“الحمد لله، الآن عرفت ما إذا كان ابني منير دفيان أو بردان، جوعان أو شبعان”، هكذا عبّر وليد عن ارتياحه لمعرفة مصير ابنه منير، بعد أن تسلم خبر موته “بسكتة قلبية” في أحد الأفرع الأمنية بدمشق، حين خسر جميع أمواله وممتلكاته ليجنب ولده هذا المصير.
في عام 2017، تلقى وليد خبر اعتقال ابنه من أصدقائه في السكن الجامعي، الذين أكدوا له أن عناصر في الأمن السياسي الموجود داخل السكن اعتقلوا منير، إذ توجد مكاتب أمنية للأفرع منها الجوية والسياسية داخل السكن.
وبحسب ما تلقى وليد (رفض ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية) من هذه المكاتب، فقد اعتقل منير بتهمة “حمل السلاح”، لكنه قال لعنب بلدي، إن هذه التهمة كانت “ملفقة” ولا صحة لها.
ومنذ وصول خبر اعتقال ابنه، بدأ سعي وليد لمعرفة مكان احتجازه، ومحاولة إخراجه والتخفيف من آثار اعتقاله بأي وسيلة، ليعيّن محاميًا في دمشق لمتابعة وضع منير، لكنه طلب بعد معرفة مكانه دفع مبالغ طائلة وصلت لآلاف الدولارات مقابل تحويله لمحكمة “الإرهاب” المختصة بهذا النوع من القضايا.
ونصح المحامي وليد بتأمين المبلغ لأن تحويل ابنه للمحكمة “أفضل ألف مرة من بقائه في معتقل الأمن السياسي لسنوات دون محاكمة، أو الموت تحت التعذيب”، وبعد دفع المبلغ أخبر المحامي وليد بأن ابنه قد حكم عليه بالسجن لعشرين عامًا في سجن “صيدنايا”.
أخبر المحامي عائلة منير أنه يستطيع تخفيف الحكم الصادر بحقه مقابل 15 ألف دولار، مبررًا أن معظم قيمة المبالغ المدفوعة تذهب للمسؤولين الأمنيين والقضاة، ما دفع وليد لبيع مزرعته في درعا البلد، وبيع منزل آخر له في مدينة درعا لتأمين المبلغ.
دفع المبلغ للمحامي لم يشفع للأب بإخراج ابنه من قبضة القوى الأمنية وظروف التعذيب في معتقلات النظام، ليصل خبر وفاة منير في السجن بعد ثلاثة أشهر من الاعتقال.
قصة وليد واحدة من آلاف القصص لسوريين آخرين مروا بتجربة مماثلة بعد تهم “ملفقة” وجهت لهم لأهداف سياسية أو مادية، في حين أن الأهالي لم يكن بوسعهم سوى تعيين محام لمتابعة الموضوع، وهو ما كان باب استغلال من قبل عدة أطراف في حكومة النظام من جهة، ومن المحامي ذاته من جهة أخرى.
وعود بإخراج معتقلين أموات
منى من مدينة درعا، والدة وسام الذي اعتقل في عام 2013، بتهمة تسليح “الجيش الحر”، وهي معلومة لم تحصل عليها بسهولة، إذ لا يبلغ المعتقل أو ذووه بالتهمة التي أعتقلوا لأجلها، ولكن في حالة منى فقد علمت ذلك من خلال زوجة أحد الضباط الأمنيين كانت تعرفها.
بدأت منى (لم تذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية) بالبحث عن ابنها وسام منذ أول أيام اعتقاله دون جدوى، إذ تعرضت للنصب مرارًا وتكرارًا من الضباط والمتعاونين معهم، لمعرفة مكان ابنها الذي تم اقتياده من منزله، وفق ما قالته لعنب بلدي.
وبعد شهر من المحاولات، ودفع الأموال وبيع مصاغها من الذهب الذي وصلت قيمته حينها لنحو 700 ألف ليرة، وكّلت منى محاميًا في دمشق، بعد تأكيدات لها أن لا وجود لوسام في الأفرع الأمنية بمدينة درعا.
اختارت منى هذا المحامي للبحث عن وسام، لأن أخاه يعمل ضابطًا في فرع الأمن السياسي بدمشق، وهو ما يمكن أن يساعد أكثر في معرفة مكان ابنها، أو معرفة إن كان لا يزال حيًا أو ميتًا.
وبعد عدة أشهر، أخبر المحامي منى أن وسام معتقل في فرع الأمن السياسي، وطلب مبلغ ثلاثة آلاف دولار لتأمين فرصة لرؤيته، ما دفع منى وزوجها لبيع قطعة أرض لهم في حي القصور بمدينة درعا وتسليم المبلغ للمحامي، لكن دون جدوى بحجة أن وسام جرى نقله لسجن “صيدنايا”.
شعرت بعدها منى بأنها كانت ضحية “خديعة”، مما جعلها توكل محاميًا آخر بدمشق، والذي أكد لها بدوره أن “أتعابه وما سيدفعه للضباط لمعرفة مكان ابنها يصل إلى 13 ألف دولار”، وهو مبلغ لم يكن باستطاعة منى تأمينه بعد صرف جميع مدخراتها المالية.
ولا زال وسام حتى اليوم مجهول الموقع، ولا تدري والدته إن كان حيًا أو ميتًا، بينما توفي زوجها منذ ثلاث سنوات دون أن يصله أي خبر عن ابنه المعتقل.
وبالرغم من صدور عدة مراسيم عفو أحدثها في نيسان 2022، والذي نص على “منح عفو عام عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريين، عدا التي أفضت إلى موت إنسان”، لم تشمل هذه المراسيم سوى نسبة ضئيلة من إجمالي المعتقلين.
أجهزة بصلاحيات لا محدود ومراسيم لا تطبق
ومن إجمالي ما لا يقل عن 135638 شخصًا لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد قوات النظام السوري منذ آذار 2011، بلغ عدد من أفرج عنهم من 21 مرسوم عفو صدروت منذ آذار 2011 نحو 7351 شخصًا، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“.
وحول سبب عدم فعالية هذه المراسيم، قالت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” الحقوقية، إن واقع الأجهزة الأمنية السورية، والصلاحيات اللامحدوة الممنوحة لها، يجعل من المستحيل على القضاء السوري، تطبيق هذه المراسيم على عشرات آلاف المعتقلين والمختفين قسرًا الموجودين في أماكن الاحتجاز التابعة للأجهزة الأمنية، كونها محصّنة من الملاحقة القضائية.
ولم تكن حالة آمنة من مدينة دوما بريف دمشق أفضل من سابقتها، إذ اعتقل فرع الأمن الجوي ثلاثة من أبنائها عام 2014، بتهمة “تمويل المناطق الخارجة عن سيطرته”، وفق ما قاله لها أحد المتعاونين مع النظام بعد دفع مبلغ مالي له.
وكلفت آمنة (رفضت ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية) محاميًا بدمشق لمتابعة الموضوع، لكن المحامي طلب منها الانتظار إلى حين تحويلهم لمحكمة “الإرهاب”، وتأمين مبلغ سبعة آلاف دولار ليتابع الموضوع وإخراج أبنائها على حد قوله.
ولتأمين هذا المبلغ باعت آمنة مصاغها من الذهب، والذي كانت تحتفظ به لعلاج زوجها من سرطان القولون، وتوفي منذ أربع سنوات، ودفع أجرة المنزل الذي تعيش فيه وعائلتها بدمشق بعد خروجهم من مدينة دوما، وفق ما قالته لعنب بلدي.
وبدأت الوعود المتكررة بعد تسلم المحامي المبلغ دون جدوى، وبعد نحو شهرين انقطع التجاوب من قبل المحامي، ليصل خبر سفره إلى خارج البلاد، وفي ذات الفترة تبلغت من قبل الأمن بالقدوم للمركز وتسلم وثائق أبنائها بسبب وفاتهم.
معظم ذوي المعتقلين، ومن بينهم المذكورين بالتقرير، لا يتسلمون جثامين أبنائهم، ويقتصر تعامل الأفرع الأمنية بتسليم هوياتهم وإخبارهم بوفاتهم، وفي بعض الحالات تسلم ذوو الضحايا خبر وفاة أولادهم من عناصر الأمن لكنهم خرجوا أحياء بعد عدة سنوات.
حتى اليوم تعيش آمنة بدعوتين في كل صلاة، دعوة لأبنائها آملة أنهم لا زالوا أحياء، ودعوة على المحامي الذي أفلس العائلة “راجية من الله الانتقام منه”، وفق تعبيرها لعنب بلدي.
قضايا “الإرهاب”.. أجور بالملايين
تندرج جميع قضايا المعتقلين المعارضين للنظام في تهم تخص محكمة “الإرهاب”، التي تأسست بمرسوم جمهوري عام 2012، للنظر في جرائم الإرهاب ومحاسبة مرتكبيها، كبديل لمحكمة أمن الدولة العاملة في سوريا منذ عقود، والتي أدانتها منظمة “هيومن رايتس ووتش” في عام 2009، باستخدام السلطات السورية لها لقمع معارضيها وتوجيه تهم “فضفاضة لهم دون أدلة واضحة”.
وأصبحت قضايا هذه المحكمة من أكثر القضايا المنتشرة بين المحامين منذ تأسيسها، بحسب عدة محامين تحدثت إليهم عنب بلدي.
ياسر (رفض ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية)، محام من درعا متفرغ لقضايا “الإرهاب” منذ عام 2011، تحدث لعنب بلدي عن عشرات القضايا التي قبل بالترافع عنها أمام محكمة “الإرهاب” بدمشق.
وأوضح ياسر أنه يبدأ توكيله منذ معرفة أهل المعتقل بتحويله إلى محكمة “الإرهاب” من الافرع الأمنية، وتتراوح الأجور بحسب صعوبة القضية، إذ تبدأ أجور قضايا “الارهاب” من سبعة ملايين ليرة سورية حتى 15 مليون ليرة، وهناك بعض المحامين بدمشق لا تقل أجورهم عن 17 مليون ليرة باختلاف خبرة المحامي، مشيرًا إلى أن جزءًا كبيرًا من الأجر يذهب رشوة للقاضي أو للعناصر الأمنية.
صرح نقيب محامي سوريا الفراس فارس نهاية أيلول الماضي، أن أتعاب المحاميين لا تحدد من النقابة لأنها ليست “سلعة” تجارية، وتختلف من محامي لآخر بحسب عمره المهني وخبرته ومركزه، فقد يطلب أحد المحامين مليون ليرة مقابل دعوة معينة وآخر يطلب خمسة ملايين.
وحول التسعيرة الخاصة بالدعاوى القضائية للمحامين، بيّن أنه ليست هناك تسعيرة محددة لقيمة الدعاوى، وتحدد بالاتفاق بين الموكل والمحامي، حيث يقدّرها كل محامٍ بحسب خبرته وجهده، فمن الممكن أن تسجل قيمة دعوى طلاق بـ 500 ألف ليرة وأخرى بمليون.
ولا يخرج المتهم في غالبية قضايا “الإرهاب” بحكم البراءة، لكن قد يخفف الحكم لمدة ثلاث أو خمس سنوات، وبعضها من الاعدام للسجن 15 عامًا، بحسب المحامي ياسر، ذاكرًا قضية وكّل فيها عام 2016، واستطاع تخفيض حكم المتهم “بالإرهاب” لسنتين في سجن “عدرا” عبر دفع “الرشاوي”، وكانت تهمته “تهريب لوائح سيارات غير منمرة إلى خارج مناطق سيطرة النظام”، وتلقى عليها أجورًا بلغت ثلاثة ملايين ليرة حينها، بعد أن استمرت القضية لنحو عام.
عرّف القانون رقم “19” الخاص “بالإرهاب” لعام 2012، في مادته الأولى “العمل الإرهابي” على أنّه “كل فعل يهدف إلى إيجاد حالة من الذعر بين الناس أو الإخلال بالأمن العام أو الإضرار بالبنى التحتية أو الأساسية للدولة، ويرتكب باستخدام الأسلحة أو الذخائر أو المتفجرات أو المواد الملتهبة أو المنتجات السامة أو المحرقة أو العوامل الوبائية أو الجرثومية مهما كان نوع هذه الوسائل، أو باستخدام أي أداة تؤدي الغرض ذاته”.
وبالرغم من تحديد ماهية “الإرهاب” قانونيًا، اتهم أي عمل إنساني كإيصال العلاج أو معالجة المتظاهرين أو نقل الأدوية إلى مناطق خارج سيطرة النظام بـ”الإرهاب”.
ومنذ عام 2011، وصل إلى ياسر نحو 270 قضية “إرهاب”، منها من حكم على المعتقلين بالإعدام دون إبلاغه كمحام القضية، ومنهم من حكم عليه بالسجن لـ 20 عامًا.
وتتسم قضايا “الإرهاب” بالضرر حتى بالنسبة للمحامين الذين يعتقل بعضهم، لأنه قبل بالتوكل للدفاع عن المتهم، مثل المحامية ناهد التي تملك مكتب محاماة في دمشق، وقد جرى اعتقالها عام 2014 لخمسة أشهر، بسبب ترافعها للدفاع عن ابن أخيها وهو طالب طب في السنة الثالثة.
وتحدثت ناهد لعنب بلدي، شرط عدم ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية، عن صعوبات كبيرة تواجه المحاميين في ظل القبضة الأمنية والتدخل في الأحكام.
وبعد خروج ناهد من السجن، كان قد حكم على ابن أخيها في محكمة “الارهاب” بالسجن 25 عامًا، لكنها أصرت على العودة إلى سلك المحاماة من أجله.
وبعد محاولات كثيرة استطاعت العودة لمزاولة المهنة في عام 2019، وبعد دفع الرشاوي والتي قدرت بنحو ثمانية ملايين ليرة، جرى تخفيف الحكم على ابن أخيها لعشر سنوات.
وعلى الرغم مما حدث لها، تستمر ناهد في قبول قضايا “الارهاب”، والتي وصلت لنحو 264 قضية، لا يتجاوز عدد من تبرأ منها 16 معتقلًا، بينما أغلب القضايا يصل إليها طلب التخلي عنها من قبل أهل المتهم بعد وصول خبر وفاته في المعتقل.
وبحسب تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“، يوجد حتى عام 2020، ما لا يقل عن 10767 شخصًا لا يزالون يخضعون لمحكمة قضايا “الإرهاب”، وقرابة 91 ألف قضية نظرت بها المحكمة، و3970 حالة حجز على ممتلكات.
- شارك في إعداد هذه المادة مراسلة عنب بلدي في درعا سارة الأحمد