عنب بلدي – شمس الدين مطعون
ترتجف يدا المعلمة هبة الله (23 عامًا) وهي تلقي درسًا لطلابها في إحدى مدارس محافظة إدلب، وتعاني تسارعًا في دقات قلبها، وضيقًا خلال تنفسها، وباتت هذه الأعراض ترافقها بشكل مستمر منذ 40 يومًا، تزامنًا مع حملة تصعيد عسكري شهدتها منطقة شمال غربي سوريا من قبل قوات النظام وروسيا.
وقالت هبة لعنب بلدي، إنها تأكدت من طبيبة اختصاصية في أمراض القلب والداخلية من عدم وجود سبب عضوي للحالة التي تنتابها، لافتة إلى أن الطبيبة أكدت لها أن زيادة التوتر وقلقها الدائم الذي نجم عن خوفها من تكرار القصف الذي استهدف مكانًا قريبًا من مكان سكنها، هو السبب المباشر لمعاناتها.
وشهدت إدلب وأريافها وغربي حلب تصعيدًا عسكريًا خلال تشرين الأول الماضي، أسفر عن مقتل أكثر من 70 شخصًا وإصابة 349 آخرين، وتضررت أكثر من 40 منشأة صحية و27 مدرسة و20 شبكة للمياه.
وأثّر التصعيد على أكثر من 2300 موقع، وأدى إلى نزوح أكثر من 120 ألف شخص، وهو أكبر تصعيد في شمال غربي سوريا منذ عام 2019، وفق مكتب تنسيق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHA).
تصعيد جديد شهدته المنطقة خلّف آثارًا نفسية وجسدية على أشخاص عاشوا حالات الرعب والصدمة، وكانوا شاهدين على مجازر ارتكبتها قوات النظام وروسيا، وعلى نزوح قسري ومشاهد دموية “وحشية”، وقصف لم يستثنِ أحدًا.
واعتبر “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء) أن التصعيد على المنطقة جاء في سياق سياسة ممنهجة تهدف لضرب الاستقرار فيها، ونشر الرعب بين المدنيين الآمنين ومنعهم من عيش حياتهم الطبيعية، واصفًا تشرين الأول بأنه شهر دامٍ على السوريين.
مرض وخوف
أوضحت هبة أنها باتت تفزع من أي صوت قوي تسمعه، حتى من صوت إغلاق الباب أو مرور دراجة نارية مسرعة، معتقدة أنه صوت لقصف جديد.
أما السيدة رقية عبد الله (54 عامًا) من مدينة سرمين شرقي إدلب فتعاني ارتفاعًا في ضغط الدم، ورجفانًا برمشي عينيها المحمرتين من قلة النوم، نتيجة قلقها الدائم بسبب هاجس القصف الذي ربما تتعرض له المدينة في أي لحظة.
وأوضحت رقية لعنب بلدي، أنها لم تعانِ طيلة حياتها من أي علامات لمرض ضغط الدم، لافتة إلى أنها عاشت أيامًا أقسى خلال السنوات الماضية، إذ كان القصف أشد والوضع أسوأ، إلا أن شدة القصف بعد هدوء نسبي كان سبب معاناتها.
“لم تعد لدينا طاقة على معايشة أحداث قاسية مجددًا، كنت أخطط قبل فترة أن أخطب لابني، والآن أخشى عليه من مغادرة المنزل”، أضافت رقية متحسرة.
وباتت السيدة تعاني مرض ضغط الدم، وتحتاج إلى الدواء بشكل مستمر، كما تبين بعد تشخيص حالتها أن لديها تشنجات بالقولون، وهو ما قد يؤدي بها إلى الإصابة بمرض دائم يُعرف بالقولون العصبي.
“أمراض سيكوماتية”
طبيب الداخلية عدي الخطيب قال لعنب بلدي، إن هذه الأمراض تُصنّف على أنها نفسية جسدية، وتنتج عن ضغط انفعالي مستمر، بسبب مشكلات وأعباء الحياة اليومية ومشاعر الخوف والقلق.
وتُعرف بالمصطلح الطبي بـ”اﻷمراض السيكوماتية” (سيكوسوماتية)، إذ تركز بشكل خاص على وحدة الجسد والنفس والتأثيرات المتبادلة بينهما، كما أنها حالة نفسية تؤدي إلى أعراض جسدية، وغالبًا دون أي تفسير طبي، ويمكن أن تؤثر على أي جزء من الجسم تقريبًا.
وقال الخطيب، إن العلاج في مثل هذه الحالات يكون على شقين، الأول يعتمد على الأدوية الكيماوية، والثاني بصورة رئيسة على العلاج النفسي، وإزالة الأسباب التي نجم عنها المرض مثل الخوف والقلق.
وتابع أن حالة عدم الاستقرار التي تعشيها المنطقة، تقلل فرص العلاج وتتسبب بالتالي باستمرار المرض.
الأطفال ضحايا أيضًا
تراجع مستوى الاستيعاب بشكل ملحوظ لدى الطفلة ميرال، وهي تلميذة في الصف الثاني الابتدائي، إذ تبقى شاردة الذهن طيلة الوقت، كما باتت ترفض الذهاب إلى المدرسة، خاصة بعد تكرار تعليق الدوام المدرسي لمرات عدة منذ مطلع العام الدراسي، الذي تزامن مؤخرًا مع حملة القصف التي شنتها قوات النظام.
كانت عائلة الطفلة ميرال قد عادت للسكن مجددًا في مدينة سرمين شرقي إدلب في تشرين الأول الماضي، عقب نزوحهم لمرتين على الأقل جراء تكرار القصف على المدنية.
وقالت والدة الطفلة لعنب بلدي، إن ميرال تعاني كوابيس في أثناء نومها، الذي أصبح متقطعًا، كما تصيبها في بعض الأحيان حالة تبول لا إرادي.
“تسألني طفلتي قبل أن تنام، هل نتألم في حال سقط البيت فوقنا جراء القصف؟”، قالت السيدة وهي تحاول أن تحبس دموعها.
وأصيبت ميرال أيضًا بمرض اليرقان (أبو صفار)، إذ تشكل حالة الخوف التي أصابت الطفلة عاملًا رئيسًا في أمراضها النفسية والجسدية، وفق ما نقلته والدتها عن الطبيب الذي شخّص حالة الطفلة.
من جانبه، طبيب الأطفال أحمد حمدان قال لعنب بلدي، إن الصغار أكثر عُرضة للإصابة بالأمراض التي يشكل الخوف عاملًا مساهمًا في ظهور أعراضها، فيسبب مشكلات في النوم والانتباه.
وقد يظهر على الأطفال تململ وتهيُّج، إضافة إلى آلام المعدة والصداع وارتفاع الحرارة واليرقان (أبو صفار)، وهذه كلها أمراض يصبح الأطفال أكثر عرضة للإصابة بها عند تعرضهم لذعر شديد أو توتر مستمر.
وأوضح الطبيب أن الطفل قد لا يستطيع التعبير بشكل جيد عن هذه المشاعر، لذلك يلجأ لنوبات البكاء أو الكبت، وهو أخطر وينعكس على جسده بإصابة مرضية.
وانعكس واقع النزاع في سوريا على جميع فئات المجتمع ومنها النساء الأطفال، فكانوا أول الضحايا منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، وتركت الحرب آثارها على أجسادهم وشخصياتهم وسلوكهم ونفسيتهم.
وتؤكد تقارير لمنظمات معنية بالأطفال وأخرى إنسانية، أن ظروف الحرب في سوريا من قتل وقصف وتهجير، دمرت شعور الأطفال بالأمان، وحملت تهديدات كبيرة لصحتهم النفسية ونموهم، خاصة أن معظمهم كانوا شهودًا أو سمعوا أو عاشوا على الأقل حدثًا صادمًا واحدًا.
وأصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) تقريرًا، في آذار 2022، قالت فيه إن الحرب في سوريا تستمر بترك ندوب نفسية في الأطفال، وإن ثلث الأطفال السوريين يُظهرون علامات الضيق النفسي كالقلق والحزن والتعب واضطرابات النوم المتكررة.