يامن مغربي | خالد الجرعتلي
في وقت لا يغيب فيه صوت الطائرات المسيّرة والصواريخ عن أجواء القواعد الأمريكية في المنطقة الممتدة بين العراق والشرق السوري، تتحفظ الولايات المتحدة على الرد، باستثناء مرتين قصفت فيهما مستودعات أسلحة لميليشيات مدعومة من إيران شرقي سوريا، بحسب ما أعلنته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون).
وبحسب ما جاء على لسان مسؤولين أمريكيين، فإن عدم الرغبة الأمريكية بالتصعيد، تدفع واشنطن لامتصاص الاستهدافات المتكررة على قواعدها في سوريا والعراق، لتحول دون اشتعال مواجهة لا ترغب فيها مع إيران، خصوصًا في خضم الأحداث العسكرية المتصاعدة خلال الحرب الإسرائيلية على غزة التي اندلعت بعد عملية “طوفان الأقصى” في تشرين الأول الماضي.
أحدث المعلومات القادمة من واشنطن حول الاستهدافات المتكررة لقواعدها في سوريا والعراق كانت في 6 من تشرين الثاني الحالي، عندما قال السكرتير الصحفي لـ”البنتاجون”، العميد بات رايدر، إن العدد الإجمالي لجرحى القوات الأمريكية في سوريا والعراق بلغ 45 مصابًا إثر الهجمات نفسها.
وبقدر ما تبدي واشنطن قدرًا من “ضبط النفس” في ظل ظروف معقدة وحساسة تمر بها منطقة الشرق الأوسط، ستنعكس آثارها على الملف السوري بشكل مباشر، قد تستغل روسيا هذه الظروف لتحقيق مكاسب، ودفع إيران لمزيد من الاستهدافات للقواعد الأمريكية في سوريا والعراق.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع مختصين وباحثين، ظروف المواجهة ودور سوريا الجغرافي والعسكري فيها، والأسباب التي تدعو الولايات المتحدة لعدم الرد، وموقف موسكو، وغايات إيران من الاستهدافات المتكررة، وعلاقتها بالعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد حركة “حماس” وقطاع غزة في فلسطين المحتلة.
حوار ناري إيراني- أمريكي في سوريا
بعد نحو 40 استهدافًا مباشرًا لقواعد أمريكية في سوريا والعراق، تبنتها مجموعة عسكرية شيعية تحمل اسم “المقاومة الإسلامية في العراق”، اتهمتها واشنطن مباشرة بالتبعية لإيران، اكتفت أمريكا بالرد مرتين، عبر قصف مستودعات للأسلحة تستخدمها الميليشيات الإيرانية شرقي دير الزور، وفق “البنتاجون”، واقتصرت نتائجه على أضرار مادية.
لم تغب الأحاديث حول القواعد الأمريكية في سوريا والعراق عن الإحاطات الصحفية لمسؤولين أمريكيين منذ تشرين الأول الماضي، أحدثها كان لنائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيدانت باتيل، في 7 من تشرين الثاني الحالي، إذ قال إن بلاده وجهت رسالة “ردع عالية ومباشرة” لإيران، بشأن استعدادها لحماية أفرادها ومصالحها بقوة.
رسالة “الردع” التي أشار إليها باتيل وقصد فيها القصف الأمريكي نفسه شرقي دير الزور، في 28 من تشرين الأول الماضي، يبدو أنها لم تثمر، إذ تبعتها العشرات من الاستهدافات، خلّفت عشرات الجرحى من الأفراد الأمريكيين المنتشرين في هذه القواعد.
وقالت المجموعة التي تسمي نفسها “المقاومة الإسلامية في العراق”، عبر معرّفها الرسمي في “تلجرام” بسلسلة بيانات، في 7 من تشرين الثاني الحالي، إنها استهدفت قاعدة “حرير“ الأمريكية شمالي العراق بطائرتين مسيرتين، تبعه استهداف مماثل لقاعدة أمريكية في مطار “أربيل“، دون معلومات عن حجم الأضرار.
ولم يمضِ على الاستهدافين سوى ساعة واحدة، حتى أعلنت الجهة نفسها استهداف القاعدة الأمريكية في “القرية الخضراء” شرقي دير الزور عبر طائرات مسيّرة.
تبع ذلك هجوم رابع استهدف القاعدة الأمريكية في “حقل غاز كونيكو” شمال شرقي دير الزور برشقة صاروخية.
ولم تعلن الولايات المتحدة عن الأضرار الناجمة عن الاستهدافات حتى لحظة تحرير هذا الملف.
ما شكل الصراع الأمريكي- الإيراني
يرى الباحث بالشأن السوري في مركز “Century International” آرون لوند، أن الولايات المتحدة ستتعامل في الرد على الهجمات التي تسبب ضررًا للقوات الأمريكية أو تتجاوز “الخطوط الحمراء” في سوريا أو العراق أو مناطق أخرى.
لوند قال لعنب بلدي، إن إطلاق قذائف وصواريخ بشكل متقطع ليس بالأمر الجديد، لكنه قد لا يثير في حد ذاته رد فعل أمريكيًا، وفي الوقت نفسه، قد ترغب الولايات المتحدة بمواجهة التصعيد بالمثل إذا كان هناك شعور واضح بأن إيران وحلفاءها يصعّدون ضدها بالمنطقة.
يعتقد الباحث السويدي أن كلًا من واشنطن وطهران وحلفائهما الإقليميين يهددون بعضهم بعضًا على العلن، وبشكل غير علني أيضًا، ولكنهم ما زالوا غامضين إلى حد ما بشأن متى وكيف سيكون رد فعلهم على وجه التحديد.
وكان خطاب الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، الأحدث، مثالًا جيدًا على حرب الوكلاء الحاصلة في المنطقة، بحسب لوند، إذ ربط بشكل واضح بين أمن المصالح الأمريكية في المنطقة وسلوك إسرائيل في غزة وتجاه لبنان، لكنه لم يحدد بالضبط ما السلوك الإسرائيلي الذي قد يؤدي إلى الرد.
لعبة الانتخابات الأمريكية الرئاسية على خط التصعيد
تشهد أمريكا انتخابات رئاسية في 2024، وتنعكس هذه الانتخابات بدورها على قرارات الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في الملفات الداخلية والخارجية لواشنطن، خاصة أن منافسه المحتمل، الرئيس السابق، دونالد ترامب، يضغط عبر ملفي الاقتصاد وإيران.
وسبق لعدة صحف أمريكية أن سلطت الضوء على التحديات التي تواجه بايدن فيما يتعلق بحرب غزة، واحتمالية فتح جبهات جديدة من قبل إيران، واستغلال الحرب الإسرائيلية الحالية ضد قطاع غزة.
الباحث في مركز “عمران للدراسات” معن طلاع، يرى من جانبه أن الإدارة الأمريكية المقبلة على انتخابات رئاسية لن تغامر بدخول حرب استنزاف مع إيران في المنطقة العربية، قد تؤدي إلى إعادة ترتيب أولويات الإدارة الأمريكية على صعيد السياسة الخارجية.
وترتبط أولويات الإدارة الأمريكية اليوم بإنهاء “حماس” في غزة، محاولة حصر الحرب الدائرة بهذا الهدف وحده، والحيلولة دون تمدده خارجًا.
الباحث قال لعنب بلدي، إن العالم تكيّف مع المعطيات التي طرحتها واشنطن في هذا الصدد، وربطت تحركاتها بالمنطقة بحصر المعارك في غزة فقط.
وتلعب الانتخابات الأمريكية المقبلة، في 2024، دورًا في طريقة الرد الأمريكي أيضًا، خاصة مع استغلال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي يحاول خوض سباق الرئاسة المقبل، ملف إيران للضغط على منافسه، الرئيس الحالي، جو بايدن.
وفي تقرير نشرته مجلة “تايم“ الأمريكية، في 8 من تشرين الأول الماضي، يواجه بايدن خلال الحرب الإسرائيلية الحالية أزمتين مزدوجتين، الأولى هي الرهائن الأمريكيون الذين نقلتهم “حماس” إلى غزة خلال هجومها الأخير.
أما الأزمة الثانية فتتعلق بخطر انتشار الصراع في المنطقة، وهو ما يجعل واشنطن قريبة من الدخول في الصراع، خاصة مع احتمال لجوء إيران لتحريك حلفائها في لبنان وسوريا لفتح جبهات إضافية.
وسبق لترامب أن قال في تصريحات نقلتها وكالة “أسوشيتد برس”، في 12 من تشرين الأول الماضي، إنه نجح بتجنيب أمريكا الدخول في أي حرب مباشرة، منتقدًا السياسة الخارجية لبايدن.
وذكر أن العالم عانى من الفوضى وسفك الدماء والحروب والإرهاب والموت، في إشارة إلى هجوم “حماس”.
“مشروع الأمن القومي الأمريكي” لخص في مقال أسباب عدم رد واشنطن على الهجمات الإيرانية في سوريا والعراق، وتناولت الجانب الاقتصادي، الذي تمحور حول الآليات التي تمتلكها إيران للانتقام من خلال ضرب خطوط نقل النفط التي تهم الولايات المتحدة، سواء في العراق أو في المملكة العربية السعودية، التي تمر عبر مضيق هرمز، وهو ما سيؤثر على أسعار النفط عالميًا.
جدعون راشمان، كبير المعلقين على الشؤون الخارجية في صحيفة “فاينانشال تايمز” كتب في عمود رأي حول الشأن نفسه، أن إدارة بايدن تعتبر التهديد بحرب أوسع النطاق هو التحدي الرئيس في الأزمة القائمة بالشرق الأوسط برمتها، في إشارة إلى أحداث غزة والتصعيد بين سوريا والعراق.
وأضاف نقلًا عن مصدر وصفه بأنه “مطلع على بواطن الأمور في واشنطن”، أن جميع البلدان المعنية بالقضية نفسها لديها عتبات، إذا تم تجاوزها ستعتقد أن عليها أن تتحرك، لكن لا أحد يعرف حقًا ما عتبة الطرف الآخر.
وضع متوتر
في الوقت الذي لم تتوقف فيه الاستهدافات للقواعد الأمريكية بسوريا والعراق، واصلت الولايات المتحدة دفع قواتها العسكرية نحو الشرق الأوسط، إلى منطقة عمليات “القيادة المركزية الأمريكية” أو “سينتكوم” كما تعرف اختصارًا.
وتشمل مسؤولية القيادة المركزية للولايات المتحدة منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر بإفريقيا وآسيا الوسطى وأجزاء من جنوب آسيا، بحسب ما ورد عبر موقعها الرسمي.
وتبدأ أولويات نشاط “سينتكوم” بردع إيران، ثم مكافحة “المنظمات المتطرفة العنيفة”، والتنافس الاستراتيجي، بحسب ما وفرته عبر موقعها الرسمي.
لكن الهدف المعلن لنشاط القوات الأمريكية في المنطقة اختلف عن أولويات “سينتكوم” التي تدير هذه القوات، إذ تحدث السكرتير الصحفي لوزارة الدفاع الأمريكية، بات رايدر، عن أربعة أهداف لأمريكا في الشرق الأوسط بالوقت الراهن، أولها حماية القوات والمواطنين الأمريكيين في المنطقة.
وفي المرتبة الثانية، يأتي استمرار تدفق المساعدات الأمنية الحيوية لإسرائيل في إطار دفاعها ضد المزيد من الهجمات التي تقوم بها “حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) في خضم الأحداث الحاصلة في غزة منذ أكثر شهر.
الباحث المتخصص بالشأن السوري آرون لوند، قال لعنب بلدي، إن الولايات المتحدة كانت غامضة بشأن كيفية تعاملها مع التصعيد الإيراني أو “حزب الله”، ولم توضح سوى أنها مستعدة للتصعيد في ظل ظروف معينة، دون تحديد ماهية هذه الظروف.
وأضاف أن الوضع “متوتر”، إذ يقوم كل من جانبي التصعيد بفحص واختبار الخطوط الحمراء للجانب الآخر.
ويرى لوند أن إيران ربما تهدف لإبطاء التصعيد لتقييد القوات الإسرائيلية وممارسة الضغط على الولايات المتحدة مع تجنب صراع كبير.
“الاستراتيجية الإيرانية في حد ذاتها هي شكل من أشكال سياسة حافة الهاوية التي يمكن أن تؤدي إلى صراعات عرضية وغير مخطط لها، إنها لعبة عالية المخاطر لجميع المشاركين”.
آرون لوند – باحث بالشأن السوري في مركز “Century International”
التصعيد يرتبط بمحددات
الباحث في مركز “عمران للدراسات” معن طلاع، قال لعنب بلدي، إن تطور التصعيد الإيراني- الأمريكي في سوريا والعراق يرتبط بمحددين رئيسين، أولهما ألا تتيح واشنطن الفرصة لطهران بإشغالها في المنطقة، لخلق مفاوضات تخفف من العبء على غزة.
والثاني هو منع إيران من جر المعركة إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتعتبر الأراضي السورية هي المرشحة لتكون ساحة جديدة.
ويرى طلاع أنه لطالما ينحصر التوتر الأمريكي- الإيراني في إطار المناوشات المسلحة، والاستهدافات المتفرقة، فإن إيران لن تتمكن من جر المعارك خارج غزة.
ومنذ عملية “طوفان الأقصى”، التي أطلقتها “حماس” في 7 من تشرين الأول الماضي، ساد التساؤل عن دور إيران في العملية.
ورغم النفي الأمريكي الرسمي عبر وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، خلال لقاء مع قناة “CNN” الأمريكية، في 8 من تشرين الأول الماضي، تشير تقارير إلى إقامة غرفة عمليات مشتركة بين إيران و”حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” في بيروت.
ونشرت صحيفة ”وول ستريت جورنال” الأمريكية تقريرًا قالت فيه إن إشارة الهجوم انطلقت من قادة إيرانيين، ضمن اجتماع ضم قادة فلسطينيين أيضًا، قبل أسبوع واحد من شن “حماس” للعملية.
ولم تعلق طهران حينها على هذه المعلومات، في حين نفى الأمين العم لـ”حزب الله” اللبناني، حسن نصر الله، المعلومات بقوله، إن “إيران تدعم فصائل المقاومة بلبنان وفلسطين، لكنها لا تهيمن على قرارها”.
سبق ذلك تقرير نشرته صحيفة “الأخبار” اللبنانية، كان عنوانه ”غرفة عمليات مشتركة بين فصائل المقاومة.. لبنان في المعركة”.
في حين تناولت في ملف ثانٍ عملية نقل ملفات وأوراق مهمة جرت من مطار “رفيق الحريري” الدولي في بيروت، مع إعداد خطة لإجلاء موظفين وعاملين في منظمات دولية، أعدها الأمن الخاص بهذه المنظمات.
وأضافت أن غرفة عمليات مشتركة بين الحزب وفصائل فلسطينية وقوى أخرى تعمل معًا، مع توافق على الخطوات المقبلة، وربط العمل الميداني على جبهة لبنان وغزة بالوضع على الأرض.
إيران تنفي وتوزع الأدوار
وكما أن للولايات المتحدة الأمريكية حساباتها داخليًا وخارجيًا، لدى الجانب الإيراني حساباته في المقابل، خاصة مع تصويره كـ”قائد لمحور الممانعة في وجه إسرائيل”.
اللعبة الإيرانية المتبعة تترافق مع نفي رسمي لأي مسؤولية عن استهداف مصالح أو قواعد عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، وسبق لسفير طهران ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إرافاني، أن قال، في 7 من تشرين الثاني الحالي، إن بلاده لم تشارك قط في أي عمل أو هجوم ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق.
وجاءت تصريحات إرافاني ردًا على رسالة كتبتها الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن، تتهم فيها إيران بالعمل ضد قواتها في سوريا والعراق، بحسب ما نقلته وكالة “مهر” الإيرانية.
إرافاني وجه رسالة للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، جاء فيها أن الولايات المتحدة تحاول “إضفاء الشرعية على أعمالها العسكرية غير القانونية في سوريا”، وأن الادعاءات بأن إيران تشارك بهجمات على قواعد أمريكية في سوريا والعراق لا أساس لها من الصحة، وتهدف لـ”تبرير انتهاك الولايات المتحدة المستمر للقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة في سوريا”.
وسبق أن نفى وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أن تكون طهران مسؤولة عن هذه الهجمات.
نفي رسمي واستهدافات على الأرض
النفي الإيراني الرسمي لا يعني عدم استغلال طهران ظروف واشنطن الحالية في المنطقة، واستغلال رغبة الأخيرة بعدم التصعيد.
الكاتب والباحث مروان فرزات، قال لعنب بلدي، إن استهداف القواعد الأمريكية في سوريا والعراق من قبل أذرع وميليشيات تابعة لإيران، يعكس رغبة الأخيرة بإرسال رسالة بقدرتها على توسيع دائرة الصراع وتفجير المنطقة في أي لحظة.
ولا تؤدي هذه الاستهدافات إلى أضرار كبيرة في القواعد الأمريكية، وهو ما يفتح باب التساؤل حول جدواها، وإمكانية اعتبارها لعبة سياسية للضغط على واشنطن لا انخراطًا حقيقيًا في المعارك الحالية ضد إسرائيل.
وفق المحلل السياسي الدكتور نصر اليوسف، فإنه ومن خلال ما تعلن عنه واشنطن على الأقل، فالأضرار قليلة جدًا، وهو ما يعني أن هذه الاستهدافات غايتها إيهام الحاضنة الشعبية لما يسمى بمحور المقاومة بأن دول المحور لا تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري بين مكونين من هذا المحور (“حماس” و”الجهاد الإسلامي”) وإسرائيل.
عمليًا، بدأت استهدافات القواعد الأمريكية ما قبل العملية العسكرية الإسرائيلية ضد غزة، لكن وتيرتها تسارعت بعد 8 من تشرين الأول الماضي، وهو ما يعكس تغير اللعبة بين واشنطن وطهران في سوريا والعراق.
“الساسة الإيرانيون ليسوا أغبياء، وفهموا الرسائل الأمريكية، ولذلك يمارسون سياسة وسطية، عبر استهدافات غير ضارة يتم احتمالها دون الانخراط بشكل فعلي في الحرب”.
د. نصر اليوسف – محلل سياسي سوري
بالتزامن مع العمليات العسكرية الإسرائيلية، أعلنت واشنطن وبريطانيا عن إرسال حاملات طائرات وغواصات إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، كما حذر المسؤولون الأمريكيون نظراءهم الإيرانيين مرارًا من التدخل بالمعارك الدائرة في غزة، كذلك اتهمت إسرائيل عبر المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال، دانيال هاغاري، طهران بتقديم دعم مباشر لـ”حماس” في معركة “طوفان الأقصى”.
وصول حاملات الطائرات، جسر الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل، يرسل رسالة واضحة لإيران لا يمكن أن تتغاضى عنها الأخيرة.
ووفق اليوسف، فإن الساسة الإيرانيين ليسوا أغبياء، وفهموا الرسالة ولذلك يمارسون سياسة وسطية، عبر استهدافات غير ضارة يتم احتمالها دون الانخراط بشكل فعلي في الحرب.
هل تتطور الاستهدافات وتتوسع الاشتباكات؟
الرسائل المتبادلة على الأرض بين طهران وواشنطن، وتعقيدات المنطقة واستمرار إسرائيل بعمليتها العسكرية، وارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، عوامل قد تغير قواعد اللعبة الحالية بين الطرفين، وفقًا لنقاط القوة والضعف لكل منهما، والخسائر المحتملة.
تملك الولايات المتحدة قواعد عسكرية في السعودية وقطر والكويت والإمارات، ويتمركز الأسطول الخامس في البحرين، ويعد أكبر قاعدة عسكرية بحرية في الشرق الأوسط، ويتكون من حاملات طائرات وغواصات وآلاف من جنود البحرية الأمريكية.
وسبق لواشنطن أن أعلنت، في أيلول الماضي، عن توقيع اتفاقية أمنية موسعة مع البحرين، كما تعلن على نحو متكرر عن “التزامها بأمن منطقة الخليج العربي“، وتعقد اجتماعات دورية مع قادة عسكريين في هذه الدول لنقاش أمور عسكرية، بينها التسليح الأمريكي.
وتغطي منطقة عمليات الأسطول الأمريكي الخامس نحو 2.5 مليون ميل مربع من المساحة المائية متضمنة الخليج العربي، وخليج عمان، والبحر الأحمر، وأجزاء من المحيط الهندي، وثلاث نقاط في مضيق هرمز، وقناة “السويس”، ومضيق باب المندب، بحسب الموقع.
وفي 21 من تموز الماضي، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية (سينتكوم) عن زيادة قواتها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، ردًا على “خروقات” إيران البحرية في منطقة عمل القوات الأمريكية.
في حين تمتلك إيران صواريخ باليستية بعيدة المدى وطائرات مسيّرة، بالإضافة إلى آلاف المقاتلين المنتشرين في سوريا واليمن والعراق ولبنان، ما يعني امتلاكها القدرة في حال توسعت الاشتباكات على استهداف المصالح الأمريكية، على الأقل في مضيقي هرمز وباب المندب، والقواعد العسكرية في دول الخليج.
من غير الواضح حتى لحظة إعداد هذا الملف، ما الذي يمكن أن يدفع طهران لتوسعة الاشتباكات والاستهدافات ضد القوات الأمريكية في المنطقة، لكن صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية قالت، في 17 من تشرين الأول الماضي، إن عاملين أساسيين يحددان توقيت دخول طهران والحزب إلى الحرب بشكل رسمي، هما الاجتياح البري، وحجم خسائر “حماس”.
وإن كانت خسائر الحركة كبيرة وأوشكت على هزيمة تهدد وجودها، ستتحول المعركة إلى معركة وجود لمحور إيران.
وأضافت أن طهران قسمت المسؤوليات والأدوار على الجبهتين السورية واللبنانية بحسب الظروف وتطور الأحداث، إلا أن الجبهة السورية هي الأكثر أهمية وقد تنطلق منها الشرارة الأولى.
ويرجح المحلل السياسي الدكتور نصر اليوسف في حديثه لعنب بلدي، أن تبقى سوية هذه الاستهدافات عند هذا الحد وربما تتطور قليلًا، ولكن ستبقى “غير موجعة”، لكيلا يأخذ الأمريكيون انطباعًا أن بلدان “محور المقاومة” انخرطت فعليًا.
وبالتالي ستبقى الاستهدافات ضمن هذا الإطار المنضبط، ولكن إذا ما واصلت إسرائيل القتل بهذه الوتيرة، ولم تستجب لدعوات واشنطن بمراعاة القانون الإنساني الدولي وقوانين الحرب، ولم تزود غزة بأساسيات الحياة من ماء وكهرباء ومحروقات، يمكن عندها أن يزيد التصعيد قليلًا من قبل محور إيران باتفاق ضمني مع واشنطن، وستسمح الأخيرة بتكثيف استهدافها لكي تستجيب إسرائيل لنصائح أمريكا، بحسب اليوسف.
وأضاف أنه ومع كل ذلك، ستبقى الأمور تحت السيطرة، لأن الولايات المتحدة دفعت بهذه القوة الهائلة إلى المنطقة، لا لمساعدة إسرائيل على التخلص من “حماس” التي لا تحتاج إلى حاملة طائرات وغواصات، وإنما لتحذير كل من يفكر بالتدخل المباشر في الصراع.
من جهته، قال الباحث والكاتب مروان فرزات، إن احتمالية أن تتوسع الاشتباكات أمر وارد، والاستعراضات العسكرية التي نشهدها من جميع الأطراف هي في الحقيقة لضبط إيقاع المعركة وحصرها داخل غزة فقط، ومنع توسعها إلى دول الجوار، فلا أحد يريد الحرب ولا أحد لديه مصلحة أن يدخل بحرب تستنزف قواه وقدراته واقتصاده حتى لو انتصر فيها بنهاية الأمر.
ويرى أن الظروف في المرحلة المقبلة ستتجه لعقد صفقة ما بين الإيرانيين والأمريكيين لإنهاء حرب غزة، فهما طرفا النزاع الحقيقي، بحسب رأيه.
وتحاول واشنطن منع التصعيد وانضمام إيران إلى المعارك، وبحسب تحليل نشره “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى“، في 13 من تشرين الأول الماضي، فإن دخول إيران و”حزب الله” والميليشيات التابعة لطهران في العراق واليمن وإضفاء طابع إقليمي على الحرب، سيؤدي إلى عواقب كارثية على إسرائيل وشركاء واشنطن الآخرين.
“الاستعراضات العسكرية التي نشهدها من جميع الأطراف هي في الحقيقة لضبط إيقاع المعركة وحصرها داخل غزة فقط، ومنع توسعها إلى دول الجوار، فلا أحد يريد الحرب، ولا أحد لديه مصلحة أن يدخل بحرب تستنزف قواه وقدراته واقتصاده حتى لو انتصر فيها بنهاية الأمر”.
مروان فرزات – باحث سوري
روسيا.. محاسبة أمريكا حول أوكرانيا في سوريا
وسط الرسائل المتبادلة والأشكال المتعددة بين طهران وواشنطن، يظهر عدو قديم للأخيرة في صورة الأحداث الحالية، موسكو، التي وإلى جانب التاريخ الممتد لعقود بينها وبين واشنطن، تتضارب مصالحها في الفترة الحالية مع الأخيرة بشكل أكبر.
يعود هذا التضارب لعاملين رئيسين، الأول هو الحفاظ على مصالح موسكو في سوريا والمياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، الذي شهد وصول حاملات الطائرات الأمريكية، والثاني هو محاولة الضغط على واشنطن كرد على وقوف الأخيرة إلى جانب أوكرانيا في صد الغزو الروسي، منذ شباط 2022.
لم تعلن روسيا منذ تزايد الاستهدافات عن أي تأييد علني لطهران، لكنها اتخذت موقفًا مغايرًا لمواقف الدول الغربية من الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة منذ الأيام الأولى.
وقد تسعى موسكو بشكل مباشر لدعم طهران، عبر تسهيلات لوجستية معينة، وتخفيف الضغط عنها في حربها ضد أوكرانيا.
ويرى الباحث بالشأن السوري آرون لوند، أن روسيا تستفيد من الصراع الدائر حول غزة، باعتباره جذبًا لانتباه الغرب وموارده بعيدًا عن أوكرانيا.
كما أنها تسمح لموسكو بتسجيل نقاط سهلة في العالم العربي من خلال معارضة القصف الإسرائيلي لغزة والحصار الذي تفرضه على توصيل المواد الغذائية والمساعدات، وذلك يعكس الأدوار المعتادة في سوريا، حيث تدعو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى احترام القانون الدولي، ووقف إطلاق النار الإنساني للسماح لقوافل المساعدات بالوصول إلى المدنيين الجائعين، في حين أن روسيا تريد فقط التحدث عن الإرهاب، وواصلت استخدام حق “النقض” ضد قرارات الأمم المتحدة، والآن أصبح الأمر على العكس من ذلك، ومن الواضح أن “الكرملين” يحب ذلك، بحسب رأيه.
الدعم الروسي ليس بالضرورة أن يكون بتقديم سلاح للميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق، ويمكن أن يُقدّم بصورة تسهيلات لتحركاتها.
ويرى الصحفي والخبير بالشأن الروسي رائد جبر، في حديث إلى عنب بلدي، أن روسيا تنظر للوجود الأمريكي في سوريا والعراق بوصفه احتلالًا غير شرعي، ومن الطبيعي مقاومته، وهذا ما يعني تشجيعًا من قبلها لأي استهدافات ضد القوات الأمريكية، ويأتي هذا الدعم والتشجيع عبر الدبلوماسية الروسية التي نشطت بشكل كبير.
ويرى جبر أن انخراط واشنطن بشكل أكبر في مواجهة موقف من هذا النوع سيكون له تأثير على السياسة الأمريكية، أي أن الحرب الإسرائيلية أدت إلى الحديث عن عودة أمريكية واسعة للمنطقة بعد الحديث عن انسحاب واشنطن، وأن موسكو تراقب العودة العسكرية والسياسية عبر الضغط على بلدان المنطقة، واستهداف قواعدها.
سعي روسي لتحويل الدعم الغربي نحو إسرائيل
شنت روسيا غزوًا بريًا ضد أوكرانيا في شباط 2022، بذريعة محاولات انضمام الأخيرة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، وهو ما تراه موسكو تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، ووصولًا لواشنطن إلى حدودها البرية.
سرعان ما أعلنت واشنطن وعواصم دول في الاتحاد الأوروبي تقديم الدعم لكييف، عسكريًا وماليًا، واستقبلت اللاجئين الأوكرانيين، وزار مسؤولون على أعلى المستويات أوكرانيا.
وقد ترى روسيا في استهداف القواعد الأمريكية بسوريا والعراق فرصة لتخفيف الضغط الإعلامي، وتوجيه الموارد الغربية باتجاه إسرائيل بدلًا من أوكرانيا، لذا قد تشجع على هذه الاستهدافات من هذا الباب، خاصة مع طرح مسؤولين أمريكيين مسألة اتفاق سلام بين موسكو وكييف، بحسب ما نقلت شبكة “nbc news” الأمريكية في 4 من تشرين الثاني الحالي.
وفق القناة، فإن مسؤولين من 50 دولة تدعم كييف أجروا محادثات مع الحكومة الأوكرانية في هذا الشأن.
وفي حين لا يعتقد رائد جبر، في حديثه لعنب بلدي، أن الدعم الروسي لطهران يأتي من باب تخفيف الضغط على الجبهة الأوكرانية بالتطورات الجارية في المنطقة، وإرباك واشنطن بذلك، وهو شأن أكثر أهمية لموسكو، يرى لوند أن موسكو لا تلعب دورًا رئيسًا لا في حرب غزة ولا في الاستهدافات.
وأضاف أن روسيا لا يبدو أنها تتمتع بالنفوذ أو الموارد المتاحة، رغم أنها، باعتبارها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، سوف يكون لها دائمًا رأي في ما يحدث على الصعيد الدبلوماسي، إذ تلعب دورًا في سوريا، وإذا امتد الصراع إلى لبنان فيمكن بسهولة أن يكون حريقًا في سوريا أيضًا، ما يجبر روسيا على اتخاذ بعض القرارات السريعة والصعبة حول كيفية استثمار رأسمالها السياسي والعسكري، بحسب رأيه.
ومع وجود كثير من قواتها العسكرية في أوكرانيا، لم تعد روسيا قادرة على مواجهة التصعيد بإرسال المزيد من القوات والطائرات إلى المنطقة، في حالة وجود تحدٍّ إسرائيلي أو تركي أو حتى أمريكي للوضع الراهن في سوريا، ومع ذلك، لا تريد أي من هذه الحكومات صراعًا مفتوحًا مع بعضها، ومن الممكن أن يكون الوجود المحدود لروسيا كافيًا لتحقيق أغراضها، وفق لوند.
في حين قال جبر لعنب بلدي، إن الميليشيات الإيرانية لا تسعى للحصول على مساعدة عسكرية من موسكو، لكن الأخيرة قد تقدم تسهيلات معينة، كهبوط طائرة إيرانية في قاعدة “حميميم” العسكرية، أو المساعدة بإرسال أسلحة إلى جبهة لبنان، وهي روايات لم تثبت، وإن تم إثباتها فهذا يعني أن روسيا تسهل نقل العتاد العسكري إلى الميليشيات لاستهداف القواعد الأمريكية.