“أين يمكن للمرء أن يجد مدينة بمثل هذا الجمال وهذه الإمكانية للتطوير؟ مدينة تمتلك مثل هذا الإرث الغني، أي مدينة تمتلك مثل هذا الظل؟ إن جمال اسطنبول يفتن العالم بأسره في حين أن فوضاها الداخلية تعذب قاطنيها، وخلال السنوات الـ50 الماضية فُعل كل شيء لتدمير جمالها، ومع ذلك فهي لا تزال جذابة”.
استخدم المؤرخ التركي إلبير أورتايلي الجمل السابقة لوصف مدينة اسطنبول في كتابه “العثمانية آخر الإمبراطوريات.. إعادة استكشاف العثمانيين”، الصادر عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”.
الكتاب سلسلة من مجموعة كتب، ضمن مشروع جمع أحاديث أورتايلي حول العثمانية، تتضمن رؤيته للسلطنة التي يعتبرها آخر إمبراطورية عالمية بمعنى الكلمة.
ويسعى المؤرخ التركي، المولود في عام 1947 بمدينة بريغنز في النمسا، لإعادة تعريف العثمانية ليس بوصفها إمبراطورية استمرت لمئات الأعوام وسيطرت على بلاد ضمن ثلاث قارات (آسيا، أوروبا، إفريقيا)، بل باعتبارها هوية وثقافة جامعة عابرة للأعراق التي ضمتها.
ينطلق أورتايلي في كتابه من الإرث العثماني القديم في المدينة، الذي لا تزال آثاره قائمة إلى اليوم في المناطق السياحية والتاريخية باسطنبول، وتحديدًا في المنطقة الممتدة من السلطان أحمد إلى بيازيد، مرورًا بأكسراي وحتى السليمانية.
ويشير أستاذ التاريخ في جامعة “غالاطة ساراي” إلى أن عدم الحفاظ على هوية هذه المناطق يعني غياب أي إمكانية لحماية وفهم وإعادة إحياء تاريخ السلطنة العثمانية، وهو هنا يتقاطع مع الأيديولوجيا الحديثة التي نشأت على يد سياسيين أتراك خلال الأعوام الـ20 الأخيرة: العثمانية الجديدة، التي تدعو بدورها لإعادة الحضور العثماني في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للجمهورية التركية الحديثة، ومن أبرز منظريها، رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو، في كتابه “العمق الاستراتيجي“.
ينشر أورتايلي كتابه بعينين، عين المؤرخ الحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة “أنقرة” عام 1978، وأستاذ التاريخ فيها، وبعين العاشق لمدينة انتقل إليها قادمًا من النمسا وعمره عامان فقط.
وبين العينين، يحكي أورتايلي حكاية اسطنبول المدينة التاريخية، والآراء الشخصية له فيما يخص مستقبل المدينة العمراني.
تعاني اسطنبول بالفعل من الفوضى والزحام وتغير شكل العديد من أحيائها مع دخول الحداثة، وفي هذه النقطة يرى أورتايلي أن موقف المواطنين الأتراك من هذه الفوضى التي أصابت المدينة “ليس أقل من فعل انتحار، سيكون مصدر عار في أعين الأجيال القادمة”.
يروي أورتايلي في فصول الكتاب نظرته إلى السلطان عبد الحميد الثاني، ومحمد الفاتح، مع وصف دقيق لشكل المجتمع العثماني والعلاقات الاجتماعية فيه، مع تخصيص فصل كامل عن أحياء اسطنبول ومقابرها، والتجنيد والعائلة والمراحل التاريخية للدولة، بين دخول محمد الفاتح وضم اسطنبول لسلطنته، وصولًا إلى الحرب العالمية الأولى، كما يشير إلى معمار سنان ودوره في الهندسة المعمارية للمدينة واختلاف المدارس المعمارية كذلك.
لا يسعى الكتاب إلى تلميع صورة العثمانيين أو السلطنة، بقدر ما يهدف بالفعل لتقديم وجهة نظر مختلفة، تنتقد حينًا وتهاجم حينًا وتمدح حينًا آخر، دولة أثرت في سوريا والعالم العربي وتمازجت معهما لسنوات، قبل أن تؤدي الأحداث السياسية إلى انفصال سياسي وعرقي كانت له آثاره على تركيا وسوريا على حد سواء.
كما أن الكتاب مرجع لمن يود استكشاف المدينة، بعيدًا عن صورتها المبهرة في المسلسلات، أو صيتها الذائع في “البروباغندا” الإعلامية، صورة الشارع والناس والتاريخ، وهي مختلفة إلى حد ما، ولو قليلًا، عن الصور التي تروج للمدينة وتاريخها.
نُشر الكتاب بلغته الأصلية عام 2006، وترجمه إلى اللغة العربية باسم شيحا ونُشر عام 2012.