عنب بلدي – يامن مغربي
غيرت العمليات العسكرية التي شهدتها سوريا من شكل اقتصادها، وتحول من اقتصاد قوامه الزراعة والخدمات وبعض الصناعات إلى اقتصاد حرب، ترافق مع أزمة كبرى تعيشها البلاد جراء استمرار الحرب وغياب أي أفق لحل سياسي، وغياب أي نوع من أنواع الاستقرار الضروري لجذب الاستثمارات المحلية والخارجية.
ورغم قدرة مدن الساحل السوري على المساهمة في الناتج القومي المحلي، عبر المنتجات الزراعية من جهة، واعتبارها بوابة سوريا البحرية إلى إفريقيا وأوروبا من جهة أخرى، فإن مدينتي دمشق وحلب عُرفتا كعصب الاقتصاد السوري تجاريًا وصناعيًا، بينما عُرفت مناطق الساحل والجزيرة وجنوبي سوريا بزراعة المنتجات الاستراتيجية، كالقمح والقطن والحمضيات والخضراوات والتبغ.
الأزمة الاقتصادية في سوريا دفعت السوريين في السويداء للتظاهر والمطالبة بإسقاط النظام السوري في آب الماضي، بالتزامن مع دعوات مماثلة في مناطق الساحل السوري، التي تضم ما يُعرف بـ”الحاضنة الشعبية” للنظام السوري.
وبقدر ما شدد النظام قبضته الأمنية حينها لمنع التظاهر، حاول منح المنطقة زخمًا حكوميًا، عبر زيارات لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، وعقيلته أسماء الأسد، ومسؤولين حكوميين آخرين، وهو ما يشي بمحاولات الأسد لإرضاء “حاضنته الشعبية” عبر دعمها اقتصاديًا، ولو على حساب منتجات استراتيجية أخرى في سوريا.
معاملة تفضيلية
نقلت وكالة “نوفوستي” الروسية عن وزير الزراعة والإصلاح الزراعي في حكومة النظام السوري، محمد حسان قطنا، أن حكومته أبرمت عقدًا مع روسيا لشراء ما يقرب من 1.4 مليون طن من القمح لمصلحة مؤسسة الحبوب السورية.
وبحسب ملف أعدته عنب بلدي في حزيران الماضي، فإن انخفاض الدعم الحكومي خلال مرحلة زراعة وحصاد القمح في مناطق سيطرة النظام، بالإضافة إلى تحديد سعر لا يتناسب مع التكاليف، يدفع الفلاحين في كل عام لبيع محصولهم خارج مناطق السيطرة حيث سعر المبيع الأعلى، ما يخلق سوقًا موازية للمادة، فضلًا عن عزوف بعضهم عن زراعة القمح للمواسم المقبلة، وتوجههم نحو محاصيل وزراعات أخرى بعوائد أفضل.
عدم الاهتمام من قبل النظام السوري بمحصول استراتيجي كالقمح، تقابله محاولات “شكلية” للاهتمام بمحاصيل زراعية أخرى من مدن الساحل السوري، وتحديدًا الحمضيات، عبر الزيارات المتكررة من المسؤولين للفلاحين أو محاولة تلبية طلبات معينة، أو تصديرها إلى دول أخرى.
وفي 2020، أكد مدير عام هيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات في سوريا، إبراهيم ميدة، تثبيت خط بحري لنقل الحمضيات بين المواني في سوريا وروسيا وشبه جزيرة القرم، بحمولة شهرية 4500 طن.
وفي تشرين الأول 2022، أصدرت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية قرارًا يقضي بدعم تصدير مادة الحمضيات لموسم 2022-2023، عبر عدة منح مالية للمصدّرين بنسبة 25% من تكاليف الشحن البري والجوي للشحنات المصدّرة بين تاريخ 1 من تشرين الثاني و28 من شباط 2023.
كما تقرر منح دعم بنسبة 10% من تكاليف الشحن البري والجوي للشحنات المصدّرة بين 1 من آذار و30 من أيار 2023.
الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي، قال لعنب بلدي، إنه قد يكون هناك معاملة تفضيلية من قبل النظام السوري فيما يتعلق باحتياجات الفلاحين الأساسية، ويمكن تفسير ذلك بنشاط شبكاته الرسمية وغير الرسمية في المنطقة، وقدرتها على نقل مطالب المزارعين، وامتلاك النظام أيضًا أدوات غير رسمية تتيح له احتواء هذه المطالب بطريقة أو بأخرى، وهو ما يوحي بأنه يحابي منتجات الساحل السوري على حساب محافظات أخرى.
وبقدر ما يظهر النظام السوري اهتمامًا بمنتجات زراعية في مناطق الساحل، يتجاهل محاصيل استراتيجية بنفس الأهمية وربما أكثر، كالقمح والشعير والحبوب، التي تشكل أساسًا للغذاء والأمن الغذائي في سوريا.
إعادة تموضع الاقتصاد
تعرضت مدينة حلب لدمار واسع، نتيجة العمليات العسكرية التي نفذها النظام ضد فصائل عسكرية معارضة، وأدت هذه العمليات إلى خروج رأس المال المحلي من المدينة، سواء لبلاد أخرى (مصر، الأردن، العراق، تركيا)، أو لمدن سورية أخرى شهدت اضطرابات أقل لعوامل عدة.
من جهة أخرى، نشأت طبقة جديدة من رجال الأعمال في سوريا، شكّل بعضهم واجهة اقتصادية للنظام السوري عبر مشاريع في قطاعات مختلفة.
تمركز عدد من مشاريع هذه الشخصيات في مناطق الساحل السوري، باعتبار أن هذه المناطق شهدت اضطرابات أقل.
ولا توجد دراسات دقيقة للمشاريع الاستثمارية الحكومية أو الخاصة في مناطق الساحل السوري، إلا أن الاهتمام المعلن من قبل وسائل إعلام حكومية تابعة للنظام، يظهر محاولات الأخير لتصوير اهتمام ما بمناطق حاضنته، ومحاولة إعادة تموضع للاقتصاد السوري، ونقله من مراكزه التاريخية المعروفة (دمشق، حلب) إلى مناطق أخرى.
الباحث في الاقتصاد الدكتور فراس شعبو، قال لعنب بلدي، إن النظام السوري يعمل على إعادة تموضع الاقتصاد السوري لمصلحته، سواء على مستوى الأفراد أم على المستوى الجغرافي ضمن مناطق سيطرته، ويدعم المناطق الموالية له، عبر نقل الحركة التجارية والصناعية إليها، وتقديم التسهيلات والدعم لبعض الشخصيات المحسوبة عليه.
وتمثل هذه التحركات نوعًا من الحماية لاستثمارات النظام السوري ورجالاته، وفق شعبو.
وذكرت دراسة أصدرها مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، في 2019، أن النظام السوري سيّس قرارات توزيع الخدمات الأساسية لمصلحة حسابات مناطقية وطائفية، وكذلك توزيع الدعم الحكومي، واحتلت اللاذقية المرتبة الأولى بين المحافظات السورية في هذا المجال، فيما احتلت طرطوس المرتبة الثانية بين المحافظات في نسبة المشاريع الاستثمارية خلف السويداء.
كما أشارت الدراسة إلى تركيز النظام على مناطق نفوذه في تأهيل البنى التحتية والتوظيف الحكومي.
الباحث في مركز “عمران” أيمن الدسوقي، قال لعنب بلدي، إن تدهور الأوضاع الأمنية في مدينتي دمشق وحلب، دفع الصناعيين لنقل معاملهم بشكل مؤقت للساحل السوري، باعتبارها أكثر أمانًا، كما أنها قريبة من المواني البحرية، وبالتالي هناك سهولة في استيراد المواد الأولية والتصدير للخارج.
وفق الدسوقي، عمل بعض أمراء الحرب من أبناء منطقة الساحل على استثمار رأس مالهم المتولد عن اقتصاد الحرب في مجال الصناعة وخاصة الصناعات الغذائية والدوائية، لكن هذا لا يعني تحول الساحل إلى بديل، حتى الآن، على حساب دمشق وحلب.
ويعود ذلك، بحسب الدسوقي، إلى أن الساحل لا يمتلك مناطق صناعية على نطاق واسع، ولا يملك أهلها المهارات المطلوبة.
من جهته، يرى الدكتور فراس شعبو أن الساحل لا يمتلك البنية التحتية اللازمة للمساهمة في إنشاء صناعات، لكن النظام يحاول إعادة تموضع الاقتصاد في “سوريا المفيدة” بالنسبة له، وهي المناطق التي تدين بالولاء له بشكل كلي، ويحاول الاستفادة من هذه الفكرة لدعم بقائه.
اقتصاد الحرب
تندرج تحركات النظام السوري ضمن ما يُعرف بـ”اقتصاد الحرب“، الذي لجأ إليه النظام السوري محاولًا الموازنة بين الاحتياجات الأساسية ونقصها، خاصة مع انهيار قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، ودخول البلاد في أزمة اقتصادية ومعيشية حادة، مع هجرة كبيرة للسوريين باتجاه بلاد أخرى، سواء إلى الدول الأوروبية أو دول الجوار للبحث عن فرص للاستقرار الاقتصادي والمعيشي.
وسيطرت على هذا الاقتصاد الشخصيات المقربة من النظام السوري، عبر شبكات غير رسمية، وأوضح الباحث أيمن الدسوقي، أن هذا النوع من الاقتصاد يعتمد على عمليات التهريب والمخدرات، ويتيح للنظام تعبئة العديد من أبناء الساحل ضمن هذا الاقتصاد، ما يضمن أمرين، تأمين فرص العمل، وربط مصيرهم بالنظام السوري.
وإلى جانب هذه الشبكات، منح النظام السوري عقودًا استثمارية طويلة الأجل لحلفائه، روسيا وإيران، في مواني اللاذقية وطرطوس.
وتفتح هذه التحركات باب السؤال إن كان لدى مدن الساحل السوري القدرة على المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي السوري.
وفق الدسوقي، فإن لمدن الساحل مساهمتها في الاقتصاد، التي ربما زادت خلال السنوات الأخيرة بحكم أنها الأقل تضررًا من غيرها، واستقطابها استثمارات محلية وأجنبية للحلفاء، لكن زيادة مساهمتها في الناتج المحلي مرهون بقدرتها على استعادة التكامل الاقتصادي الرسمي مع بقية المحافظات السورية.