خطيب بدلة
أبارك لكم، يا أبناء شعبنا العظيم، المعطاء، الكادح، انقضاءَ ما يقرب من ربع القرن الحادي والعشرين، وأنتم لا تزالون ترفلون في أثواب الشعبوية، والغرق في شبر ماء، والجري وراء النصابين، والمزعبرين، والدجالين، والديماغوجيين، وأصحاب الدكاكين الممولة بالدولارات المعبأة بالأعدال، كل واحد منهم يريد أن يأخذكم إلى مكان، فلا تتوانوا في السير خلفه، والموت في سبيله، طالما أن موتكم يسعده.
إذا تلقيتم كفًا على غفلة، فابقوا على غفلتكم حتى يأتي الكف الثاني، والثالث، وصولًا إلى الخمسين، لأن المثل القائل “بياكل خمسين كف على غفلة” قيل فيكم، أساسًا، بمعنى أنكم كنتم، ولا تزالون تعيدون نفس التجربة التي جربتموها مرارًا، وفي كل مرة تتوقعون أن تحصلوا على نتائج مختلفة، وعندما تأتي النتيجة نفسها، تزعلون، وتبدؤون بالردح، وندب الحظ، وإطلاق الولاويل، لا تتوقفون عنها إلا حينما تُشَن عليكم حرب، وتنهمر على رؤوسكم القذائف والصواريخ والبراميل، فتنتظرون حتى يتوقف القصف، وتحصون ضحاياكم، وتؤكدون أنهم شهداء يخلدون في الجنان، وتتبادلون التهاني باستشهادهم، ويقول أحدكم للآخر: نيالهم على هالموتة!
الأحلى من هذا، وذاك، وتلك، وهاتيك، أن الواحد منكم، حينما يتشاجر مع رجل أقوى منه بكثير، يأتينا ووجهه مضرج بالجروح، والرضوض، والكدمات، ويقول للآخرين: هاتوا البشارة. انتصرنا! فتهللون، وتكبرون، وتأتون بالطبول والزمور، وتعقدون الشملات، وتباشرون بالرقص، والفقش، والتمايل، ميلي ما مال الهوى، ثم تذهبون إلى النوم، مستفيدين مما قاله الشاعر الجواهري: نامي جياع الشعب نامي، يا درة بين الركامِ. نامي فإن لم تشبعي من يقظةٍ، فمن المنامِ. وعندما تستيقظون، بعد عمر طويل، ستجدون أنكم أناس بلا ذاكرة، ونفس الخبر الذي تلقيتموه، فدبكتم احتفالًا به، يأتيكم معكوسًا، يتلخص في أن صاحبكم الكذاب، النصاب، لم ينتصر، وأنتم، كذلك، لم تنتصروا، بل أكلتم قتلة، وفقدتم بعض أعينكم، وبترت بعض أرجلكم، وابتليتم بتشوهات وعاهات دائمة، وتعرضتم لعمليات جراحية استؤصلت خلالها طحالاتكم، وبنكرياساتكم، وهنا لا تكتفون باللطم، والبكاء، والنحيب، بل توجهون اللوم لأبناء أعمامكم، وعماتكم، وأخوالكم، وخالاتكم، فالواجب على هؤلاء أن يؤازروكم، حتى ولو كانوا لا يعرفون “شو القصة”، ولكنهم، في الواقع، يعرفون القصة، فأنتم ياما سَبَبْتُم عليهم، وعلى أمهاتهم، وقرأتم عليهم قصيدة حبيب قلبكم مظفر النواب: لستُ خجولًا حين أصارحكم بحقيقتكم، إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم، أبناء القحبة.. وإذا قال لكم أحد أبناء عمكم، روقوا، يا شباب، وتعقلوا، واعرفوا حجمكم، وصالحوا، فأنتم ضعفاء، وفقراء، ومساكين، غلبانون، تنتفضون في وجهه، وتلعنونه، وتقرؤون عليه قصيدة أمل دنقل، لا تصالح، أو القصيدة التي نسجها الشاعر الإخوانجي السوري المعاصر، على منوال قصيدة أمل دنقل، وفيها تذكير بالثأر العروبي، والنخوة، والشرف، والعرض، وأن العربي له الصدر دون العالمين أو القبر، وجنة بالذل لا يرضى بها، جهنم بالعز أفخرُ منزلِ.
ازعلوا مني إذا شئتم، فأنا أصدقكم القول، وأصارحكم بحقيقتكم، فوالله إنكم لم تكونوا أعزاء قط، ولم تحصلوا على الصدر، بينما تضيق القبور بجثثكم وجثث الأطفال الذين تصرون على خلفتكم، رغم كل هذا البؤس، والذل، والتشرد!