في حوار حول تعريفها وعلاقتها بالإسلام
حسام الدين درويش: العلمانية ليست فصل الدين عن الدولة
انتهت سيطرة الدولة العثمانية على الدول العربية التي حكمتها في عام 1918، وبدأت هذه الدول بالخوض في الأفكار السياسية والاجتماعية الحديثة، بما في ذلك شكل الحكم والقومية العربية وغيرها، ضمن صراع ما بين الخلفية الإسلامية لهذه الدول، وبين الأفكار الحديثة القادمة من القارة الأوروبية، التي تأثرت بدورها بالأفكار الفلسفية للثورة الفرنسية.
بعد 100 عام من انتهاء آخر أشكال الدولة الدينية في منطقة الشرق الأوسط، بمعناها التقليدي، ما يزال مصطلح “العلمانية” يثير الجدل والمشاحنات والمخاوف لدى شريحة واسعة من المجتمعين السوري والعربي.
التعريف العام والمختصر للعلمانية هو “فصل الدين عن الدولة”، وهو تعريف يثير الكثير من الجدل بين أوساط المفكرين والباحثين في علم الاجتماع السياسي، على اعتبار أنه يحيّد الدين الإسلامي عن الحياة العامة للمسلمين في البلاد التي تعرّف نفسها بأنها دول إسلامية.
لكن هذا التعريف المختصر لمفهوم كبير كـ”العلمانية”، يختصر أيضًا أفكارًا فلسفية واجتماعية عن علاقة الدين الإسلامي بالدولة والمجتمع والفرد على حد سواء، ويمكن أن يساعد تفكيكها وشرحها للمجتمع أن يمنحه مساحةً للتفكير بشكل مختلف حول علاقة الفرد بالدولة نفسها أيضًا.
عنب بلدي التقت بالكاتب والباحث في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي، الدكتور حسام الدين درويش، للحديث عن مفهوم “العلمانية” وأشكال تطورها، والإجابة عن مدى احتواء الدين الإسلامي بجوهره على مفاهيم “علمانية”.
العلمانية.. ثلاث نظريات رئيسية
ألّف درويش عدة كتب في علم الاجتماع، أحدها حمل اسم “في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام السياسي، تجديد الخطاب الديني”.
رغم ظهور العلمانية في أعقاب الثورة الفرنسية في القرن الـ18، إلا أنه ومنذ القرن الـ19 وحتى ثمانينيات القرن الـ20، تشكّلت ثلاث نظريات رئيسية، من خلالها يمكن معرفة مدى وجودها في المجتمع.
تسمى النظرية الأولى “خصخصة الدين”، ويشرحها درويش لعنب بلدي، بأن الدين ومع التقدم الإنساني والحداثة ومرور الزمن، ينتقل من المجال العام إلى الخاص ويتحول لشأن فردي للإنسان.
أما الثانية فتقول إن الدين ومع التقدم والحداثة ينحسر حتى على الصعيد الفردي، وتقلّ أعداد المؤمنين بالأديان، أما الثالثة بحسب درويش، تقول، إن الحداثة تقوم على أساس التمايز بين الأمور الدينية وغير الدينية، أي قد تنشأ مجالات جديدة أو تنفصل مجالات سابقة عن الدين، كالاقتصاد وعلم الاجتماع والتربية ..إلخ.
بعد ثمانينيات القرن الـ20، بدأت تظهر شكوك حول النظريتين الأولى والثانية، وتبين أنه ليس بالضرورة أن يتعارض وجود الدين مع وجود دولة حديثة، وأن تواجد العلمانية يعني تراجع الدين لدى الأفراد، والمقياس هنا هو الدول الأوروبية باعتبارها معيار الحداثة، وعلى باقي الدول أن تتبعها.
توضح هذه النظريات أهمية إعادة تعريف “العلمانية” بعيدًا عن اختصارها بفصلها عن الدولة، خاصةً أن هذا التعريف وما يشابهه من تعريفات أخرى، تعبر عن جانب منها فقط، أو عن سياق تاريخي.
وبحسب درويش، فإن دولة كبريطانيا التي تعدّ من أكثر الدول علمانية ليست مفصولة عن الدين، والكنيسة فيها هي رأس الدولة والملك يتوّج في الكنيسة، وفي دول أوروبية أخرى تقوم الدولة بجمع الضرائب الكنسية وتمول التعليم الديني، وفي ألمانيا حكم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لسنوات طويلة، وهو بالإضافة لاسمه، يتبنى قيمًا مسيحية.
وأوضح أنه وبناءً على الأمثلة السابقة، فحتى في الدول الأوروبية التي تتبنى أفكارًا علمانية، لا تنفصل الدولة عنها بشكل كامل ولا عن السياسة كذلك.
من هذا المنطلق، يرى درويش أن كلمة “فصل” الواردة في تعريف العلمانية غير مناسبة، لأنه لم يحصل في كثير من الحالات فصل تام بينهما، لا في أمريكا ولا في ألمانيا ولا بريطانيا.
ويرى أن في الإسلام والدول الإسلامية، هناك تمييز عبر الإشارة إلى المجالات غير الدينية والدينية، أي هناك مجالات ليست دينية ولا خاضعة لتوجيهات دينية واضحة ولا ضمنية ولا تعليمات، هذه الأمور التي نطلق عليها علمانية.
ويمكن تعريف العلمانية بأنها، وهو التعريف الأدق بحسب درويش، التمايز والتمييز بين الديني وغير الديني.
ويعمل درويش منذ عام 2020 على البحث حول العلمانيات المتعددة وما وراء الحداثة وما وراء الغرب، بمعنى البحث عن أفكار متعددة في مختلف الثقافات والبلاد، وهذه العلمانيات يمكن أن تكون خارج الدول الغربية المفروض أنها مهد العلمانية، وخارج الحداثة أي ما قبل ظهور صيغ مختلفة للعلمانية.
العلمانية والإسلام.. تمايز لا اختلاف
أحد أبرز الأفكار التي تروّج عن “العلمانية” أنها تحارب الدين كفكر ووجود وتسعى لتكون بديلًا عنه، وكثير من الجدالات بين العلمانيين والإسلاميين العرب تدور حول هذه النقطة تحديدًا، ودون إدراك لوجود نظريات متعددة قادرة على جمع الطرفين.
ولا يرى درويش في حديثه لعنب بلدي، أن “العلمانية” مقابلة للإسلام، أو غير منسجمة معه، ويشير إلى إمكانية وجود العلمانية في الإسلام نفسه.
ويأتي هذا الوجود عبر التمييز بين ما هو ديني وغير ديني، أي الشأن الدنيوي الذي يعود أمره للناس ويصنّف بأنه شأن علماني، وليس هناك توجيهات دينية حاسمة بفعله بطريقة معينة، بينما التعليمات الواردة في النصوص الدينية التي يؤمن بها المسلمون والتي تقول بوجود فعل أو عدم فعل شيء ما ليست علمانية.
وهناك منطقة ثالثة يشير إليها درويش وهي منطقة المباح، وهي منطقة محايدة متروك فيها للإنسان بأن يقرر ما يريد.
التركيز على تأويل ورؤية معينة وغض النظر عن رؤى أخرى، والمشكلة هنا وكأن الإسلام ورؤية الإسلاميين هي واحدة وهي ليست كذلك.
من هذا المنطلق يرى درويش، أن الإسلام كدين، وضع قوانين واضحة لمسائل عدّة وردت بنص صريح في القرآن، بينما هناك أمور دنيوية لا يتدخل فيها الدين، وفي هذا المثال يأتي التمايز والتمييز الذي تحدث عنه درويش.
العلمانية بين المسيري وأسد
منذ ظهور فكرة العلمانية وطرحها كأحد عناصر الحكم في البلدان العربية، هاجمها العديد من الكتاب والمنظرين والمثقفين العرب، منهم المحسوبين على التيارات الإسلامية.
ويعد المفكران، الباكستاني طلال أسد والمصري عبد الوهاب المسيري، من أبرز المفكرين الذين نشروا مؤلفات هاجمت نظرية “العلمانية”، منها مؤلفات “تشكلات العلماني في المسيحية والحداثة والإسلام” و”هل النقد علماني؟” لأسد، و”العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” (ضمن مجلدين)، للمسيري.
حاول المسيري وأسد عبر مؤلفاتهما، شرح المعاني المتعددة لفكرة “العلمانية”، وعلاقتها بالمجتمعات الإسلامية وأسباب رفض الأخيرة لها، بالإضافة إلى الإشكاليات التي تسببها، بحسب رأيهم.
لكن درويش يرى في حديثه لعنب بلدي، الأمر من زاوية مختلفة، وبقدر ما تعدّ أفكار أسد مفيدة وإيجابية، إلا أن الاقتصار عليها يؤدي إلى مشاكل أخلاقية وسياسية ومعرفية أيضًا.
الميزة في أبحاث طلال أسد هو بحثه في مفهوم العلمانية وعملياتها، بينما تكمن المشكلة بتقديم العلمانية على أنها مسيحية من ناحية ومرتبطة بالاستعمار والخارج من ناحية أخرى.
وأضاف دوريش، “رغم وجود بذور لعلمانية غربية، لكن المشكلة أن أسد لم ينتبه إلى وجود صيغ علمانية في العالم العربي أو الإسلامي أو غير الأوروبي، ما قبل الاستعمار أولًا، ومن صميم هذه الثقافة أو الحضارة ثانيًا”.
ويسعى درويش لمحاولة استكمال الصورة الناقصة، لشكل ودور العلمانية التاريخي في العالم العربي والإسلامي.
وأوضح أن الاحتلالات والاستعمار الغربي للدول العربية والإسلامية فرض أشكالًا سياسية وإدارية واقتصادية على العالم العربي والإسلامي وهي غربية وعلمانية، لكن في الثقافة والدولة والمجتمع الإسلامي هناك تمايز بين رجال الدين والسلطة والمفاهيم الدنيوية.
النظرة الشعبية للعلمانية التي تتبنى بطريقة بسيطة رؤية طلال أسد بأن العلمانية، أمر غريب وفرض بالقوة ضمن هيمنة ثقافية غربية خارجية تجعل سمعتها سلبية، ومجرد ذكرها مرفوض مهما كان المضمون ودون النظر إليه، بحسب رأي درويش.
وبقدر ما يرى إيجابية في أطروحات أسد، يشير إلى أن الأخير إلى جانب المسيري، تعاملا بنوع من العدائية السلبية تجاه “العلمانية”، واختزلت بمسألتي الحداثة والهويات، إسلامية في مواجهة غربية وحداثية، بحسب رأيه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :