لمى قنوت
يخوض مراسلو الحرب في غزة، رجالًا ونساء بتنوعاتهن، معركة طاحنة بعدة أوجه، كالكفاح من أجل البقاء على قيد الحياة في مواجهة آلة حربية تستهدفهم وعائلاتهم بشكل مباشر، وسرد الحقيقة ودحض نزع السياق التاريخي لفلسطين وسكانها الأصليين أصحاب الأرض، وصناعة الخطاب الإعلامي، وتقديم محتوى يمكنه النفاذ من قيود التضيق على المحتوى الداعم للحق الفلسطيني، والتماسك أمام الأهوال والمصائب، والالتزام بمعايير المهنة، والتغلب على التحديات اللوجستية مثل قصف الاحتلال لشركة الاتصالات الفلسطينية وقطع الكهرباء ومنع إدخال الوقود إلى غزة.
ليس سهلًا أن تكون مراسل حرب في غزة، فمع جريمة التطهير العرقي الممنهجة التي يمارسها الكيان الغاصب، كطلبات إخلاء السكان من شمالي القطاع إلى جنوبه خلال24 ساعة، التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها “مستحيلة وانتهاك لقواعد الحرب”، يحاول بعض المراسلين، نساء ورجالًا، إنقاذ عائلاتهم وتوزيع أفرادها في عدة أماكن، عسى أن ينجو بعضهم من القصف والإبادة، وفي رحلة النزوح والتشريد القسري الجماعي، حيث لا تتوفر وسائل النقل، يمشي معظمهم سيرًا على الأقدام مع آلاف المشردين، كما هُجر أجدادهم قسرًا في عام 1948.
مراسلو الفضائيات، نساء ورجالًا، يفقدون أرواحهم الواحد تلو الآخر. قال مراسل تلفزيون فلسطين في غزة سليمان البشير باكيًا، بعد مقتل زميله محمد أبو حطب وعدد من أفراد أسرته بغارة إسرائيلية: “لا نستطيع أن نحتمل، لقد أُنهكنا، إننا هنا ضحايا شهداء مع فرق التوقيت فقط، نحن نمضي واحدًا تلو الآخر، ولا أحد ينظر إلينا، ولا إلى حجم الكارثة والجريمة التي نعيشها في غزة. لا حماية دولية على الإطلاق، ولا حصانة لأي شيء، لا تحمينا هذه الدروع ولا تحمينا هذه القبعات، إنها مجرد شعارات نرتديها، هي لا تحمي أي صحفي على الإطلاق. نحن هنا ضحايا على الهواء مباشرة، نفقد الأرواح واحدًا تلو الآخر بلا أي ثمن…” وخلع الدرع والقبعة المخصصة للطاقم الصحفي على الهواء مباشرة. وكان الاحتلال الإسرائيلي قصف منزل مراسل “الجزيرة” وائل الدحدوح في مخيم “النصيرات”، وقتل أفرادًا من أسرته، وقد نعاهم قائلًا: “ينتقمون منا في أولادنا”.
يفهم أطفال وطفلات غزة طبيعة العنف الاستيطاني الاستعماري، وجبروته المحصن من قبل “المجتمع الدولي الأبيض” الداعم لإبادة غزة، في انتهاك الجسد الفلسطيني، فمنذ أيام، عقدت مجموعة من الأطفال والطفلات (لا تتجاوز أعمارهم 12 سنة) مؤتمرًا صحفيًا أمام مستشفى “الشفاء” الطبي، قرأ خلاله أحد الأطفال بيانًا باللغة الإنجليزية، يُحاولون فيه إقناع العالم بأن قتلهم وتجويعهم خطأ:
“منذ 7 من أكتوبر (تشرين الأول) ونحن نواجه إبادة وقتلًا، القنابل تسقط فوق رؤوسنا، كل ذلك أمام العالم، يكذبون على العالم بأنهم يقتلون مقاتلين، ولكنهم يقتلون أهل غزة وأحلامهم ومستقبلهم، لم يتبقَّ للموت أطفال يحصد أرواحهم. أتينا إلى مستشفى (الشفاء) لنحتمي من القصف، ومرة أخرى لم يتبقَّ للموت أرواح أطفال يحصدها بعد قصف المستشفى. الاحتلال يجوعنا، لا يوجد لدينا ماء ولا غذاء، نشرب من المياه المستعملة. نأتي الآن لنعلي صوتنا وندعوكم لحمايتنا، نحن نريد أن نحيا، نحن نريد السلام، ونريد محاسبة قتلة الأطفال، نريد الدواء، الغذاء، التعليم، نحن نريد أن نحيا كما يحيى باقي الأطفال”.
يقدم شعب الجبارين جيلًا بعد جيل نموذجًا نضاليًا يثبت أن “المقاومة جدوى مستمرة”، كما قال المثقف المشتبك باسل الأعرج.
انضمت لمراسلي الحرب أصوات شابة، تنقل الصورة الواقعية في غزة، وتتحدث باللغة الإنجليزية، لإدراكهم العميق بحجم هيمنة “البروباغندا” الصهيونية التي تؤثر على الرأي العام العالمي ودافعي الضرائب، الذين يذهب جزء كبير من دعمهم إلى الاحتلال الإسرائيلي بكل الأشكال، ويعطيه الشرعية والغطاء السياسي لارتكاب جرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية.
نشارك تلك الأصوات الشابة تفاصيل حياتهم اليومية، وندور معهم في الأزقة وأروقة المستشفيات، ونطمئن معهم على نجاة ساكني العمارات التي يهدمها الكيان فوق رؤوس أصحابها، نرى آثار القصف والدمار، ونقلق على حياتهم حين ينقطعون عن البث.
منهم على سبيل المثال معتز عزايزة، مصور “فوتوغراف”، وأصبح مراسل حرب بعد جريمتي التطهير العرقي والإبادة الجماعية في غزة، كتب على صفحته في “إنستجرام” باللغة الإنجليزية: “صوري سافرت العالم، ولكن قدماي لا تطأ وطني”، ويشير إلى أنه مقيم في فلسطين المحتلة– قطاع غزة.
بلستيا العقاد، صحفية، أجرت مقابلة مع الدكتور غسان أبو ستة، تصور للعالم معاناة البقاء على قيد الحياة في غزة، وتكتب يومياتها باللغة الإنجليزية، ثم تنشرها ليقرأها العالم.
بيسان، تُعرف عن نفسها بأنها “حكواتية”، وصانعة أفلام، لجأت وعائلتها حاليًا إلى مستشفى “الشفاء”، وتصور معاناة النزوح والتشرد في المستشفى، تلقت أيضًا حصتها من الطعام والماء وتقدم محتوى باللغتين الإنجليزية والعربية.
أحمد حجازي، صانع محتوى فيديو، كتب على صفحته: “لفلسطين شعب يتحرر من الاحتلال”، نزح إلى مستشفى “الشفاء” في شمالي القطاع، ويقدم محتواه باللغة العربية.
هند خضري، صحفية، وضعت على صفحتها عبارة “التطبيع خيانة”. تقدم تغطية مباشرة عن الحرب على غزة.
عبود بطاح، البالغ من العمر 17 عامًا، يعرف عن نفسه بأنه أقوى مراسل في العالم لعام 2023، وبأنه الوريث الوحيد لشيرين أبو عاقلة، ينقل الأحداث بقالب فكاهي، ويقطع مسافة 4 كيلومترات ليستطيع تحميل فيديو ما يبثه وينقله.
لكن هذه الأصوات تتعرض لتضييق إلكتروني مستمر وحذف محتوى وحجب مباشر وغير مباشر أو ما يسمى بـ”Shadow ban” من قبل خوارزميات (algorithm) منصات التواصل الاجتماعي بشكل عام وإداراتها بحالات معينة. لذلك يدعو الناشطين والناشطات إلكترونيًا إلى دعم أصواتهم عن طريق المشاركة المستمرة للمحتوى الذي يقدمونه على شكل قصص (stories) حتى يتجاوزوا الحجب غير المباشر، ولكي تصل هذه الأصوات إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص حول العالم.
لن يكون العالم بعد 7 من تشرين الأول كما قبله، بالرغم من الانحياز المطلق للاحتلال الصهيوني وتمويل اقتصاده الحربي من قبل الدول ذات الإرث الاستعماري، فالمؤازرة الشعبية للقضية الفلسطينية تتنامى من قبل أطياف مختلفة في الشمال العالمي، وخصوصًا من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية والأمريكيين من أصول إفريقية والمهاجرين ومجموعات يهودية مناهضة للصهيونية تنادي بألا ترتكب الجرائم باسمهم.
تتجلى هذه المؤازرة بتصاعد وتيرة وحجم المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات، والمشاركة في حملات المقاطعة العالمية للبضائع والشركات الداعمة للاحتلال، وتزايد المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية بدفع من مؤثرين وناشطين، رجالًا ونساء، على وسائل التواصل الاجتماعي.