بأي دافع.. بثوث بلا محتوى يتابعها الآلاف على “تيك توك”
عنب بلدي – ريم حمود
داخل غرفة صغيرة مضاءة بشكل خفيف، وهدوء يسيطر على أجواء المكان، يطل أب برفقة أطفاله الثلاثة في حالة نوم عميق أمام كاميرا البث المباشر عبر تطبيق “تيك توك”، وآلاف يشاهدون وبعضهم يقدمون الهدايا للعائلة النائمة.
يبقى المشهد نفسه دون تغيير طيلة فترة البث لمدة تصل إلى ثماني ساعات أو أكثر، بينما تبقى المشاهدات في ارتفاع مع تبادل أطراف الحديث في التعليقات بنسبة ضئيلة مقارنة مع عدد المتابعين المتفاوت بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف شخص.
هذا البث واحد من بثوث مباشرة وتسجيلات مصورة عبر تطبيق “تيك توك”، لكن اختيار الآلاف من المستخدمين لما يشابهها دون هدف واضح من بثها، يشير إلى أسباب نفسية واجتماعية تدفع الجمهور نحو هذا النوع من المحتوى، وإلى خطورة متابعته بشكل متكرر على شخصية المشاهد للمدى البعيد.
بث “غير هادف”
رصدت عنب بلدي عديدًا من البثوث المباشرة على تطبيق “تيك توك” ذات الطابع غير المفيد، لا تختلف بطبيعتها كثيرًا، وتُعرض بملامح صامتة دون أي تواصل بين صاحبها والمشاهد، ولكنها تجذب آلاف الأشخاص لمتابعتها.
أحد التسجيلات يُظهر فتاة داخل مطبخ في أثناء قيامها بأعمال التنظيف وتحضير وجبة العشاء، مع أصوات صادرة عن حركتها داخل البث دون أن تنطق بكلمة واحدة مع آلاف المشاهدين الذين يتابعونها يتخلل ذلك محاولة للحديث معها عبر التعليقات في دقائق العرض الأولى، ليتجهوا لاحقًا إلى فتح أحاديث فيما بينهم.
بث آخر لراعي أغنام نائم وبجانبه نعجة، وتطفو على ملامحه وزيّه الشخصية البدوية، إذ يرتدي الجلابية والعقال، ووصل عدد المتابعين إلى 12 ألفًا، إذ تتوالى التعليقات بين مادح للرجل لكونه محبًا للحيوان الذي يجلس جواره، وبين آخرين يفتحون تعليقات جانبية لا صلة لها بمضمون البث.
تطبيق “تيك توك”، هو منصة تعرض تسجيلات مصورة، وتتيح للأشخاص فتح بثوث مباشرة دون فرض قيود أو قوانين تلزم صاحب الحساب.
ويسعى كثيرون لتحقيق الشهرة والربح المالي من وراء البث، عبر الحصول على دعم المتابعين، أو نسبة المشاهدة العالية.
مجتمع افتراضي “بديل”
يحاول صانعو المحتوى في تطبيق “تيك توك” عبر ظهورهم بطريقة غريبة جذب انتباه الأشخاص لمتابعة بثوثهم المباشرة، والحصول على الدعم المالي دون أي جهد أو صلة تربطهم بالجمهور.
عن الأسباب التي تقف وراء مشاهدة مثل هذا المحتوى، يرى الباحث الاجتماعي السوري صفوان موشلي، أن كل شخص من الأفراد الذين يتابعون هذه الأنواع من البثوث تجب دراسة حالته بشكل منفصل للوصول إلى السبب الرئيس، لاختلافها من إنسان إلى آخر، ولا يمكننا التعميم على آلاف الأشخاص دون الرجوع إلى خلفية المتابع الثقافية وظروفه المعيشية، وغيرها من التفاصيل الأخرى.
وأوضح الباحث الاجتماعي في حديثه لعنب بلدي، أن بعض المتابعين يلجؤون لمشاهدة التسجيلات المصورة للتخفيف من الفراغ في واقعهم، عبر تحقيق الانتماء إلى جزء من تجمع أو اتجاه أو مجموعة بحثًا عن “مجتمع بديل افتراضي” أكثر راحة بالنسبة لهم.
وأشار موشلي إلى أن عملية بحث المشاهد عن مجتمع بديل، تعود لمخاوفه في مجتمعه الواقعي على صعيد سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، وما يتبعها من مخاطر والتزامات لا تناسبه.
ويستغل كثيرون البثوث الطويلة التي قد تمتد لثماني ساعات للتعارف وبناء العلاقات بين المشاهدين، وفتح الأحاديث الجانبية بين آخرين كانوا قد تعارفوا في بثوث سابقة، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
عوامل مؤثرة
يتعلق السلوك النفسي والاجتماعي لمتابعي هذا النوع من التسجيلات المصورة التي تبث بشكل مباشر عبر “تيك توك” بأسباب مختلفة، ترتبط بدورها بالبيئة المحيطة والخلفية الثقافية والاجتماعية للمشاهد.
ووفق موشلي، فإن كيفية تفاعل الجمهور تختلف من منطقة لأخرى، بناء على جذور المشاهد واهتماماته، وبالتالي ترتبط بعمق الثقافة التي ينتمي إليها.
كما يوجد تناقض بين سلوك المشاهد والمناخ العام في بيئته المحيطة كوجود حرب أو احتفالات تحيط به، بحسب ما قاله صفوان موشلي لعنب بلدي.
ويرى الباحث الاجتماعي أن السبب في التناقض هو سعي المشاهد للشعور بالراحة والمتعة وتخفيف التوتر، ومع تكرار الحالة يصل بعضهم إلى حالة من الإدمان.
عنب بلدي استطلعت آراء 15 شخصًا، سألتهم ما إذا كانوا يتابعون البثوب المباشرة غير الهادفة على تطبيق “تيك توك”، وغرضهم من ذلك.
ستة أشخاص من المستطلعة آراؤهم قالوا إنهم لا يشاهدون البثوث التي لا تحمل هدفًا مهمًا، بينما رأى تسعة آخرون أن هذه البثوث تمنحهم السعادة، عبر محتوى غريب وصامت، كما يتمكنون من خلالها من بناء علاقات جديدة.
الاختصاصية النفسية آلاء الدالي، أوضحت لعنب بلدي أن الضغط النفسي يدفع المشاهد بعيدًا عن الواقع، لصرف الانتباه عن مشكلاته تعبيرًا عن الإحباط.
وأشارت الدالي إلى ضرورة الانتباه من الوصول لمرحلة إدمان هذه التسجيلات والبثوث، إذ إن الانخراط العميق للمشاهد بالعالم الافتراضي يؤثر على حياته الواقعية وعلاقاته الشخصية، ويصعب عليه الانفكاك من هذا الإدمان بمجرد رغبته بذلك، وهذا ما نشهده لدى بعض الناس عبر استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مبالغ فيه.
مخاطر المشاهدة لمدة طويلة
متابعة البثوث والتسجيلات المصورة لفترات زمنية طويلة، والانخراط في العالم الافتراضي، تسبب دخول الشخص في حالة من الانتباه اللاإرادي، إذ يصبح المحتوى الفارغ يجذب انتباهه دون شعوره، ما يعرّضه لصعوبة العودة إلى ما كان عليه وممارسة حياته بصورة طبيعية، ويضعف التركيز لديه.
وترى الاختصاصية الدالي أن مشاهدة المحتوى غير الهادف بشكل مفرط يقف وراءها عدم التوازن والمشكلات التي يعيشها الشخص خلال حياته، وتؤثر على شخصيته في المستقبل، وتتسبب بانفصاله عن الواقع المحيط.
ومن المتغيرات التي تطرأ على شخصية المشاهدين، مشكلات في الانتباه والذاكرة، وعدم القدرة على التركيز، وغياب السيطرة على النفس بتحديد مدة زمنية للمشاهدة واستعمال التطبيق والالتزام بها، وفقًا لآلاء الدالي.
دفاع عن المضيف
يوجه البعض انتقادات في التعليقات على البثوث المباشرة، تطال المحتوى غير الهادف أو المدة أو تركيز الصورة على مشهد بعينه، كصورة الرجل مع أسرته وهم نيام، والفتاة في المطبخ.
اللافت أنه على الرغم من غضب البعض من غرابة المشهد، فهم يستمرون بالمتابعة وتوجيه “الشتائم” ليظهر أشخاص آخرون يحاولون الدفاع عن أصحاب البث باعتباره حرية شخصية.
يلعب الجمهور دورًا في نشر المحتوى غير الهادف من خلال تداوله بسرعة ونشره بين الأصدقاء ودعم أصحابه، بالإضافة إلى الخوارزميات الذكية المستعملة في تطبيق “تيك توك”.
تعد الخوارزميات إحدى الطرق الرئيسة لجذب مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، وهي أنظمة توصية تحدد مقاطع الفيديو التي ستظهر أمام المتابع.
حقق تطبيق “تيك توك” أكثر من مليار شهريًا من المستخدمين النشطين في عام 2022.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :