إبراهيم العلوش
تمايز الموقف الفرنسي من مذبحة غزة، التي لا تزال مستمرة منذ 8 من تشرين الأول الماضي، واختلف عن الموقف الألماني الأسير لجرائم ماضيه النازي، وكذلك عن الموقف البريطاني المندمج بموقف الرئيس بايدن الذي يرفض المطالبة بوقف إطلاق النار وإيقاف المحرقة الجارية بحق المدنيين الفلسطينيين.
مع تنظيم مؤتمر بباريس في 9 من تشرين الثاني الحالي، لدعم المدنيين الفلسطينيين بغزة، تعبّر فرنسا عن عدم تجاهلها لحالة الشعب الفلسطيني، رغم أن المستشار السياسي للرئيس السابق شيراك، موريس غوردو مونتاني، صرح في مقابلة له أن المواقف الإنسانية وحدها لا تصنع موقفًا سياسيًا، في انتقاد غير مباشر لسياسة الرئيس ماكرون التي تغيب عن المواقف الفرنسية الصريحة من القضية الفلسطينية منذ عهد الرئيس ديغول حتى بداية عصر ساركوزي.
بعد عملية 7 من تشرين الأول الماضي (طوفان الأقصى) التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية على مستوطنات “غلاف غزة”، وقفت الدول الغربية بشكل موحد مع إسرائيل، وظلت على ذلك الموقف رغم ارتفاع أرقام الضحايا من الفلسطينيين في عملية الانتقام العشوائي التي تنفذها حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، ودون أي خطة سياسية أو دبلوماسية لأهداف هذه الحرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
وفي البداية، تم منع التظاهر في باريس وفي مدن عدة رغم أن المتظاهرين خرجوا مستفيدين من الاستثناءات الديمقراطية للتعبير عن الرأي حتى دون تصريح ولمدة محدودة، وسمع الجميع تصريحات رئيسة مجلس النواب الفرنسية، المعادية للفلسطينيين، ما دفع رئيس التجمع اليساري جون لوك ميلانشون للتنديد بولائها المفرط لإسرائيل، مطالبًا إياها بألا تطلق التصريحات باسم فرنسا، بل باسمها الشخصي.
وفي مدينة ستراسبورغ التي تقدم نفسها كعاصمة أوروبية، تم منع التظاهر في الأسبوع الأول وتم سجن أربعة متظاهرين، لكن سرعان ما تدخل أحد النواب للإفراج عنهم، ولكن في 28 من تشرين الأول، قامت إحدى أكبر المظاهرات المطالبة بوقف الحرب وإنقاذ المدنيين في غزة، وسارت في قلب المدينة رافعة الأعلام الفلسطينية مطالبة بوقف الحرب، ولم تحدث أي مضايقة للمتظاهرين، ولا للشرطة، وتم إنهاء المظاهرة، التي بدأت من موقع الريف إيتوال وانتهت عند محطة القطارات المركزية بسلام.
مع تظاهرات بعض المنظمات اليهودية في أمريكا ضد المقتلة الفلسطينية، تحول الرأي العام كثيرًا، ولم يعد اليهود معنيين بالمذابح التي تقوم بها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، وفي ستراسبورغ أيضًا تعاونت جمعيات فرنسية مع بعض الجمعيات اليهودية لمناهضة الحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين.
رغم أن مؤيدي المذابح الإسرائيلية يحاولون اتهام مؤيدي وقف الحرب وإنقاذ أطفال غزة بأنهم معادون للسامية، فإن السلطات تحولت إلى موقف غير معادٍ لأي من الطرفين، إذ ظل الرئيس الفرنسي يردد بأن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، ولكن الدبلوماسية الفرنسية ناشطة في مساعدة المدنيين ومحاولات وقف الحرب، وخرجت أصوات حادة تطالب بالوقف الفوري للمجازر في غزة، منها لقاء مع دومينيك دوفيلبان رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، الذي قال على تلفزيون “فرانس انفو”، إن موت كل امرأة أو طفل سيخلف المزيد من العنف، وإن إسرائيل لن تعود آمنة مع استمرار هذا النهج المدمر.
في الجانب الآخر، فإن رئيس الوزراء البريطاني استمر بوصم مؤيدي وقف الحرب وإنقاذ الفلسطينيين بالعار، وهم كما يردد، يحملون أجندة معادية للسامية، وكررت ذلك وزيرة الداخلية بكل قسوة رغم فشلها وفشل رئيس الوزراء بالتأثير على قائد شرطة لندن لمنع المظاهرات في 11 من تشرين الثاني، بحجة ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية وضرورة عدم التظاهر والتشويش على تلك الذكرى.
أما في ألمانيا فلا تزال المواقف السياسية تعاني من الحصر والشعور بالذنب التاريخي الذي أسر الموقف الألماني وأخرجه عن النقاش الإنساني الدائر، بحجة وقف معاداة السامية، رغم أن المتظاهرين في ألمانيا يطالبون بوقف الحرب ضد المدنيين، الذين تتجاهلهم الحكومة الألمانية، وتم استدعاء المستشارة الألمانية ميركل ذات الشعبية الكبيرة بين المهاجرين لتناشدهم عدم التورط في معاداة المواطنين اليهود.
رغم أن فرنسا خسرت الكثير من نفوذها بسبب تحول مواقف قادة أوروبا الشرقية إلى تأييد الموقف الأمريكي بعد الحرب في أوكرانيا، وبسبب الخلافات الكثيرة مع الجار الألماني، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تحاول التمايز ولو قليلًا عن الموقف الأمريكي والإسرائيلي، معتمدة على الدعم من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، وغيرها من الدول الأوروبية التي تحاول استعادة المصداقية التي خسرتها أوروبا بعد اندلاع حرب أوكرانيا، وبعد اتهامها من قبل دول الجنوب بالكيل بمكيالين في مواقفها الدولية، كما يقول المستشار السابق للرئيس شيراك.
فرنسا وأوروبا التي تتشارك مع غزة شاطئ البحر الأبيض المتوسط، لم تعد تستطيع النأي بنفسها عن الصراع الدائر في الطرف الآخر من المتوسط، وهي مجبرة على التحولات عن مواقفها المؤيدة بشكل مطلق لإسرائيل، لأن أي خسارة لها هناك تتحول مباشرة إلى مكاسب إيرانية وروسية وصينية، مع سيل من الاتهامات بتجاهل القانون الدولي، وتحوّل قواعد حقوق الإنسان إلى مسرحية هزلية، خاصة بعد الزحف المستمر في فرنسا لليمين المتطرف، الذي يحلم بالانطواء على نفسه بعيدًا عن قيم التعاون وقبول الآخر، وبعيدًا عن العالم.
التحولات الفرنسية تتصاعد يومًا بعد يوم، والشخصيات العامة والمظاهرات تضغط على الحكومة من أجل عودة فرنسا الديغولية التي فرضت احترامها على العالم العربي، بعيدًا عن النهج اليميني المتطرف الذي يشكّل خسارة للشعوب العربية ولفرنسا نفسها كدولة قائدة على مستوى العالم.