علي عيد
قد يتساءل كثيرون، بمن فيهم الصحفيون، وهم يشاهدون رسائل مصورة أو بيانات مدموغة بعبارة “الإعلام الحربي”، هل يعمل هذا الإعلام بذات المعايير التي تعمل بها وسائل الإعلام الاعتيادية، أم أن هناك رخصة لهذا النوع، تبرر اعتبار من يصور من على ظهر الدبابة أو ينقل من داخل غرفة العمليات مجرد صحفي لا جزءًا من المعركة أو عناصرها.
ليس جديدًا استخدام الإعلام في خدمة الحروب، بل وبأقذر السبل وأكثرها دوغمائية، ومثل ذلك ما فعله بول جوزيف غوبلز، مدير الدعاية في عهد هتلر، ورئيس تحرير صحيفة “The Attack”، وهو الرجل الذي طبق قانون صحافة “الرايخ” (Reich)، وتسبب بطرد المحررين الصحفيين غير النازيين من الصحف والمجلات ودور النشر في ألمانيا.
سيطر غوبلز على كل قطاع الصحافة والثقافة، وكان يأمر بما ينشر وما يجب حجبه عن الجمهور، وهو صانع مجد أدولف هتلر، وصاحب أشهر عبارتين تذكران حين يتعلق الأمر بالإعلام النازي، أو الموجه، “اكذب، واكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس”، و”أعطني إعلامًا من دون ضمير، أُعطك شعبًا من دون وعي”.
سُقت تلك المقدمة لأقول إن كل ما يُكتب في الصحافة الحربية من قبل منظري ودعائيي العمل العسكري والأنظمة الشمولية، ليس سوى إلباس الغيلان أجنحة الملائكة، فعندما تقرأ مقالًا أو دراسة عن مهنية الإعلام العسكري فاعلم أن هناك من يريد أن يصنف الخبز مثلًا إلى خبز مدني وخبز عسكري، أو الهواء إلى هواء حربي وهواء سلمي، إلا أن الهواء والخبز هما الهواء والخبز، والصحافة هي الصحافة في كل مكان، وتصنيفها إلى صحافة حربية أو غير حربية لا معنى له، وإن كان لا بد من تصنيفها، فهي صحافة مستقلة أو غير مستقلة، مهنية أو غير مهنية، ويبقى الجدل قائمًا في موضوع الحيادية، لأن جميع الاختبارات لم تتوصل إلى وجود إعلام حيادي، خصوصًا إذا كنت تكتب أو تنقل من أرض المعركة.
لعل ما يبرر مشاهدة عبارة الإعلام العسكري أو الحربي في ركن الشاشة أو بصوت الناطق العسكري، هو أن هذا الإعلام هو ما يجب أن تتابعه وتصدقه أيها الجمهور، لأن العدو يبث سمومه وأكاذيبه عن المعركة.
الإعلام الحربي جزء من الحرب النفسية، وهو يقدم المعلومة التي تخدم المعركة فقط.
عام 2003، وعندما كان الأمريكيون على أبواب بغداد، خرج محمد سعيد الصحاف، آخر وزير إعلام في عهد صدام حسين، عشرات المرات مرتديًا البزة العسكرية وهو يتغنى ببطولات الجيش العراقي، وانتحار “العلوج” على أسوار بغداد، قاصدًا الأمريكيين، ثم تبين عكس ما كان يقول.
وقبلها، عام 1991، اضطرت قناة “NBC” الأمريكية لطرد مراسلها بيتر آرنت، لأنه انتقد الرئيس جورج بوش (الأب) والخطة العسكرية الأمريكية بحرب الخليج الأولى في تحليل عبر قناة عراقية، وقال بعدها، ربما مضطرًا، “أنا لست ضد الحرب ولست مناهضًا للعسكر”.
السياق في المثالين السابقين، هو أن الجيوش لا تتهاون في المعارك، ولا تقدم تنازلات من أجل الحقيقة حتى اللحظة الأخيرة.
تستخدم الحكومات والأنظمة والجماعات الإعلام الحربي واجهة لتقديم المعلومات التي لا يمكن للإعلام المستقل الوصول إليها، أو يمنع من مقاربتها، ومن النادر أن يستجيب “البنتاجون” مثلًا لسؤال صحفي حول خطة العمل العسكري بالمرحلة المقبلة في سوريا أو العراق، كما لن تستجيب وزارة الدفاع الروسية لصحفي يسأل عن حقيقة استخدام قاعدة “حميميم” الجوية في سوريا بنقل وتمرير السلاح لجماعات تتبع لإيران في المنطقة، وإذا حصل ردّ من الطرفين، فسيكون على شكل إيحاءات أو معلومات تخدم سياسة البلدين وخططهما العسكرية، حتى ولو كان الأمر يستدعي تزويد الصحافة بما يخالف الحقيقة.
ليس مطلوبًا استبعاد ملصق “الإعلام الحربي” من البيانات والرسائل المصورة والفيديوهات، لكن يجب عدم تصنيع نظريات حول الصحافة الحربية، تتحدث عن مهنيتها، والتزامها بإطلاع الجمهور على الحقائق، وتقديم معلومات دقيقة ومفصلة عن الأحداث والعمليات الأمنية والعسكرية أو الخسائر أو الخطط.
طالما أن “الحرب خدعة”، فلا يمكن تمرير تلك الخدعة إلا بالدعاية وإعلام الحرب، ولهذا نشأت إدارات الإعلام التابعة للأجهزة العسكرية والجيوش، كما ظهر الناطق العسكري خلال الحروب والصراعات.
بين عامي 1998 و2000، وخلال فترة التجنيد الإجباري بعد تخرجي في الجامعة، تم فرزي إلى فرع الإعلام التابع للإدارة السياسية في الجيش السوري، خبرت خلال عامين كيف تجري كتابة النشرة السياسية التي يقرؤها ضباط التوجيه السياسي في كل قطعة عسكرية داخل البلاد، كما خبرت كيف يجري إعداد مجلتين وبرنامجين عسكريين للتلفزيون والإذاعة، وكيف تدار العملية الإعلامية الخاصة بالقطاع العسكري، كان فرع الإعلام العسكري جزءًا من التضليل ومسح الأدمغة والأدلجة الفارغة، قد لا تصدقون لو قلت لكم إنني أجبت عن أسئلة موجهة إلى وزير الدفاع، وقتها، مصطفى طلاس، بأمر من مدير الإدارة اللواء جلال الجهني، ثم قرأت الحوار وكدت أصدق أنه هو من أجاب عن تلك الأسئلة، كنت وقتها في الـ24 من عمري، وكانت أولى التجارب العملية للإعلام الحربي المهني!
وللحديث بقية.