائه بـ400 ليرة سورية للكيلو الواحد.
وبلغت الكمية الموردة من الفلاحين إلى معمل سكر “تل سلحب” 6552 طنًا، وأوصت اللجنة الاقتصادية في حكومة النظام بأن تتسلم المؤسسة العامة للأعلاف محصول الشمندر هذا العام، وأن تدفع ثمنه للمزارعين.
وعزت السبب إلى تراجع زراعة المحصول بمساحات كافية كي تعطي إنتاجًا وفيرًا يسهم في تحريك عجلة دوران معمل سكر “تل سلحب”، ونظرًا إلى قلة وضآلة الإنتاج، ارتأت اللجنة عدم جدوى تشغيل المعمل.
الزيتون يتراجع
احتلت سوريا المرتبة الرابعة عالميًا بين الدول المنتجة للزيتون من عام 2004 وحتى 2008، وصارت في المرتبة الخامسة عالميًا بإنتاجه عام 2011، بعد إسبانيا وإيطاليا واليونان وتركيا، ليتراجع ترتيبها إلى المرتبة السابعة خلال عام 2018، وبلغ الإنتاج حينها 899 ألف طن.
هذا العام يقدّر إنتاج الزيتون على كامل مساحة سوريا بنحو 711 ألف طن، منها نحو 304 آلاف طن في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وينتج عنها 49 ألف طن من مادة زيت الزيتون للاستهلاك المحلي، وفق ما أعلنته مديرة مكتب الزيتون في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، عبير جوهر.
ويبلغ عدد أشجار الزيتون في سوريا نحو 106 ملايين شجرة، منها 82 مليونًا مثمرة، وفق إحصائيات وزارة الزراعة.
الحمضيات.. كساد وتلف
في كل عام يتكدس إنتاج الحمضيات التي تتركز زراعتها في مدن الساحل السوري لدى الفلاحين ويتعرض للتعفن والتلف، ما يسبب خسارات كبيرة لهم دون حلول حكومية مجدية.
ولا يوجد أي معمل حكومي للعصر في سوريا، للاستفادة من الإنتاج وعصره لبيعه محليًا أو تصديره، ويقدّر إنتاج الحمضيات هذا الموسم بـ825 ألف طن، ولا يتجاوز ثمن كيلو البرتقال من نوع “أبو صرة”، أحد أكثر الأنواع المرغوبة، 2000 ليرة، وهو ما يعادل ثمن بيضة واحدة فقط.
أربعة أسباب.. نزاع وتكاليف ومناخ وحكومات
استطلعت عنب بلدي آراء مهندسين زراعيين يقيمون في مناطق جغرافية مختلفة، منهم المهندس خالد سليمان من سكان محافظة درعا، الذي أرجع أسباب تراجع القطاع الزراعي لعدة عوامل، أبرزها غلاء مستلزمات الإنتاج من محروقات ومعدات وأسمدة وأدوية وأجور نقل وعمالة وغيرها.
وبالنسبة للمحروقات قال سليمان، إنها باتت تشكل تحديًا كبيرًا للمزارع، وتعتبر تكاليفها هامشًا كبيرًا من الربح المتوقع للمحاصيل الزراعية، إذ وصل سعر ليتر المازوت (الديزل) إلى 14000 ليرة سورية، في حين لا تلبي كميات المازوت المدعوم المقدم من مديرية الزراعة للمزارعين أدنى حاجتهم.
ولم يقتصر الغلاء بحسب المهندس على المازوت، إنما شهدت أسعار الأسمدة والأدوية ارتفاعًا دفع المزارعين للتغاضي عن استخدامها، ما أثر على جودة وكميات المحصول.
وبحسب المهندس، فإن ثمن كيس السماد بلغ مليون ليرة سورية، إلى جانب مستلزمات أخرى اقترنت بالسعر نفسه، ما زاد من خسائر المزارعين.
المهندس قال لعنب بلدي، إن تجاهل تغذية الأرض بهذه المواد أفقر التربة وجعلها ذات خصوبة متدنية، وانعكس على كميات ونوعيات المحاصيل.
وفي محافظة درعا على وجه الخصوص، اعتبر المهندس أن من العوامل التي أثرت على القطاع بشكل كبير، جفاف المياه وخاصة في ريف المحافظة الغربي، حيث جفت معظم الينابيع والبحيرات ومئات الآبار، ما دفع بعض المزارعين للاكتفاء بزراعة محاصيل شتوية فقط.
محمود، هو مهندس زراعي يقيم في محافظة الحسكة شمالي سوريا، تحفظ على ذكر اسمه الكامل لمخاوف أمنية، قال لعنب بلدي، إن الحرب أثرت بشكل كبير على القطاع الزراعي، ودمرت البنية التحتية الزراعية.
وكان للعمليات العسكرية دور في هجرة جزء من السكان من مناطقهم الريفية، ممن كانوا يعملون في هذا القطاع الحيوي، ما ترك أثرًا سلبيًا على القطاع في المنطقة.
وأضاف أن سوريا سجلت نقصًا في الموارد المائية نتيجة تدهور البنية التحتية للري، ما أضعف القدرة على الزراعة ونوعية المحاصيل، إلى جانب تغيرات المناخ التي تعرضت لها سوريا كفترات الجفاف والفيضانات، ما أثر على قدرة الأراضي الزراعية على دعم الإنتاج الزراعي.
ولعب تدهور قيمة الليرة السورية دورًا رئيسًا في ارتفاع تكاليف الإنتاج، وصعوبة الوصول إلى الموارد الزراعية والتكنولوجيا اللازمة لها.
الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، قال لعنب بلدي، إن السياسة التي انتهجها النظام السوري عقب عام 2011 تجاه الثورة السورية، من حرق للمحاصيل وتدمير للبنى الزراعية، وضعت القطاع الزراعي بالكامل في خطر.
وأضاف أن هذه السياسة جعلت من سوريا والسوريين غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الأساسية من المحاصيل الزراعية، كما أضرت باقتصاد سوريا ككل.
ومن أبرز الأضرار التي لامست الاقتصاد السوري خلال السنوات الماضية، أن سوريا فقدت مصدر دخل للقطع الأجنبي عبر تصدير المنتجات الزراعية إلى الخارج، وفق شعبو.
وزادت هذه التداعيات من عجز الاقتصاد السوري، والفرد السوري، على حد سواء، إذ صارت الدولة كمنظومة غير قادرة على تأمين الاحتياجات الأساسية للسوريين، وانخفض العرض في الأسواق، وبالتالي ارتفعت الأسعار بالنسبة للسوريين، تزامنًا مع تدهور الليرة السورية، والأوضاع الاقتصادية المتردية الأخرى.
كيف انعكس تراجع الزراعة على سوريا
شكّلت الزراعة في سوريا 33% من الناتج المحلي عام 1970، وانخفضت إلى 27% عام 2001، بحسب دراسة نشرتها مجموعة العلوم الاقتصادية، ثم انخفض إسهامها في الناتج المحلي إلى 17.6%، وكان يعمل في القطاع الزراعي نحو 17% من مجموع قوة العمل أي قرابة 900 ألف عامل، بحسب تقديرات رسمية صدرت عام 2010.
وبلغت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة عام 2010 ستة ملايين و45 ألف هكتار، وزادت عام 2011، لتصبح ستة ملايين و68 ألف هكتار، بحسب بيانات زراعية وفرتها وزارة الزراعة بحكومة النظام السوري.
الإحصائيات نفسها لم تسجل اختلافًا جذريًا عام 2020، إذ قالت الوزارة إن الأراضي القابلة للزراعة في سوريا عام 2020، بلغت ستة ملايين و71 ألف هكتار.
ومن الجنوب السوري الذي يسيطر عليه النظام مرورًا بوسط جغرافيا البلاد حتى شمالها، تتردد أصداء شكوى الفلاحين من خسائرهم مع كل محصول إثر قلة الخدمات التي تقدمها السلطات.
وانعكست خسائر المزارعين بشكل رئيس على حياة الناس بشكل عام، ممن يبحثون عن بضعة كيلوغرامات من سلعة زراعية معينة، كمكوّن لوجبة طعامهم.
ومع مرور الوقت، تزيد الظروف البيئية والخدمية من رداءة الواقع الذي يعيشه المزارعون في سوريا، حتى ابتعد بعضهم عن العمل في هذا القطاع كما حصل مع مزارعين قابلتهم عنب بلدي.
فيصل تمو (45 عامًا) مزارع في قرية كرباوي بمحافظة الحسكة، قال لعنب بلدي، إن العمل في الزراعة كان مصدر دخل رئيس لمعظم سكان قريته خلال السنوات التي سبقت انطلاقة الثورة السورية.
وأضاف أنه ومعارفه من المزارعين الآخرين، كانوا قادرين على تحقيق اكتفائهم الذاتي، لكن الحال في الماضي لا تشبه الوضع الراهن بسبب الجفاف وسنوات القحط التي مرت بها المنطقة، وتأثرت بها المحاصيل الاستراتيجية.
وبالنظر إلى الوضع الراهن، قرر بعض المزارعين التخلي عن زراعة أصناف محددة من المحاصيل، بسبب ارتفاع تكاليف بعض الحاجيات الأساسية لإنتاج المحصول، بينما قرر مزارعون آخرون العزوف عن هذه المهنة بشكل كامل لأن الخسائر فاقت الأرباح.
وعلى بعد مئات الكيلومترات جنوبًا، لم تختلف الحال، إذ قرر يوسف السالم، المزارع في ريف درعا الغربي، ترك مهنة الزراعة قبل عامين، بعد جفاف مياه الري وغلاء مستلزمات الإنتاج، واتجه لتربية المواشي من أبقار وأغنام.
أحمد كيوان ولنفس الدوافع غيّر مجال عمله من قطاع الزراعة إلى التجارة، وافتتح محلًا لبيع المواد الغذائية، لأن الزراعة لم تعد تغطي تكاليفها، واستمرار العمل بها يؤدي إلى خسارة محققة، حسب قوله.
وأضاف أحمد أن من غير المنطقي شراء متر السماد العضوي بمليون ليرة سورية، نظرًا إلى أن أرباح المزارع تذهب لسداد ديون منتجات اقترضها من الصيدلية الزراعية.
وبينما ينتظر المزارعون في الساحل السوري موسم قطاف محصول الحمضيات الذي تشتهر فيه منطقتهم بفارغ الصبر لتأمين مستلزمات عائلاتهم وإيفاء ديونهم المتراكمة طيلة أشهر الزراعة، انخفضت أسعار المنتجات، بحسب ما قاله مزارعون من المنطقة لعنب بلدي، ما جعل بعضهم يفضّلون إبقاء ثمارهم على الأشجار على بيعها بأسعار زهيدة تكبدهم خسائر كبيرة.
وإلى شمال غربي سوريا، دخلت زراعات جديدة كالزعفران والورد الجوري والميرمية وإكليل الجبل لتحجز مكانها بدلًا من زراعات استراتيجية لم تعد تدر الأرباح.
خسائر للفلاح والمستهلك والاقتصاد
المهندس الزراعي محمود المقيم في الحسكة، اعتبر أن التراجع بالقطاع الزراعي في سوريا والتحديات المتزايدة التي يواجهها المزارعون، يمكن أن تؤثر على استدامة القطاع بشكل عام.
وقال المهندس محمود، إن هذا التأثير يبدأ بتراجع دخل المزارعين الذي يجعل من استمرار عملهم في الزراعة أمرًا صعبًا، وصولًا إلى فقدان العمال في قطاعات ذات صلة بمجال الزراعة أعمالهم، خصوصًا في المناطق التي تعتبر الزراعة مصدرًا رئيسًا للدخل فيها.
ويرى المهندس أن لتراجع القطاع الزراعي في المنطقة مآلات واسعة على المستهلك، والاقتصاد المحلي، كارتفاع أسعار الغذاء، ما ينعكس على تكاليف المعيشة للمستهلكين، ويؤدي إلى نقص في بعض المواد الغذائية الأساسية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة أو القطاع بالكامل.
ويعتقد الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو أن الواقع الجديد غيّر من ترتيب أولويات السوريين على المائدة المحلية، إلى جانب أن الواقع نفسه صار يتحكم بكمية هذه الأولويات نفسها.
بالاستناد إلى حديث المزارعين والمهندسين الزراعيين الذين قابلتهم عنب بلدي، انعكس تردي واقع القطاع الزراعي خلال السنوات الماضية على حياة المزارعين، وبالتالي على منتجاتهم، وعلى أسعار السلع في الأسواق.
هذه الانعكاسات لم تتوقف عند محفظة الفرد السوري، إذ يرى الخبير الاقتصادي فراس شعبو أن التأثيرات المتتالية لتراجع قطاع الزراعة أثرت على الاقتصاد بشكل عام، ما حول توجه حكومة النظام إلى الاستيراد لسد عجز السوق المحلية عن الإنتاج، بعد أن كانت تصدّر هذه السلع نفسها.
وخلقت استراتيجية الاستيراد مشكلة جديدة كونها تعتمد على القطع الأجنبي، وهو غير متوفر في خزينة الدولة، وفي حال توفره فهو منتشر بالسوق السوداء وبأسعارها المضاعفة، بالتالي فإن التجار يبيعون منتجاتهم بسعر صرف السوق السوداء لا بالسعر المعلن، ما تسبب بارتفاع كبير للأسعار، جعل المواطن عاجزًا عن شراء الكثير من حاجياته.
لا خطط بالأمس.. ولا اقتصاد اليوم
مؤشرات وأرقام وشكاوى وواقع اقتصادي ينحدر نحو الأسوأ منذ أكثر من 12 عامًا في سوريا، ويكشف الكثير عن معاناة الفلاحين وخسارتهم الموسمية دون سبيل لحل أو تعويض، واقتصار المسألة على قرار الفلاح الذي يتراوح بين مواصلة الزراعة وتحري المحصول الذي يعيد رأس المال وقليلًا من الربح، أو التوقف والترقب بآمال لا سند لها بتحسن في واقع القطاع الزراعي.
توصلت دراسة صدرت عام 2016، عن الإدارة الوطنية للملاحة والفضاء الأمريكية (ناسا)، إلى أن الجفاف الأخير الذي بدأ عام 1998 في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، التي تضم قبرص والأردن ولبنان وفلسطين وسوريا وتركيا، من المحتمل أن يكون أسوأ جفاف خلال القرون التسعة الماضية.
في أيلول 2021، صدرت دراسة تحدثت عن أن الجفاف غير المسبوق الناجم عن تغير المناخ، والذي تفاقم بسبب الري عند المنبع، أدى إلى إحداث الفوضى في بعض أقدم الأراضي الزراعية التي تغذيها الأنهار بالعالم في سوريا والعراق.
كما يعتبر الجفاف في عام 2021 الأسوأ منذ 70 عامًا، وهو أكثر خطورة من الجفاف الذي حدث بالفترة بين 2006 و2009، في السنوات التي سبقت الثورة في سوريا.
كل هذه العوامل تتناول الجانب المناخي من القضية، الذي تضاف إليه الحالة العسكرية في سوريا منذ أكثر من عقد، التي انعكست سلبًا على قدرة الفلاحين على مواصلة عملهم الزراعي، والاستثمار في أراضيهم لأسباب كثيرة، إلى جانب غياب الحلول الحكومية، وغياب الخطط التي تنتشل الفلاح من خسارة قد يحدثها ضعف إنتاج بفعل الطبيعة والطقس، أو قلة الرعاية لأسباب اقتصادية، أو فائض الإنتاج دون قدرة على التسويق.
المهندس الزراعي سامر كعكرلي، أوضح لعنب بلدي أن موضوع خسارة الفلاح السوري ينقسم لقسمين، قبل وبعد الثورة، كما تنقسم المحاصيل أيضًا لنوعين، استراتيجية، تسوّق عن طريق الحكومة كالقمح والشمندر السكري والقطن، وقبل حكم بشار الأسد كان الشعير والذرة منها، وغير استراتيجية، كالخضار والفواكه.
هذه المحاصيل التي تسوّق عن طريق الدولة لا يمكن القول إن مزارعها خاسر قبل الثورة، وفق كعكرلي، فطريقة البيع كانت تتم عبر مديرية الاقتصاد الزراعي، وفيها قسم دراسة التكاليف، لدراسة تكلفة الدونم على مستوى البذار والفلاحة والأدوية وغيرها، وريع الأرض، لتقدير تكلفة الهكتار ومتوسط إنتاجه في عشر سنوات، مرويًا وبعلًا، ثم التوصل إلى تكلفة الكيلوغرام، ورفع الأرقام إلى اللجنة الاقتصادية التي تضيف 25% إلى هذه التكاليف وتحدد السعر.
بالنسبة للشمندر السكري فله وضع خاص، جراء الخلاف على نسبة الجرم (تقطيع الشمندر)، ونسبة الحلاوة، أي نسبة السكر، وكان ذلك يظلم الفلاحين، وهو متعلق بعمل وزارة الصناعة، فمثلًا عند جني عشرة أطنان شمندر من أرض زراعية، يجري جرمها وتحديد “المجموع الخضري”، ما يعني انخفاض الوزن، أما نسبة الحلاوة، فطوابير طويلة كانت تنتظر أمام المعامل لأيام، والشمندر تنخفض حلاوته مع الوقت، ونسبة السكر تتراجع.
وعند وصول المزارع إلى وقت التسليم وفحص المحصول، تتسبب نسبة السكر المنخفضة برفض المعمل تسلم المحصول، ما يعني تحويله إلى علف، وبسعر أقل بالضرورة عن سعره المفترض.
بعد التحول إلى “سوق الاقتصاد الاجتماعي”، اتجهت الحكومة للضغط على وزارة الزراعة لتخفيض التكاليف، وقاومت الوزارة هذه الفكرة، لكن الأمور تغيرت مع الوقت، فهناك ما يسمى بـ”ريع الأرض”، أي تأجير الفلاح للأرض أو استثمارها سنويًا، وهو بند كانت تُرفض إضافته إلى دراسة التكاليف.
كما طالبت الحكومة بتخفيض أجور العمالة على اعتبار أن المزارع السوري يعمل في أرضه مع زوجته وأطفاله، وكل هذا في سبيل التوصل إلى تسعيرة دولة منخفضة، لكن رغم تأخر المصرف الزراعي في تسديد ثمن محاصيل القمح والقطن، لا يمكن القول إن الفلاح كان خاسرًا، وفق المهندس سامر كعكرلي، الموظف سابقًا في وزارة الزراعة بحكومة النظام.
وعلى مستوى المحاصيل الثانية، كالخضار والفواكه والأشجار المثمرة، فالفلاح كان خاسرًا، لعدم وجود خطة، فمديرية التسويق في وزارة الزراعة أُحدثت في وقت متأخر، والخطط الحكومية كانت تهتم بتسويق القمح والقطن والشمندر، وبقية المحاصيل لا خطة تسويقية لها، وكانت فكرة التسويق قائمة على “سوّق ما تزرعه”، في حين يجب أن تكون القاعدة “ازرع ما تسوّقه”، فالمبدأ الأول كان يضع الفلاحين أمام مطب كبير، يتعلق بالفائض وانخفاض السعر إلى ما دون التكلفة، نتيجة زيادة العرض، وكان ذلك يحدث لمحصول البندورة في درعا، والحمضيات في الساحل، وهي حالات لا تتدخل بها الحكومة عادة.
بالنسبة للكوارث الطبيعية، لم تكن الدولة تتدخل، وأنشأت صندوق دعم الإنتاج الزراعي، وصندوقًا للحوادث، وكان رأس المال الأولي للأول عاليًا لتعويض الفلاحين، ولم يكن تدخله كبيرًا إلا في الساحل، لتعويض أصحاب البيوت البلاستيكية، مع غياب عمل الصندوق عن الفلاحين في مناطق أخرى واجهت موجات صقيع.
وفي موسم الحمضيات، كانت الحكومة تضع جهدًا معنويًا لتسويق الحمضيات، بينما تترك البندورة في درعا، والتفاح في السويداء والزبداني وغيرهما، دون لجان للتسويق، والمزارع من مختلف المناطق كان يعاني الكساد نتيجة وفرة المنتج وغياب قنوات تصريف، كما أن الحمضيات لم تكن ملائمة للتصدير، لأن الإنتاج غير مطابق لرغبة كثير من مستهلكي الدول الأخرى.
كما كانت هناك صعوبة في تغيير صنف الزراعة، وغياب إرادة، وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، جرى التشجيع على زراعة الحمضيات والزيتون، لكن الزيتون يمكن عصره، أما الحمضيات فلا معامل تتعامل مع فائضها، لتحويلها إلى عصائر مثلًا، وفق كعكرلي.
وتؤثر البيئة والمناخ في خسارة الفلاحين، لكن العامل الأكبر غياب الخطط، وعدم وجود من يتحمل المسؤولية.
اكتفاء بالإنتاج.. فقر بالأدوات
خلال الثورة حصل الانهيار الاقتصادي، وبعد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، هدد الرئيس الفرنسي حينها، جاك شيراك، بفرض عقوبات غير مسبوقة على سوريا، وهو ما أخاف النظام فعلًا، فطلب من الوزارات تقديم تقارير، كل في قطاعه، عن التأثيرات المحتملة للعقوبات الأوروبية.
كانت النتائج كارثية زراعيًا على الأقل، وفق كعكرلي الذي كان موظفًا في وزارة الزراعة، لأن مستلزمات الإنتاج مستوردة، إلى جانب السماد والمبيدات بأنواعها، حتى مستلزمات التوضيب مستوردة، وهو ما يمكن قياسه على الواقع، في ظل تدهور قيمة العملة المحلية، واستيراد مستلزمات الإنتاج، ما يعني ارتفاع تكاليف الإنتاج بشكل كبير.
خلال الثورة، ازدادت معاناة الفلاح مع الانهيار الاقتصادي نتيجة حرب النظام، وضعف القوة الشرائية وتراجع قيمة العملة، كما أن تهريب المخدرات داخل شحنات الفواكه والحمضيات قلل من رغبة الدول الأخرى باستيراد الفواكه والخضراوات من سوريا.
ورغم سيطرة النظام مجددًا على بعض المناطق، هناك فلاحون بعيدون عن أراضيهم الزراعية التي تنتشر في بعضها نقاط عسكرية، وهناك مناطق في ريف حماة تُركت الحقول فيها للنهب والاستثمار على يد فئات أخرى، في ظل غياب المالك أو عدم السماح له بالوصول إلى أرضه.