عنب بلدي – حسام المحمود
“كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة، كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود، كان زمن النور، وكان زمن الظلمة، كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط، كان أمامنا كل شيء، ولم يكن أمامنا شيء، كنا جميعًا ماضين إلى الجنة مباشرة، وكنا جميعًا ماضين إلى جهنم مباشرة”.
تعبّر هذه الكلمات إلى حد بعيد عن رواية “قصة مدينتين” لكاتبها الإنجليزي تشارلز ديكنز، التي تتقاطع كثيرًا مع الواقع السوري ما بعد 2011، فالأرضية الزمنية للرواية “ثورة جياع” تحولت إلى “حقبة إرهاب”، والأحداث تدور في مدينتين منفصلتين هما لندن وباريس، وهو ما يُختصر في الحالة السورية بالعاصمة دمشق، التي قسمتها السنوات الأخيرة إلى مدينتين في جغرافيا واحدة تجمعهما مع وجود عوامل كثيرة مختلفة بينهما.
وتتلخص المدينة الأولى بمجموعة من الأحياء الراقية الهادئة التي نأت بنفسها عن أحداث متسارعة وعنيفة على مدار أكثر من 12 عامًا، وتتجلى الأخرى بأحياء دمرها القصف والعمليات العسكرية التي شنها النظام السوري لإخضاع أهاليها المعارضين، بالحديد والنار.
هذه الحالة عبّر عنها الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي خلال وصفه القدس، “فالمدينة دهرها دهران”، وهو ما ينطبق على دمشق أيضًا، بوجود من يبكي على الماضي أمام قسوة الواقع، ومن يعيش الحاضر وينغمس فيه دون التفات لما مضى، ويبدو ذلك بوضوح في منشورات لا تنقطع على وسائل التواصل الاجتماعي، يتغنى بعضها بالسيف الأموي وقاسيون، والشوارع العتيقة والإرث الثقافي والتاريخي والجمالي للمدينة، بانفصال ملموس عن الحاضر النقيض.
وأمام تفاوت اقتصادي حاد، عززه انخفاض قيمة العملة والأجور وارتفاع أسعار السلع والمنتجات بأنواعها، واستثناء فئات وشرائح من الشعب من الدعم الحكومي، انقسمت دمشق بلا خطوط مرئية، لتختلف فيها أولويات الناس واحتياجاتهم وأنماط حياتهم من جهة، والنظرة العامة والسياسية التي أسهمت في تكوينها وسائل التواصل الاجتماعي والدعاية المقصودة وغير المقصودة من جهة أخرى، فالزيارات التي يجريها مسؤولون أمميون وأوروبيون إلى العاصمة تقتصر على الوجه الملوّن للمدينة، مع إهمال الجانب الآخر الخاوي من سكانه إثر نزوحهم وتهجيرهم.
وفي أيلول الماضي، زار القائم بأعمال بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، دان ستوينسكو، العاصمة دمشق، وأجرى حينها لقاء إذاعيًا عبر “المدينة FM” التي تعكس رواية النظام السوري للأحداث في سوريا.
هذه الزيارة سبقتها أخرى في حزيران، قال في نهايتها المبعوث الأوروبي، “في دمشق، لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة السورية، أصبح اتخاذ موقف بناء بدلًا من التحدي ضرورة أكثر من أي وقت مضى”، بالإشارة إلى حالة الشباب السوريين الراغبين بمغادرة بلادهم.
ولم تقدم أي من زيارات المبعوث الأوروبي إلى سوريا، التي بدأت لأول مرة في آب 2022، أي إعلان عن زيارة للمناطق المتضررة بالقصف، والمفرغة من السكان، سواء في دمشق، أو خارجها، وهو ما ينطبق على زيارات مسؤولين أمميين منهم وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث، الذي زار دمشق في حزيران الماضي، والتقى رئيس النظام السوري، بشار الأسد.
كيف يراها الناس؟
عمار، شاب سوري يقيم في دمشق ودرس الفلسفة في جامعتها، قال لعنب بلدي، إن نظرة الفرد إلى الآخر في دمشق تأثرت بالحالة التي وصلت إليها سوريا بالمجمل، مقارنة بين ما قبل 2011 وما بعدها، فالإنسان كان يحلم بتحقيق الذات، والوصول إلى الاستقرار على المستويين الشخصي والاجتماعي.
كما أن الحالة النفسية كانت مستقرة نوعًا، برأي عمار، قبل التحول نحو النقيض، واقتصار الفهم والتفسيرات على ما هو سلبي، ووصول حالة التدمير إلى العلاقات بين الأشخاص والأشياء، وعلاقات الناس ببعضهم، وهو ما جعل الصراع الحالة الأكثر وضوحًا في وجود الناس، وهذا يقود بالضرورة لإحباط ويأس وتعاسة جمعية.
ريم أيضًا تقيم في أحد الأحياء المتواضعة بالعاصمة دمشق، عند المقارنة بين أنماط الحياة التي تعاينها تشعر أن الحياة غير عادلة، فهناك من يعاني ليجد قوت يومه، وهناك آخرون لا يشعرون بحجم هذه المأساة أو على الأقل لا يعيشونها.
“أكثر ما يثير غيظي أن بعضًا ممن لا يعيشون هذه المأساة الحقيقية هم الذين يتذمرون اليوم، ولا يرضيهم شيء”، أضافت الشابة لعنب بلدي.
الباحث الاجتماعي صفوان قسام، أوضح لعنب بلدي أن حالة التفاوت هذه موجودة أصلًا، لكنها تفاقمت مؤخرًا، لدرجة التحول من الطبقات الاجتماعية إلى المجتمعات، كمجتمع محدثي النعمة وأغنياء الحرب، والمجتمع المفقر، وعلى هذا الأساس لم يعد هناك حي للفقراء وآخر للأغنياء، فالتفاوت وصل إلى الحي الواحد من منزل إلى آخر.
ويعيش اليوم أبناء المدن، ومنها دمشق، حالة من القهر الاجتماعي، نتيجة هذا الظرف، كونهم أكثر احتكاكًا مع المجتمع فاحش الثراء، جراء النهب والمحاصصة و”التعفيش”، وهو مجتمع طارئ مبني على ظاهرة الفروقات الموجودة، ما أفضى إلى انسلاخ ولّد مجتمعين، ما يعني أن أغنياء اليوم ليسوا أغنياء الأمس بالضرورة، بل على العكس، فالقليلون فقط من حافظوا على غناهم، مع رحيل بعضهم وسفرهم إلى الخارج.
والمجتمع الفقير الحالي هو المغلوب على أمره، ومن كُسرت شوكته فعلًا، جراء سعيه الدائم خلف احتياجاته اليومية، وعلى هذا الأساس يشعر الناس بالحزن واليأس، والحسرة على الماضي، وينظرون في الوقت نفسه إلى المجتمع الآخر المختلف كمجتمع منفصل أخلاقيًا وسياسيًا ووطنيًا وثقافيًا عنهم، ولا ينتمي إليهم، رغم أن هذا المجتمع هو الذي يصور نفسه اليوم كمجتمع وطني، وفق الباحث.
وأمام حالة التفاوت هذه يسعى ابن المجتمع الفقير للوصول إلى المجتمع الغني بصرف النظر عن المعايير والآلية، وكثير منهم يستخدمه الطرف الآخر فعلًا، فالغني يرغب باستغلال الفقير لمضاعفة ثروته ويستخدمه كواجهة للتخلص من المساءلة، وتركه مع الفتات، بحسب قسام.
“يوتيوبرز” ومؤثرون ومخططات
خلال السنوات القليلة الماضية التي عزز فيها النظام السوري حضوره الميداني على الأرض، واستعاد مناطق جغرافية خرجت عن سيطرته لسنوات، اتجه النظام لاستغلال المؤثرين والدعاية التي يقدمونها للترويج لصورة ناقصة عن الحياة في المناطق التي يسيطر عليها، فكرّس اهتمامه بقطاع السياحة دون جدوى، وروّج لوجود خدمات تتركز على مناطق محددة وتفتقر لها معظم مساحة سيطرته، مع وضع صورة “العاصمة العامرة رغم الحرب” أمام أنظار العالم.
مساعي استغلال “اليوتيوبرز” اصطدمت بحالات خطف لبعضهم، بالتزامن مع الترويج لـ”سوريا آمنة”، إلى جانب وضع مخططات تنظيمية لتأهيل عمراني في الأحياء الجنوبية من العاصمة دمشق، دون اعتبار للوقت، فمشروع “باسيليا سيتي” مثلًا، الذي مضى على مخططه التنظيمي أكثر من خمس سنوات، والذي جاء عملًا بمرسوم صدر في 2012، لإحداث منطقتين تنظيميتين ضمن المصور العام لدمشق، متسببًا بالنزوح إلى مساكن عشوائية في زمن الصراع، لم يبصر النور.
وفي 10 من آذار 2022، أصدر “المركز السوري للعدالة والمساءلة ” تقريرًا تناول انتهاكات حقوق الإنسان ضد السوريين خلال عام 2021، ومن ضمنها حقوق المساكن والممتلكات والأراضي، موضحًا أنه رغم العقوبات الاقتصادية الغربية التي أوقفت معظم مشاريع إعادة التطوير العقاري في دمشق، ضمن “ماروتا سيتي” و”باسيليا سيتي”، فإن المشاريع العقارية هذه قامت بالتجريف والهدم بلا هوادة، ما رسّخ النزوح في زمن النزاع بمساكن عشوائية.
وبدأ العمل على “باسيليا سيتي” منذ عام 2017 من قبل محافظة دمشق وشركة “شام القابضة”، كما أعلن محافظ دمشق السابق، عادل العلبي، في آب 2019، بدء تنفيذ المشروع، مشيرًا إلى تكلفة الدراسة الفنية له التي تقدر بـ750 مليون ليرة، بمدة تنفيذ 480 يومًا.
أمام كل هذه العوامل، يرى الباحث الاجتماعي صفوان قسام أن الحلول لمشكلة الانقسام والتفاوت هذه تتطلب جهدًا دوليًا قبل الحديث عن الأبعاد الاجتماعية، رغم كل المشاعر والأفكار القاسية التي يعانيها سكان إحدى ضفتي هذه المدينة، أو جزء من سكان الضفتين، بما لا يختلف كثيرًا عما جاء في “قصة مدينتين”.