شهيدان.. مجلسا عزاء.. وقاتلان.. من قتل أبناء أم علاء؟

  • 2016/02/28
  • 1:34 ص

 حنين النقريعنب بلدي

تجلسُ حائرةً وسط صفوف المعزيّات، تغيب في شرودها الطويل عما يدور حولها، يظنّ من يراها أو يعزيها بأنّه الصبر والتجلّد، لكنها الحيرة والتعجب من الحال الذي وصلتْ إليه. تدخل امرأة وتخرج أخرى من العزاء بينما تكتفي هي بهزّ رأسها وعيناها مدهوشتان، تضيعان في واقعٍ ملتبس.

كأيّ والدة أخرى، كانت أمّ علاء ترغب في رؤية أبنائها يكبرون أمامها، يتخرجّون من الجامعة، يتزوجون، فتكبر عائلتها الصغيرة وترى أحفادها، لتصبح جدّة قديرة فخورة بما لديها من أبناء وأحفاد. حلمها البسيط هذا ذهب مع ملايين الأحلام البسيطة لسوريين لم يكونوا يريدون سوى حياة حرّة كريمة. وكانت بداية خساراتها لعائلتها وانهيار حلمها البسيط استشهاد ابنها البكر علاء في اعتصام الساعة في حمص مطلع الثورة 2011.

كانت حادثة الساعة واحدة من أوائل المجازر بدايات الثورة، لتفرقة اعتصام يعتبر الأكبر من نوعه في حمص، حيث اجتمع في الساحة الكبيرة، في 18 نيسان 2011، عشرات الآلاف من المدنيين من حمص وريفها، استمر الاعتصام إلى أن قررت قوات الأمن المتمركزة بعيدًا عنه فضّه في الساعة الثانية صباحًا من 19 نيسان، فهجمت على المعتصمين بالسلاح الحيّ.

كان عناصر من الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية المسؤولين عن المجزرة، والتي أوقعت بين 200-300 شهيد في صفوف المعتصمين، بحسب شهادة لجنديّ منشق لمنظمة هيومن رايتس ووتش، عدا الاعتقالات التي طالت العشرات من الشباب ذلك اليوم.

بانتظار خبر الحياة

انتظرت أم علاء ابنها طويلًا ليلتها على أصوات إطلاق نار تعمّ أحياء حمص كلها، ورغم جزعها ونحيبها كانت تصبّر نفسها أنه بخير. عندما علمت بالمجزرة علّقت أمنياتها على أن يكون ابنها بين المعتقلين رغم معرفتها بسوء حال الاعتقال، “على الأقل أعلم أنه حيّ”، بحسب تعبيرها.

لكنّ أحد أصدقاء علاء أكد لهم في اليوم التالي مقتله أمام ناظريه، وهنا لم يكن أمام الوالدين إلا الرضا بالقدر ولملمة بقايا العائلة. وعلى وقع فجيعتها ببكرها أصرّت أم علاء على ابنيها الباقيين ألّا يشاركا في المظاهرات أو بأي نشاط ثوري آخر، “رأفةً بحالها وحال أبيهما”.

بعدها، ارتفع رتم المجازر في سوريا، فأحصت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 619 مجزرة للنظام وحلفائه عام 2015 فقط، في حين نشر المرصد السوري لحقوق الإنسان إحصائيات في شباط الجاري تؤكد مقتل ما يزيد عن 370 ألف سوري منذ انطلاقة الثورة.

رحلة نزوحٍ مركبة

في هذا الوقت كانت العائلة تعيش رحلة نزوح طويلة الأمد كثيرة المراحل، تنقّلت فيها بين ثلاث مناطق هربًا من الموت وخوفًا على الابنين، إذ خرجت بدايةً من حمص القديمة قبل أن يشتد حصارها قاصدين دمشق، حيث كان الوضع أكثر أمنًا واستقرارًا ومكثت فيها عدّة أشهر، إلا أنّ ارتفاع إيجارات البيوت في العاصمة شكل عامل ضغط كبير عليهم، فعادوا أدراجهم قاصدين الوعر عندما عرض عليهم أحد أقاربهم ممن سافر إلى الخارج خيار الإقامة في منزله دون أجرة، مقابل الاهتمام به وخوفًا من دخول بعض المشردين إليه عنوةً.

لم تستمر إقامة العائلة في الوعر طويلًا، فسرعان ما بدأ الوضع في آخر أحياء حمص احتضانًا للثورة يتأزم ويشهد توترات واشتباكات، فخرجوا منه قاصدين حيّ الغوطة.

وكانت الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان، التابعة للنظام، قدرت في إحصائيات منتصف عام 2015 أن ما يعادل ثلث السكان في سوريا قاموا بحركة نزوح داخلي خلال السنوات الخمس الأخيرة (أي ما يعادل ثمانية ملايين شخص)، ويتركز النزوح على أربع محافظات جاذبة أساسية وهي دمشق، وطرطوس، واللاذقية، والسويداء.

السَّوْق للاحتياط يوتّر العائلة

مع كثرة التنقلات وخوف أم علاء على ابنها الأوسط سامر من الدوام اليومي، لم يستطع الأخير أن ينجح في سنته الجامعية الأولى لمرتين، وفوجئ عندما قصد شعبة التجنيد مع ورقة التأجيل من الجامعة أن الطلب هذه المرة لن يُقبل مباشرة، وأخبره الموظّف أن الطالب “عندما يرسب مرتين في نفس السنة ثم يتقدم بطلب تأجيل ثالث فإن الطلب يُرفع إلى القيادة في دمشق” لتنظر في الوضع، إلا أنه “غالبًا ما يعود مع الموافقة على التأجيل لستّة أشهر أخيرة”، وعلى الطالب بعدها إما أن ينجح إلى السنة التالية أو يتم سحبه لخدمة العلم.

وكانت وكالة الأنباء السورية (سانا) نشرت مرسومًا تشريعيًا معدلًا برقم 38 صادرًا عن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، ينص على العمل بفقرات إضافية للمادة 74 المتعلقة بقانون خدمة العلم، وتنص الفقرتان على إجراءات التعويض والإجازة المأجورة لكل العمال في القطاع العام الذين يساقون لأداء الخدمة الاحتياطية، بالإضافة لتفصيل حال العاملين في القطاع الخاص والمشترك، دون الإشارة صراحة إلى أي تغييرات في حالات تأجيل خدمة العلم أو الحالات الموجبة للسّوْق للاحتياط.

حاول سامر استعجال المعاملة العالقة في دمشق بدفع الرشاوى حينًا أو سؤال محامين حينًا آخر، وكانت التطمينات تأتيه أن التأخير روتينيّ لا أكثر، وأن الحواجز ستتفهم إن شرح لهم حالته، إلا أن أوراقه تأخّرت وأصبح يخشى الخروج من المنزل لا سيما مع تشديد الحواجز الأمنية على ورقة التأجيل وحملات سحب الاحتياط والمتخلفين.

حملات السحب للاحتياط هي واحدة من أبرز مخاوف الشباب السوريين في الفترة الأخيرة، في ظل حالة من النفير العام غير المعلن عنه، جعلت الشباب بين سني 18 و42 عامًا هدفًا لأي حاجز يمرون عبره، سواء أكان الشاب طالبًا مؤجلًا، أم وحيدًا في عائلته، أم أنه قد أنهى خدمة العلم سابقًا، فالاحتياط لا يعرف ذلك، ومزاجية رجال الأمن لا تعرف القوانين.

من قتل سامر؟

عندما تأخّر سامر عن العودة من “مشوار قريب” في حي الغوطة نفسه عشية أحد الأيام، لم تظن والدته بأنه لن يعود لها ثانية، فالوضع الأمني في حمص شهد استقرارًا نسبيًا بعد هدنة الوعر (نهاية 2015)، وتوقّف القصف ونشطت حركة الأسواق بشكل أفضل من السابق، وبدا أن الأمور آخذةٌ في التحسّن.

غياب سامر لم يطل أكثر، إذ اتصل بهم أحد أصدقائه ليخبرهم بأن سامر اعتقل على أحد حواجز المدينة أثناء التفتيش، باعتباره لا يملك تأجيلًا ساريًا.

لم يكن وقع الخبر سهلًا على والدته ووالده بعد كل الجهود التي بذلاها كي يحافظا على ما تبقى من العائلة، وقبل أن يتمكنا من تحريك ساكن لمساعدة ابنهما والاستعلام عن مكانه، وفي فوضى السحب العشوائي والتجنيد، وصل لهما خبر آخر لاحق بنقله إلى دمشق مع 60 مجندًا آخر.

كان أبو علاء يسعى بين معارفه محاولًا تدراك الموضوع في دمشق عندما فجعوا بالخبر الأليم، إذ استهدفت عبوة ناسفة زُرعت على طريق أوتوستراد حمص- دمشق الباص الذي كان يقلّ المطلوبين للاحتياط والمتخلفين ليذهب جميع من فيه بالكامل، ومن بينهم سامر.

البارحة كانت أم علاء أم البطل، جاءها مئات المباركين بـ “استشهاد” ابنها الكبير، عندما تحوّل منزلها إلى عزاء لم تكن لتتخيله، كان الكل يُثني على ابنها وعلى تربيتها ويعدها بإكمال الطريق عنه وبأن دماءه لن تذهب غدرًا. واليوم تجد نفسها تفتتح من جديد عزاءً لأخيه الذي اعتقل قسرًا، وجُنّد عنوةً وقتل خطأ على أيدي من كانت ترجو منهم النجاة.

مقالات متعلقة

  1. عن ماريا وجيلها
  2. السوريون في أماكن سيطرة النظام.. محاصرون أيضًا
  3. علاء.. خسر أصابعه لكنه لم يفقد حلمه بالطب
  4. طالبة بعد أربعين سنة

مجتمع

المزيد من مجتمع