عبيد، مسن تجاوز الـ60 عامًا، وهو نازح من دير الزور يقيم بمدينة القامشلي شرقي الحسكة، كان ينتظر في طابور لاستلام مخصصاته الغاز المنزلي حيث يقيم، وبعد مدة على الانتظار، أبلغه “الكومين” (مختار الحي) أن توزيع الغاز توقف، بسبب وجود مسيرة داعمة لعبدالله أوجلان، ما دفعه للتوجه عائدًا إلى منزله.
وخلال عودته، أوقفته فتاتان إحداهن كانت ترتدي زيًا عسكريًا، وطلبتا منه الانضمام إلى المسيرة، لكن عبيد أجاب أنه أرسل أبناءه لحضور المسيّرة، وسيلحق بهم فيما بعد، وهو ما لم يحدث فعلًا، لكنها كانت حجة للتهرب من المشاركة.
عبيد، اسم مستعار لدواع أمنية، أبدى خلال حديثه لعنب بلدي استياءه من هذه الفعاليات، إذ يرى أنها لا تختلف عن ممارسات “السلطات السورية” سابقًا، عندما كانوا يجبرون الموظفين والمواطنين والطلاب على المشاركة في المسيرات المؤيدة للنظام السوري، والآن تقوم “قسد” بممارسة نفس السياسات، ناهيك عن حملات التجنيد الإجباري التي كانت تنظمها.
وعلى شاكلة حزب “البعث” في سوريا الذي يمتد عمره لعشرات السنوات، تفرض “الإدارة الذاتية” (المظلة السياسية لـ”قسد”) على موظفيها المشاركة في مسيرات تدعو عبرها لإطلاق سراح زعيم “حزب العمال الكردستاني” تركي الجنسية، عبدالله أوجلان.
أحدث هذه الفعاليات نظمتها “قسد” بمدينة الحسكة، في 19 من تشرين الثاني الحالي، وأجبرت خلالها العديد من المدنيين والموظفين في دوائرها الحكومية على حضورها تحت التهديد بالعقاب للمتخلفين.
اعتقل مؤسس “العمال الكردستاني” في شباط عام 1999 في نيروبي بكينيا الإفريقية، وأُحضر إلى تركيا حيث سجن في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة.
وجاء اعتقال أوجلان بعد سنوات قضاها في سوريا تسبب خلالها بتوتر سياسي كاد يصل حد إعلان تركيا الحرب على سوريا في تسعينيات القرن الماضي. وبدأت محاكمته في تركيا في 31 من أيار 1999، واختتمت في 29 من تموز العام نفسه بالحكم بالإعدام بتهمة الخيانة والانفصالية، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد في تشرين الأول 2002. |
المشاركة بالإجبار
تجبر المؤسسات الحكومية والتعليمية أو العسكرية لدى “الإدارة الذاتية” العاملين فيها على المشاركة في هذه المسيرات تحت التهديد بالفصل للمتنعين.
شيرين، اسم مستعار لموظفة في هيئة التربية والتعليم التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في الحسكة، قالت لعنب بلدي، إن المسؤول عن قسمها يفرض علي العاملين تحت إدارته الخروج في المسيرات التي تطالب بحرية عبدالله أوجلان.
وأضافت أن هذه المسيرات كثرت خلال الفترة الماضية، دون تقدير أو اعتبار لاي ظروف، سواء كانت صحية أو جسدية أو حتى الظروف الجوية.
وكما هو الحال بالنسبة لصور بشار الأسد في دوائر الدولة، أو المدارس السورية، تجبر هيئة التربية العاملين في قطاع التعليم على تعليق صور أوجلان في الصفوف الدراسية، بحسب شيرين.
ولم تنحصر هذه الممارسات في القطاع التعليمي فحسب، إذ قابلت عنب بلدي موظفًا في هيئة البيئة المحلية لدى “الإدارة الذاتية” بمدينة الحسكة، الذي أبدى مخاوفه الأمنية من ذكر اسمه، وقال إن “الإدارة” تعمل على جلب مئات الموظفين من مؤسساتها في عموم شمال شرقي سوريا للمشاركة في المسيرات.
وأضاف أن الموظفين يتعرضون لتهديدات بالفصل والمحاسبة إذا رفضوا المشاركة، مشيرًا إلى العديد من الموظفين الذين فصلوا، أو خصمت أجزاء من رواتبهم الشهرية خلال السنوات الماضية، لعدم مشاركتهم في المسيرات أو الأنشطة الداعمة لـ”حزب العمال الكردستاني”.
أسس حزب “العمال الكردستاني” (PKK) في تركيا خلال سبعينيات القرن الماضي، كجماعة يسارية مسلحة، وصبغت نفسها كحركة انفصالية بمزيج فكري بين القومية الكردية والثورية الاشتراكية.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، دخلت بمواجهات عسكرية مع الجيش التركي، بغية نيل حقوق سياسية وثقافية، وتحقيق مصير كرد تركيا. وفي التسعينيات، اعتقلت السلطات التركية مؤسس الحزب، عبد الله أوجلان، الذي كان مقيمًا في سوريا، ويُعتقد أن النظام السوري سلّمه في صفقة سياسية، وأودعته تركيا أحد سجونها الذي لا يزال يمكث فيه حتى اليوم. ويرتبط “العمال الكردستاني” بمجموعة أحزاب كردية تشبهه من حيث المبادئ والعقيدة القومية، مثل حزب “الاتحاد الديمقراطي” في سوريا، وحزب “الحياة الحرة” في إيران |
تعطيل لحياة السكان
لا يقتصر الأمر على كون هذه المسيرات تشكل مصدر إزعاج للموظفين لدى “الإدارة الذاتية” وحسب، إذ أبدى تجار من محافظة الحسكة انزعاجهم من الفرض المتكرر لإغلاق المحال التجارية في بعض الأسواق خلال إقامة هذه الفعاليات.
مالك لأحد المحال التجارية في مدينة الحسكة، تحفظ على ذكر اسمه لمخاوف أمنية، قال لعنب بلدي، إن “الإدارة الذاتية” تجبر أصحاب المحال والتجار على إغلاق محالهم منذ سيطرتها على المنطقة كل عام في ذكرى اعتقال أوجلان لدى تركيا، وتلمح بمحاسبة الممتنعين، أو توجيه اتهامات لهم بأنهم “خونة أو عملاء”.
ويبلغ أصحاب المحال في رسائل عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي أو عن طريق مكبرات الصوت التي تجوب الأحياء والاسواق، بضرورة الإغلاق لوجود فعاليات.
رامي، من سكان حي السياحي بمدينة القامشلي، عبر خلال حديثه لعنب بلدي عن استيائه من خيام الاعتصام التي نُصبت للمطالبة بحرية عبدالله أوجلان أمام مبنى الأمم المتحدة في القامشلي في 19 من تشرين الثاني الحالي.
ويرى رامي أن خيام الاعتصام هذه تشكل مصدر إزعاج للسكان والمارة، خصوصًا وأنها تستمر لمدة تصل إلى أربعة أيام أو أحيانًا لأسبوع كامل، ما يعرقل حركة السير ويسبب ازدحامًا مروريًا.
وأضاف أن عناصر “قوات سوريا الديمقراطية” وقوى “الأمن الداخلي” (أسايش) يشغلون الموسيقى بصوت عالٍ ومزعج، ويهتفون مرددين اسم أوجلان، مسببين ضجيجًا في المنطقة، حتى أوقات متأخرة من الليل، دون أن يتجرأ أي من سكان الحي على الاعتراض.
ذريعة لتركيا
انتشار صور عبدالله أوجلان في سوريا، يشير إلى وجود حزب “العمال الكردستاني” في سوريا، وهي ذريعة القصف التركي والعمليات العسكرية التي أطلقتها أنقرة داخل الأراضي السورية بمحاذاة حدودها الجنوبية.
وترجع تركيا أسباب تحركاتها العسكرية في سوريا والعراق لانتشار “العمال الكردستاني” المصنف على قوائم الإرهاب لديها، وتعتبر أن “قسد” هي امتداد لـ”العمال” في سوريا.
وخلال السنوات الماضية، أطلقت تركيا ثلاث عمليات عسكرية في وسوريا، ولا تزال تلوح بعملية رابعة بين الحين والآخر، تمنعها اتفاقياتها التي عقدتها مع روسيا وأمريكا في المنطقة.
وبينما تنفي “قسد” باستمرار هيمنة “العمال الكردستاني” عليها، تظهر صور أوجلان في الشوارع السورية كأبرز أثر من آثار المنظمة في المناطق التي تتمركز فيها “قسد”.
اقرأ أيضًا: تياران داخل “قسد”.. أمريكا والمكتسبات يمنعان الصدام
شارك في إعداد هذه المادة مراسل عنب بلدي في الحسكة ريتا الأحمد.