عنب بلدي – حسام المحمود
في 16 من تشرين الثاني الحالي، أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، المرسوم رقم “36”، الذي نص على منح “عفو عام” عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخه، دون إسقاط دعوى الحق الشخصي (باعتبارها من اختصاص المحكمة الواضعة يدها على دعوى الحق العام).
المرسوم تضمن ست مواد من الاستثناءات التي تحول دون تطبيقه على بعض الفئات، وتراوح بين العفو عن كامل العقوبة، والعفو الجزئي، والعفو المشروط، وفق الحالة، واستثنى جريمة حمل السلاح “في صفوف العدو ضد سوريا”، وتهريب الأسلحة والاتجار بها، كما استثنى الجرائم المتعلقة بقانون “ضابطة البناء”، وجريمة “إضرام النار قصدًا بالحراج”، والجرائم المنصوص عليها في قانون حماية المستهلك، ولم يشمل الجرائم التي أدت إلى موت إنسان، وكذلك جميع الغرامات مهما كان نوعها.
وبعد الاستثناءات، تضمن المرسوم “عفوًا” عن كامل العقوبة للمصاب بمرض عضال غير قابل للشفاء، وللمحكوم عليه بحكم مبرم وبلغ 70 من عمره بتاريخ صدور المرسوم.
وشمل “عفوًا” مشروطًا لـ”الفرار الداخلي” على أن يسلم الشخص نفسه خلال ثلاثة أشهر، ولـ”الفرار الخارجي” على أن يسلم الشخص نفسه خلال ستة أشهر، وفق قانون العقوبات العسكرية الصادر بموجب المرسوم “61” لعام 1950.
وضم إلى جانب “العفو العام”، “عفوًا جزئيًا” عن العقوبات كتبديل عقوبة الإعدام بالسجن المؤبد، والسجن المؤبد بالسجن لمدة 20 عامًا، كما تضمن “عفوًا” عن كامل الجنح والمخالفات، والعفو عن جريمة الخطف إذا بادر الخاطف إلى تحرير المخطوف “بشكل آمن ودون أي مقابل”، بينما لم يشمل المتوارين عن الأنظار و”الفارين من وجه العدالة”.
المرسوم الذي جاء متزامنًا مع إصدار محكمة العدل الدولية أول قراراتها في إطار القضية المرفوعة ضد النظام السوري من قبل هولندا وكندا، قوبل بانتقادات حقوقية، كونه يستبعد المعتقلين بقضايا ذات أبعاد سياسية.
وكانت محكمة العدل الدولية أصدرت، في 16 من تشرين الثاني، قرارًا طالبت فيه النظام السوري باتخاذ خطوات لوقف التعذيب في سجونه.
من المستفيد؟
الدكتور في القانون والباحث في مركز “الحوار السوري” أحمد قربي، أوضح لعنب بلدي أنه بالعودة خطوة إلى الخلف، لم تكن مشكلة السوريين مع النظام مشكلة نصوص قانونية، فسوريا ليست دولة قانون، كون القانون لا يطبق على الحاكم قبل المحكوم، والدولة قائمة على تجاوز القانون، معتبرًا أن الغوص في تحليل النص وشموليته أو استثناءاته لن يأتي بفائدة، فالنظام لا يلتزم بتطبيقه أصلًا.
الباحث لفت إلى إصدار النظام الكثير من “مراسيم العفو”، بعضها يشمل الجرائم العامة، وبعضها يشمل الجرائم العسكرية، وأمام هذا الكم من المراسيم يفترض أن يكون الجزء الأكبر من المعتقلين خلال الثورة جرى الإفراج عنهم، لكن بالنظر إلى أرقام “الشبكة السورية”، فإن عدد المفرج عنهم في المرسوم السابق بلغ أقل من 7400 شخص، مقابل وجود أكثر من 135 ألف معتقل، وبعض من أفرج عنهم اعتقلوا قبل المرسوم بأيام، وبالتالي ليسوا محسوبين ضمن المعتقلين.
كما أن المجردين من أملاكهم لم تعد لهم أملاكهم، والمجردون من الحقوق المدنية لم تعد لهم هذه الحقوق، ويفترض بمرسوم “العفو” حين يصدر أن يرفع “الصفة الجرمية”، بمعنى أن الشخص الذي قام بارتكاب مخالفة معينة لم يعد مجرمًا، وصفحته بيضاء، ما يجعل هذه المراسيم بلا أثر، ولا يستفيد منها السوريون.
الفائدة سياسية
بحسب الباحث أحمد قربي، فإن المستفيد الوحيد من “مراسيم العفو” هو النظام السوري، والفائدة تتجلى بزيادة العنصر البشري في صفوف قواته، أو دفع غير الراغبين بالخدمة العسكرية لدفع بدل الخدمة، وهو دعم للعملة المحلية بالدولار الأمريكي.
وهناك فائدة سياسية للتأثير في الرأي العام، على مستوى عربي وإقليمي، وأمام الحكومات، وهو ما يجري على الأرض فعلًا، وهناك أيضًا “عفو” عن المجرمين المحسوبين على النظام، ويمكن إخراجهم من خلال المراسيم، بينما تنعدم تقريبًا فائدة المعارضين للنظام من هذه المراسيم.
وتناولت “المبادرة الأردنية” المدفوعة عربيًا للحل السياسي في سوريا آلية معالجة ملف المعتقلين على المدى القريب، من خلال تقديم النظام معلومات تفصيلية لمكاتب الأمم المتحدة عن المستفيدين من العفو الرئاسي الذي أصدره النظام (نيسان 2022)، إلى جانب الإفراج عن المعتقلين بشكل تعسفي، والاتفاق على إطلاق سراح المعتقلين بشكل تدريجي، والتعاون مع “الصليب الأحمر” لتحديد أماكن ومصير المفقودين والمخطوفين، مع وجوب حث كل الأطراف السورية وتركيا (قريبة من المعارضة وتفاوض النظام لتطبيع العلاقات السياسية معه) على التعاون للإفراج عن معتقلين منهم عسكريون وأمنيون عاملون في “الجيش السوري” و”الحكومة السورية”.
ويرى أحمد قربي أن “مراسيم العفو” ترتبط بضغوط خارجية لا داخلية، وهي وسيلة “تعمية” للإيحاء وإيهام الدول بأن النظام يقدم شيئًا للسوريين، علمًا أنها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، وفق تعبيره، فكل المراسيم التي لم تستطع الإفراج عن 10% من المعتقلين، ولا تعدو كونها “مراسيم شكلية لا تقدم ولا تؤخر”.
مشمولون بـ”العفو”
أكد المحامي الأول بدمشق، محمد عيد بالوظة، لصحيفة “الوطن” المحلية، في 21 من تشرين الثاني الحالي، أنه تم إطلاق سراح نحو 500 موقوف في دمشق، حتى 20 من الشهر نفسه، ممن شملهم “العفو”.
واعتبر بالوظة أن آثار ومفاعيل المرسوم ستستمر يوميًا، كونه شمل في بعض الجرائم ثلث العقوبة أو نصفها، وعندما يحين أجل المدة سيتم إطلاق سراح الموقوف.
كما أكد المحامي العام الأول في حمص، علي الداوود، أنه منذ صدور المرسوم باشرت النيابة العامة وقضاة التحقيق في حمص بدراسة أضابير الموقوفين وإطلاق سراح المستفيدين من أحكام المرسوم، سواء كانوا في دور التوقيف أو أقسام الشرطة.
وأوضح الداوود، في 22 من تشرين الثاني، أن عدد المستفيدين بلغ 220 موقوفًا منذ صدور المرسوم حتى 20 من الشهر نفسه، على أن يجري يوميًا إخلاء سبيل موقوفين مراعاة لأحكام المرسوم.
وفي 23 من تشرين الثاني، قال المحامي العام الأول في محافظة حماة، سيف فرج، إن عدد المطلق سراحهم حتى 21 من الشهر نفسه بلغ 159 موقوفًا في حماة، بينما بلغ عدد المستفيدين جزئيًا من “العفو” ولم يحن موعد إطلاق سراحهم نحو 12 شخصًا، لافتًا إلى أن الرقم ليس نهائيًا.
ثغرات حقوقية
“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أوضحت في تقرير لها أن 86 معتقلًا ومختفيًا قسرًا لدى النظام، ممن كان عمرهم 70 عامًا عند اعتقالهم، وما لا يقل عن 58 شخصًا ممن تجاوزا هذه السن بعد تاريخ اعتقالهم خلال السنوات الماضية، لم يفرج عنهم النظام رغم تضمين هذه المادة في العديد من مراسيم “العفو” السابقة، كالمادة “4” من المرسوم “13” لعام 2021، والمادة “3” من المرسوم “6” لعام 2022.
كما لفتت “الشبكة” إلى غياب أي أثر للمرسوم على المعتقلين والمختفين قسرًا، باعتباره منح “العفو” عن كامل العقوبة للجرائم المنصوص عليها في المادتين “285” و”286″ من قانون العقوبات (صدر بموجب المرسوم 148 لعام 1949)، إذا كان الجرم مقترفًا من سوري، وهذه الجرائم لا توجه الاتهامات بارتكابها عادة دون ربطها بجرائم أخرى لم يشملها المرسوم، كما أن المعتقلين شملتهم مراسيم سابقة لم تؤدِّ إلى الإفراج عنهم لهذه الأسباب.
مفرغ من محتواه
تقرير “الشبكة” أشار إلى أن النظام مستمر في سياسة إصدار مراسيم “العفو”، وهي لا تحمل أحكامًا تعزز آمال المعتقلين وعائلاتهم، وتأتي مليئة بالاستثناءات والثغرات والاشتراطات التي تفرغه من محتواه، إذ يستثني المعتقلين السياسيين والمعتقلين على خلفية الرأي والنزاع المسلح.
ويبقى “مرسوم العفو” بلا جدوى أو انعكاس حقيقي على عمليات الإفراج عن المعتقلين والمختفين قسرًا في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام، وكثافة المراسيم التي تستهدف مرتكبي الجرائم وتستثني المعتقلين سياسيًا تعكس خللًا في عمل إجراءات المحاكم.
كما أن النظام لم يفرج عما يتجاوز 3696 طفلًا، و144 شخصًا ممن تجاوزوا الـ70 من عمرهم في مراكز احتجازه، ممن شملتهم العديد من مراسيم “العفو” السابقة.
ومنذ عام 2011، أصدر النظام 23 مرسوم “عفو”، ما شكل كثافة تشريعية مرتفعة في إصدار هذه المراسيم، لكنها فشلت في إطلاق سراح المعتقلين والمختفين قسرًا.
وفي تحليل لمراسيم “العفو” الصادرة بين آذار 2011 وتشرين الأول 2022، أحصت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، في 16 من تشرين الثاني 2022، الإفراج عن 7351 معتقلًا تعسفيًا، مقابل أكثر من 135 ألف معتقل ومختفٍ قسرًا لدى النظام.