حسن إبراهيم | جنى العيسى
تشتد أزمة نقص المياه في سوريا يومًا بعد آخر، وينخفض منسوب المياه إلى مستويات غير مسبوقة، وجفّت مصادر مياه رئيسة وأخرى في طريقها إلى الجفاف، وأسهمت أطراف الصراع بتدمير البنية التحتية التي كانت توفر خدمات المياه، فمنذ عام 2011، بدأت تبرز قضية المياه كأحد أهم التحديات للسكان المدنيين، بعد أن استخدمتها أطراف الصراع أداة لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية.
واعتبر المؤشر العالمي لمخاطر الصراع لعام 2022، أن سوريا أكثر البلاد عرضة للجفاف في منطقة البحر المتوسط، وحذرت الأمم المتحدة من أن موجات الجفاف في هذه المنطقة ستزداد طولًا وشدة، وأصبح الحصول على مياه صالحة للشرب يشكل تحديًا لملايين السوريين.
وتعد سوريا واحدة من بين 25 دولة (تضم حوالي ربع سكان العالم)، تتعرض حاليًا لإجهاد مائي مرتفع للغاية سنويًا، ما يعني أنها تستخدم أكثر من 80% من إمداداتها المائية المتجددة لأغراض الري وتربية الماشية والصناعة والاحتياجات المنزلية، وحتى الجفاف القصير الأمد يعرض هذه الأماكن لخطر نفاد المياه.
في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على مظاهر جفاف الموارد المائية بمختلف مناطق الصراع في سوريا، وانخفاض منسوب مصادر المياه الرئيسة فيها، وتناقش مع مسؤولين وخبراء وباحثين مختصين تأثيراتها وانعكاساتها البيئية والاقتصادية والسياسية.
فساد وتخريب ونقص محروقات في مناطق سيطرة النظام
في مناطق سيطرة النظام السوري بدأ عدد من الينابيع والبحيرات في الجنوب السوري بالانحسار التدريجي منذ صيف عام 2017، وجفت بحيرة “المزيريب” بشكل كامل عام 2020، وكذلك جفت بحيرة “زيزون” وشلالات “تل شهاب” جفافًا موسميًا في فصل الصيف.
وفي كل صيف تعاني السدود بمحافظة القنيطرة التي تعد من أهم مصادر مياه ري المساحات الزراعية انخفاضًا كبيرًا في مخزون المياه لديها، نتيجة قلة نسبة الأمطار والاستهلاك الزائد، وتضرر عدد منها.
وصارت حالة شح المياه في أحياء من دمشق وريفها شبه اعتيادية، وأجبرت معظم السكان على الاعتماد على مياه الصهاريج بشكل شبه كامل للاستخدام المنزلي أو للشرب، وسط ارتفاع أسعار متكرر تواجهه هذه الصهاريج، فضلًا عن عدم ضمان نظافتها.
وكشف تحقيق أنجزه مشروع “Syria Indicator” بعنوان “اللاذقية.. آلاف التعديات وحيتان فوق القانون” نُشر في كانون الأول 2021، عن دور التعديات على خطوط المياه (السرقة) في ظاهرة العطش بمدينة اللاذقية السورية، كما كشف عن ضلوع شخصيات نافذة من ضباط الجيش والمخابرات في سرقة المياه لسقاية مزارعهم وملء مسابح فيلاتهم.
وفي ريف حماة الشرقي، يعمل 29 مشروعًا فقط في وحدة مياه “صبورة” التابعة لمنطقة سلمية من أصل 88 مشروعًا معطلًا في المنطقة، بسبب الجفاف أو الدمار نتيجة العمليات العسكرية، وسط عجز مؤسسات المياه عن تأمين البدائل.
ولا تختلف الحال كثيرًا في بقية المحافظات السورية، حيث جفت أيضًا المصادر الرئيسة للمياه فيها، فيما تعرض جزء منها للتخريب بفعل الحرب، أو عدم التشغيل نتيجة غياب المحروقات والكهرباء، ما يؤدي إلى نفس النتيجة على السكان المتمثلة بغياب المياه بشكل شبه كامل، واضطرار السكان للاعتماد على مياه ملوثة.
الإجهاد المائي: هو نسبة الطلب على المياه إلى الإمدادات المتجددة، والمنافسة على موارد المياه المحلية.
كلما ضاقت الفجوة بين العرض والطلب أصبح المكان أكثر عرضة لنقص المياه، فالبلد الذي يواجه الإجهاد المائي الشديد، يعني أنه يستخدم ما لا يقل عن 80% من إمداداته المتاحة، بينما يعني الضغط المائي المرتفع أنه يسحب 40% من إمداداته.
وعانت سوريا ثلاث موجات جفاف منذ عام 1980، كانت أشدها بين 2006 و2010، وفق دراسة صادرة عن منظمة “باكس للسلام” الهولندية، وفي صيف 2021، شهدت سوريا مستويات قياسية منخفضة من هطول الأمطار، وتراجعًا حادًا في تدفق المياه إلى نهر “الفرات”، انعكس على تربية الماشية، إذ لم يكن هناك أي نمو في الغطاء النباتي في ربيع وصيف العام 2021.
سبعة أحواض مائية.. أبرز مصادر المياه في سوريا
تشمل الموارد المائية التقليدية في سوريا، الموارد المائية السطحية التي تتكون من مجموعة من المجاري المائية أي الأنهار الداخلية والخارجية وموارد المياه الجوفية، إضافة إلى الموارد المائية غير التقليدية التي تشمل مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي ومياه التحلية.
وتوصف الموارد المائية في سورية بالقليلة والمحدودة، وصنفت سوريا في مجموعة البلاد الفقيرة بالماء منذ عام 2000، إذ تحدد العوامل الطبيعية والجغرافية والسياسية حجم هذه الموارد.
ويبلغ عدد الأحواض المائية الرئيسة التي تختزنها الأراضي السورية سبعة أحواض مائية هي حوض الفرات وحلب، وحوض دجلة والخابور، وحوض الساحل، وحوض البادية، وحوض العاصي، وحوض بردى والأعوج، وحوض اليرموك، بحسب دراسة حول الموارد المائية، أجراها الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله، في آب 2016.
ويوجد عدد من السدود الكبيرة والمتوسطة ضمن هذه الأحواض، أبرزها سد “الفرات” و”تشرين” و”البعث” و”الوحدة” و”الرستن” و”قطينة” و”تلدو” و”محردة”.
ويتدفق في سوريا 16 نهرًا وروافدها، وخمسة منها مشتركة دوليًا (الفرات ودجلة والعاصي واليرموك والنهر الكبير الجنوبي)، ويمثل تدفقها حوالي 75% من إجمالي موارد المياه السطحية المنظمة في البلاد، وأكثر من 45% من موارد المياه المتاحة للاستخدام، وفق تقرير صادر عن موقع “Fanack Water” المتخصص بدراسة الواقع المائي بالشرق الأوسط، في نيسان 2019.
وتوجد في سوريا تسع بحيرات رئيسة، هي بحيرة “الأسد” و”جبول” و”تشرين” و”قطينة” و”العتيبة” و”خاتونية” و”مزيريب” و”البعث” و”مسعدة”.
انخفاض منسوب المياه في إدلب
انخفض منسوب المياه في المسطحات المائية والينابيع والأنهار والآبار بمناطق شمال غربي سوريا، سواء التي تسيطر عليها حكومة “الإنقاذ” في إدلب وريف حلب الغربي، ومناطق سيطرة “الحكومة السورية المؤقتة” بريفي حلب الشمالي والشرقي ومدينتي تل أبيض ورأس العين.
وفي أعقاب الزلزال، يحتاج 2.1 مليون شخص شمال غربي سوريا إلى مساعدة عاجلة في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة الشخصية، وفق أحدث تقارير الأمم المتحدة عن المنطقة التي تضم 4.5 مليون إنسان، 4.1 مليون منهم بحاجة إلى مساعدة، و3.3 مليون منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي.
المدير العام للموارد المائية في حكومة “الإنقاذ”، صالح الدريعي، قال لعنب بلدي، إن منسوب المياه في مناطق إدلب انخفض مقارنة بالعام الماضي، وأعطى مثالًا على انخفاض منسوب المياه في مدينة الدانا شمالي إدلب بمقدار 13 مترًا، وفي بلدة زردنا انخفض المنسوب خمسة أمتار، وفي سهل الروج انخفض ثلاثة أمتار مقارنة بالعام الماضي.
وأوضح الدريعي أن هناك عشر محطات ومشاريع ري في مناطق سيطرة “الإنقاذ” جميعها لتخديم الأراضي الزراعية، وتختلف المساحة المروية للمحطة أو المشروع من واحدة لأخرى، فمثلًا محطة ري “التلول” الشمالي والجنوبي على نهر “العاصي” بريف سلقين تروي 200 هكتار، بينما محطة “حير جاموس” تروي 55 هكتارًا، ومشروع ري سد “الدويسات” التجميعي يروي 100 هكتار، ومشروع ري سد “قسطون “يروي 200 هكتار، بينما تروي آبار الري في سهل الروج 260 هكتارًا.
عطش في ريف حلب ورأس العين
تتواصل مشكلة العطش وشح المياه في مدينة الباب بريف حلب الشرقي منذ سبع سنوات، وتتصاعد حدتها مع مرور الوقت، بدأت بعد سيطرة النظام السوري على مواقع ومحطات ضخ المياه “عين البيضا” و”الخفسة” بريف حلب الشرقي أواخر 2016، وقطعه المياه عن المدينة.
وتتفاقم معاناة أكثر من 300 ألف شخص من سكان مدينة الباب في تأمين مياه الشرب، وهناك أكثر من 4500 هكتار من الأراضي الزراعية في طريقها إلى الجفاف والتصحر نتيجة ندرة المياه.
ويعد الوضع المائي في المدينة غير منتظم، وخرجت خمس آبار عن الخدمة وبقيت ثماني آبار فقط تعمل في الباب، بمعدل تدفق 40 مترًا مكعبًا في الساعة، بحسب بيان للمجلس المحلي بمدينة الباب.
وفي جنديرس شمالي حلب، جفّ هذا العام نبع قرب مقام “عبد الرحمن”، وانخفض مستوى منسوب نهر “عفرين” إلى 90% تقريبًا (نهر عفرين من أهم المصادر التي تمد الأراضي الزراعية بالمياه، وينبع من جبال طوروس)، وبات سرير النهر يعاني حالة جفاف شديدة، وفق تصريح للمجلس المحلي في جنديرس وصل إلى عنب بلدي.
وأوضح المجلس أن منسوب المياه انخفض في عدد من الآبار الخاصة بمحطات المياه، واقتصر الأمر في بعضها على حدوث عكر في مياه الآبار، ويبلغ عدد محطات المياه العاملة في جنديرس 11 محطة، وانخفض منسوب المياه فيها بنسبة 20%، وجفّت حوالي 25% بئرًا من الآبار المنزلية، وانخفض منسوب المياه في الآبار الخاصة 25%.
مدير مؤسسة المياه بعفرين، عبد القادر الحافظ، قال لعنب بلدي، إن منسوب المياه في بحيرة سد “ميدانكي” انخفض بشكل ملحوظ وكبير، دون تقديرات لنسبة الانخفاض، لافتًا إلى أن محطة سد “ميدانكي” ومحطة “التصفية” في قرية شران هما أبرز محطات المياه في المنطقة وتغذيان عفرين واعزاز وقرية قيبار.
وانخفض منسوب مياه نهر “الخابور” وبات شبه جاف تاركًا آثاره السلبية على منطقة الجزيرة شمال شرقي سوريا، بعد أن كان موردًا مائيًا مهمًا للمنطقة.
وينبع “الخابور” قرب الحدود التركية- السورية، ويدخل سوريا من منطقة رأس العين ويمتد حتى البصيرة في دير الزور، ويبلغ طوله حوالي 320 كيلومترًا.
مدير مؤسسة المياه بالمجلس المحلي في رأس العين شمال غربي الحسكة حيث تسيطر “الحكومة المؤقتة”، بشير ملا مطر، قال لعنب بلدي، إن انخفاض منسوب مياه نهر “الخابور” الذي بات شبه جاف، أدى إلى انقطاع المياه عن أكثر من 40 قرية وبلدة، وأثر على أراضٍ زراعية بمساحة 2000 هكتار.
وذكر أن محطة “المناجير” هي محطة معالجة للمياه كانت تسحب من نهر “الخابور”، لكن جفاف النهر أوقفها عن العمل وبات الأهالي يعتمدون على الصهاريج الجوالة، لافتًا إلى أن منسوب المياه انخفض بين 5 و10 أمتار في آبار رأس العين، خلال العام الحالي فقط.
شمال شرقي سوريا.. منطقة “منكوبة” وعطشى
عانت منطقة الجزيرة السورية حيث تسيطر “الإدارة الذاتية” موجات جفاف متتالية خلال الأعوام الماضية، وخاصة منذ أواخر عام 2020، وانخفض مستوى المياه المتدفقة من تركيا إلى الجزء السوري من نهر “الفرات” بنسبة 65%، وفق تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عام 2020.
ويعتمد على النهر أكثر من 5 ملايين شخص في سوريا بشكل مباشر كمصدر للمياه، وتأثرت 54 من أصل 73 محطة مياه على طول الضفة الغربية لنهر “الفرات” بشكل كبير بسبب الانخفاض الخطير لمنسوب المياه، وفقا لتقرير لـ”أوتشا” في حزيران 2021.
وانخفض منسوب نهر “الفرات” إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، في أيار 2021، ما تسبب في أسوأ موجة جفاف منذ عام 1953، وفق دراسة أعدها مركز “دراسات الشرق الأوسط” للأبحاث (ORSAM).
الانخفاض الكبير في مخزون المياه بسدود “الطبقة” و”تشرين” و”البعث” على نهر “الفرات”، يهدد الإنتاج الزراعي في أكثر من 200 ألف هكتار من الأراضي المروية.
مطلع تموز الماضي، أعلنت مديرية المياه في الحسكة، أن المحافظة وتل تمر وقراهما ومخيمي “واشوكاني” و”رأس العين” مناطق “منكوبة” تكاد تنعدم الحياة فيها بسبب أزمة مياه خانقة، وتكررت عبر السنوات الماضية.
وأرجعت المديرية السبب إلى انقطاع مياه الشرب من محطة “علوك” الموجودة في مدينة رأس العين الواقعة تحت سيطرة فصائل “الجيش الوطني السوري”، متهمة كلًا من روسيا والنظام السوري وتركيا بالوقوف وراء ذلك.
وتحول نهر “جغجغ” (جقجق) الذي يعد شريان الحياة في القامشلي إلى مكب للنفايات ومجرى للصرف الصحي ومخلفات معامل وورشات في مدينة نصيبين التركية ومعامل في الحسكة، إذ ينبع النهر من تركيا ويسير في الأراضي السورية في مدن القامشلي والقحطانية، ويعتبر من الروافد الرئيسة لنهر “الخابور”.
في 25 من أيلول الماضي، خرجت محطة مياه “محكان” بريف دير الزور الشرقي عن الخدمة، بسبب تعرضها لأضرار نتيجة الاشتباكات بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومقاتلين من أبناء العشائر، وحُرم 17 ألف شخص من الحصول على المياه، وفق بيان أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).
وانتشرت ظاهرة “ملوحة التربة” في أراضي الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، أرجع فلاحون أسبابها إلى البطء في تنظيف وتأهيل مصارف المياه الزائدة، إذ يسبب تراكمها لأوقات طويلة ملوحة التربة.
وبحسب إحصائية قامت بها لجنة الري التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في المنطقة، فإن ما بين 2300 و2500 هكتار تعرضت للتملح، وصارت تربتها غير صالحة للزراعة.
أحد العاملين في محطة الري بقرية الشحيل بريف دير الزور (تحفظ على اسمه لأنه غير مخوّل بالتصريح)، قال لعنب بلدي، إن التملح نتج عن خروج “الآبار الشاقولية” عن الخدمة منذ عام 2013، مضيفًا أن الآبار البالغ عددها 85 بئرًا في المنطقة، تعمل منها حاليًا عشر آبار فقط بعد مبادرات محلية أدت إلى تشغيلها.
وتعرض قسم كبير من هذه الآبار للتخريب والسرقة، إذ نُهبت منها محطات الإقلاع، وكوابل الكهرباء، وشبكات الصرف المغطاة المسؤولة عن جر المياه الزائدة من التربة وتصريفها في نهر “الفرات”.
المياه ورقة ضغط وسلاح النظام نحو الشمال
أوضح المدير العام للموارد المائية في حكومة “الإنقاذ”، صالح الدريعي، أن النظام السوري يتعمد فتح بوابات السدود المقامة على نهر “العاصي” في فصل الشتاء وفي أثناء الفيضانات، ما يؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه النهر وغرق الأراضي الزراعية على ضفتيه في الشمال السوري.
وذكر أن النظام عمد في السنة الماضية إلى فتح مصرف معمل السكر في سلحب بحماة ورمي مخلفات المعمل في نهر “العاصي”، الأمر الذي أدى إلى نفوق الأسماك بسبب المواد الكيماوية والعناصر الثقيلة كالزئبق وغيره من المواد الشديدة السمّية.
وبعد ثلاثة أيام على الزلزال، غمرت مياه نهر “العاصي” أراضي ومنازل وخيامًا في قرية التلول بريف إدلب الغربي، وتسببت بنزوح أكثر من 150 عائلة، في 9 من شباط الماضي.
وزارة الزراعة والري في حكومة “الإنقاذ“، أرجعت ارتفاع منسوب المياه إلى فتح سد “الرستن” من قبل النظام السوري، إلى جانب انهيار سد “بيتوني” بين أنطاكيا والريحانية في تركيا.
وفي الوقت الذي تجاهلت تصريحات مسؤولي النظام وتغطيات وسائل إعلامه محافظة إدلب عند الحديث عن المناطق المتضررة جراء الزلزال (تطرّق النظام لذكر إدلب، للمرة الأولى خلال الكارثة، حين شملها بإعلانه المناطق المنكوبة جراء الزلزال)، واصل النظام استغلال الكارثة سياسيًا، ونقلت صحيفة “الوطن” الموالية عن محافظ إدلب، ثائر سلهب، أن وجود سد “التلول” في مناطق سيطرة المعارضة يمنع الجهات المختصة من الوصول ومعاينة السد.
ويسيطر النظام السوري على محطة ضخ مياه “عين البيضا” بريف حلب الشرقي منذ 2016، وهي معطلة، حارمًا مدينة الباب وضواحيها من مياه الشرب، إذ تعتمد المدينة منذ عام 2006 على مياه نهر “الفرات”، التي تصل إلى محطة ضخ “عين البيضا” القريبة من مطار “كويرس” العسكري، وتبعد عن الباب نحو 12 كيلومترًا.
ولا تتوقف ممارسات النظام عند ذلك، إذ لا يزال ركام محطات المياه التي دكّتها طائرات وصواريخ النظام وحلفائه شاهدًا على تدمير ممنهج لمقومات الحياة في المناطق الخارجة عن سيطرته، واستهدفت غارات روسية محطة ضخ مياه “العرشاني” غربي إدلب، في كانون الثاني 2022، أخرجتها عن الخدمة، وحرمت نحو 300 ألف شخص من المياه، ثم أُعيد تأهيلها بعد أسابيع.
اتهامات لتركيا قوبلت بنفي
تكررت اتهامات مسؤولي “الإدارة الذاتية” وتقارير أممية ومنظمات إنسانية لتركيا بخفض مستويات المياه المتدفقة من نهر “الفرات” إلى الأراضي السورية، ومسؤولية أنقرة عن تعطيل محطة “علوك” في مدينة رأس العين، وتقابل السلطات التركية هذه الاتهامات بالنفي.
كما يتهم النظام السوري و”الإدارة الذاتية” تركيا بخفض منسوب نهر “الفرات”، جراء احتجازها كميات أكبر من المعتاد في السدود التي أنشأتها على مجراه قبل بلوغه سوريا.
وتغذي محطة “علوك” مدينة الحسكة وريفها بالمياه، وتعتبر المصدر الرئيس للمياه لحوالي 460 ألف نسمة في مدينة الحسكة وتل تمر ومخيمي “الهول” و”العريشة”.
قالت “هيومن رايتس ووتش“، إن السلطات التركية فرضت قيودًا شديدة منذ شباط 2021 على تدفق المياه إلى الجزء السوري من نهر “الفرات”، بأقل بكثير من 500 متر مكعب وهو ما نصت عليه اتفاقية 1987 بين تركيا وسوريا.
وتحكم مبادئ عالمية استخدام المياه المشتركة، وتشمل التقاسم العادل والمعقول لموارد المياه، والالتزام بعدم التسبب بضرر جسيم للدول التي تتشارك الأنهار، والواجب العام بإخطار الدول والتشاور معها عند التخطيط لأي نشاط اقتصادي ذي صلة، ومنها قواعد برلين للموارد المائية.
من جهتها، تنفي تركيا الاتهامات وتلقي باللوم والأسباب على النظام السوري و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وهي الجناح العسكري لـ”الإدارة الذاتية”، وقالت الخارجية التركية في بيان لها عام 2021، إن “قسد” ونظام الأسد يعوقان عمدًا وصول الكهرباء إلى محطة “علوك” ما يجعل توفير المياه من المحطة مستحيلًا.
وتتوزع السدود التركية على نهر “الفرات” ويصل عددها إلى 14 سدًا، وأبرزها سد “أتاتورك”، وهي ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP)، الذي يهدف إلى توليد الطاقة الهيدروليكية والتحكم في الفيضانات وتخزين المياه.
واعتبرت الخارجية التركية أن الأخبار والتعليقات عن قيام تركيا بقطع مياه نهر “الفرات” أو بتخفيض الكمية التي تمرّرها عبره لا أساس لها من الصحة.
وقالت الخارجية، إن تركيا لم تقم في تاريخها بتخفيض كمية المياه التي تمرّرها عبر الأنهار العابرة للحدود بغية تحقيق أهداف سياسية أو أي غاية أخرى.
وذكرت أنه يجب عدم النسيان أن الضائقة المائية التي يتم الكلام عن حدوثها في سوريا والعراق، ناتجة عن هدر الموارد المائية المحدودة في هذين البلدين، وكذلك عن صراع الأطراف المتنازعة على السيطرة على هذه الموارد واستخدامها للمياه في خدمة أهدافها.
القادم أسوأ
تشير الدراسات إلى أن سوريا مقبلة على أوضاع سيئة في قطاع المياه، جراء الجفاف والحرب، وتحدث موقع “Fanack” عن توقعات بأن يتم استنزاف خمسة أحواض مائية في سوريا، هي “بردى والأعوج”، و”العاصي”، و”السهوب”، و”دجلة والخابور”، و”اليرموك”.
ويبلغ متوسط نقص المياه 1.727 مليون متر مكعب سنويًا، وسيصل إلى 6.2 مليار متر مكعب في عام 2050، بسبب الاستهلاك المتزايد وسوء إدارة الموارد غير المتجددة إلى جانب النمو السكاني والاقتصادي.
وسيؤدي انخفاض الهطول المطري وتذبذبه إلى تفاقم هذا الوضع، وانخفاض مستويات المياه الجوفية، وجفاف بعض الينابيع، وانخفاض تصريف بعض الأنهار، وفق “Fanack“.
الخبير الاقتصادي عبد الحكيم المصري، قال لعنب بلدي، إن التغير المناخي العالمي أدى إلى تغير في معدلات هطول الأمطار، وهي حالة عامة تعانيها عشرات الدول، لكن في سوريا أدى تخريب البنى التحتية لموارد المياه، وزيادة الحفر العشوائي للآبار، وعدم إجراء صيانة دورية، فضلًا عن هجرة الخبرات العاملة على إعادة ترميم قنوات الري والسدود، إلى جفاف أهم مصادر المياه فيها.
ومن ناحية القطاع الزراعي، تبلغ مساحة الأراضي الزراعية المروية مليونًا و35 ألف هكتار، وهي تستنزف أكبر قدر من المياه، ما سيزيد الضغط على المياه الجوفية، وينذر مستقبلًا بكارثة مالية ستكون تداعياتها كبيرة على الإنتاج الزراعي، بحسب ما قاله محمد منهل الزعبي، المختص في الشؤون المائية والموارد الطبيعية في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية التابعة للنظام.
المصري وهو وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، قال إن قلة توفر المياه ستؤدي بالتأكيد إلى انخفاض مساحات الأراضي الزراعية التي كانت تزرع بالري، وانخفاض الإنتاجية، فضلًا عن عزوف عدد كبير من المزارعين عن الزراعة نتيجة خسارتهم محاصيلهم.
الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات” محمد العبد الله، اعتبر أن ملف الموارد المائية متعدد الأوجه، وله وجه اقتصادي واجتماعي وسياسي وأمني، ولا يمكن فصل أحدها عن الآخر، ولا تقل أهمية المياه عن أي ملف عالق في سوريا، وتساءل عن وجود “تعافٍ مبكر” في ظل واقع مائي متدهور، خاصة في مناطق شمال غربي وشمال شرقي سوريا.
وقال العبد الله لعنب بلدي، إن المياه منذ 2011 إلى الوقت الحاضر كانت أحد الأسلحة الاستراتيجية بيد الأطراف الحاكمة بمناطق النفوذ والسيطرة في سوريا، ولم يتوانَ أي طرف عن استخدام هذا المورد كسلاح لتحقيق مكاسب خاصة سواء اقتصادية أو سياسية أو عسكرية.
صراع المياه.. سيناريوهات مقلقة
عند تحليل دور المياه بالصراع في سوريا، يتم الاعتماد على نماذج التسليح، حيث تتميز كل من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية بكونها تتصرف بأشكال متشابهة في استخدامها العنيف للمياه، وفق دراسة للباحثة مروة الداوودي بعنوان “تسليح المياه في الصراع السوري: استراتيجيات الهيمنة والتعاون”، صدرت في 2020.
وحددت الباحثة أربع استراتيجيات مترابطة لاستخدام المياه كسلاح، وتقوم على التحكم في الموارد والبنى التحتية، وهي الهيمنة والشرعية، والمياه كهدف عسكري (حين استهداف المحطات والموارد)، وكأداة عسكرية (مثل الاستيلاء على المياه لإرهاب السكان)، وأداة للتعاون (قطع المياه لتحقيق أهداف عسكرية)، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه يمكن من خلال الأنواع الأربعة أن يكون الماء سلاحًا هجوميًا ودفاعيًا على حد سواء.
وتوصلت الباحثة إلى ثلاثة استنتاجات حول دور المياه بالصراع في سوريا، أولًا، تشير الأحداث إلى أنه فيما بعد الحرب، ستتزايد إمكانية استخدام المياه كسلاح في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وثانيًا، يصبح من المهم التركيز على القدرات الدفاعية الهجومية المزدوجة للمياه، التي تسمح للجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية بإلحاق أضرار تتجاوز قدراتها.
وكان ثالث استنتاج هو ضرورة المراعاة الكاملة للطبيعة العنيفة والنتائج الاستراتيجية للتعاون المائي بين الأطراف المتعارضة في النزاع، وأنه عند دراسة السياسة المائية، يصبح الصراع والتعاون وجهين لعملة واحدة.
ودعمت دراسة استقصائية لمركز “السياسات وبحوث العمليات” (OPC)، في حزيران 2022، احتمالية تحقق سيناريو واحد من تأثير الجفاف على طبيعة وشكل الصراع في سوريا، وهو ارتفاع معدل الجريمة بأشكالها المنظمة وغير المنظمة، وتزايد معدلات الانضمام للميليشيات والجماعات المتطرفة.
واعتبرت الدراسة أن الجفاف، وسوء إدارة القطاع الزراعي والموارد المائية، و11 عامًا من النزاع، جميعها عوامل خلقت وستخلق مزيدًا من التداعيات الاقتصادية السلبية لأزمة الجفاف في سوريا.
وتتجلى تلك التداعيات في عدة أشكال، أبرزها نشوء حرب مزايدات على محصول القمح الشحيح بين مناطق السيطرة الأربع، وصعوبة شراء القمح من مصادر خارجية بسبب ارتفاع الأسعار عالميًا وشح القطع الأجنبي، واستمرار انحسار صادرات البلد التي تركزت معظمها في قطاع الزراعة خلال العقد الأخير.
كما تشمل التداعيات تضرر قطاع تربية المواشي نتيجة شح الأعلاف والمراعي وتضاؤل الطلب المحلي، وأخيرًا تضاؤل نشاط سوق العمل الزراعي كأحد أبرز قطاعات العمل في البلد.
“أطراف النزاع في سوريا لم تدرك إلى الآن مدى خطورة الوضع المائي القائم حاليًا ومدى خطورة التبعات المستقبلية له، وستتحول المياه إلى أزمة مستقبلية قد تفرز اندلاع نزاع جديد أو متجدد تتبعه حركات نزوح جديدة في عدة مناطق”.
محمد العبد الله – باحث في الشأن اقتصادي
وطرح الباحث محمد العبد الله بعض الحلول المتمثلة بضرورة تكاتف جهود جميع الفاعلين سواء من منظمات محلية ودولية معنية بالشأن السوري وهياكل حكومية، ووضع المياه كأولوية استراتيجية مستقبلية سواء من حيث الدعم المادي والدعم الفني، وعدم تقديم حلول ترقيعية.
وعلى السلطات المحلية التنبه إلى خطورة الوضع القائم والمستقبلي، والعمل على إنشاء هيئة ذات طابع استراتيجي معنية بالمورد المائي، والاستعانة بالخبراء على المستوى الدولي وخبراء محليين لتقييم الواقع ووضع حلول استراتيجية، وطلب الدعم والتمويل الدولي اللازم لها، وفق الباحث.