عودة الاستعمار
إبراهيم العلوش
وصول البوارج الأمريكية والوفود العسكرية والمدنية الأمريكية والأوروبية إلى إسرائيل بهذه الكثافة والحماسة يعبّر عن إحياء المشاريع الاستعمارية في المنطقة، التي صار الروس والإيرانيون يعملون فيها بصراحة على أخذ حصة من الغرب في الحقبة الاستعمارية الجديدة.
خطابات الرئيس بايدن، والمستشار الألماني شولتز، ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك، ورئيسة الاتحاد الأوروبي فون دير لاين، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالإضافة إلى سيل من الرؤساء والمسؤولين الأوروبيين الغربيين من النمسا وكندا وغيرهما من البلدان الغربية، تعبّر جميعها وبحسم عن الالتزام بأمن إسرائيل مهما فعلت، ومهما ارتكبت من جرائم حقوق الإنسان، التي يتم الإشارة إليها بخجل وبنوع من التسول الغربي من إسرائيل لتتكرم وتسمح بدخول مياه الشرب أو غيرها من مجريات الحصار الخانق والمحرقة التي يتم تنفيذها في الهواء الطلق، ودون خجل من تجاهل الفلسطينيين كبشر، ومن تجاهل حقوقهم التي تنص عليها القوانين والمحاكم الدولية (التي أصابها الخرس).
في جلسة الأربعاء الماضي التي عقدها مجلس الأمن لمناقشة الأحداث في المنطقة، تحدث الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، بصراحة، وقال إن ما يحدث في غزة من قصف وتهجير جماعي مخالف لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وإن هذه الأحداث تمتد إلى جذور القضية الفلسطينية، حيث يعاني الشعب الفلسطيني الاحتلال ومصادرة حقه في تقرير المصير.
هبّ وزير الخارجية الإسرائيلي غاضبًا من الأمين العام لأنه عاد إلى تواريخ أقدم من 7 من تشرين الأول الحالي، التاريخ الذي تكرسه إسرائيل مثل يوم 11 من أيلول 2011 في أمريكا، وتجبر “الميديا” العالمية والسياسيين المؤيدين لها على إسقاط أفعال إسرائيل منذ نكبة 1948 لأن “حماس” تجرأت على مهاجمتها، في خطاب يكرّس ثنائية السيد والعبد.
ولحقه المندوب الإسرائيلي مطالبًا بإقالة الأمين العام للأمم المتحدة، متناسيًا أنه مندوب الدولة التي لم تطبق أيًا من قرارات الشرعية الدولية البالغة 87 قرارًا حول الحقوق الفلسطينية، كما قال المندوب الجزائري في تلك الجلسة.
في الجانب الآخر، نجد أن وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد اللهيان، لا يترك سوريا ولبنان، وكل تصريحاته تصب في إبراز دور إيران المسيطرة على دولتين في جوار إسرائيل، هما سوريا ولبنان، ويطالب باعتبار إيران لاعبًا ومفاوضًا في الأحداث التي ستعيد تخطيط منطقة الشرق الأوسط، كما قال بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وبدوره، الرئيس فلاديمير بوتين، الذي تملك بلاده قواعد استعمارية في سوريا، صار يتباكى على المدنيين الفلسطينيين نكاية بالغرب وبالدور المنافق الذي يمارسه في حقوق الإنسان، مستفيدًا من الأحداث الجديدة بخروج التغطية الغربية اليومية لحربه الإجرامية في أوكرانيا بعد تصدّر أخبار المحرقة الفلسطينية على حساب جميع الأخبار الأخرى.
الشرق الاوسط الجديد، كما بشّر به وزير خارجية أمريكا الأسبق، كولن بأول، بعد احتلال العراق، بدأ يتشكل، لكن أطرافًا جديدة تدخل في تشكيله وأخذ حصة استعمارية من البلاد العربية، التي يغرق حكامها في الفشل واستهلاك الخطابات المكرورة المكرسة للسيطرة على الشعوب بقبضة مخابراتية لا تنتج غير مزيد من الهزائم والخراب.
لم يتجرأ بشار الأسد على الرد عندما أمره إسماعيل قآني، رئيس “الحرس الثوري الإيراني”، بعد أيام من أحداث 7 من تشرين الأول، بتسليم جبهة الجولان لـ”حزب الله” وفتحها كبديل محتمل، ورغم محاولته التذرع بظروف البلاد المنهارة، فإنه وافق على طلبه باعتبار إيران دولة مشغّلة للنظام الذي فقد شرعيته.
أما في لبنان فإن “حزب الله” حوّل البلاد إلى مستعمرة إيرانية، وامتلك قرار الحرب والسلم فيها بحجة تحرير فلسطين، ودعم محور الممانعة الذي يحاول انتزاع أكبر حصة لإيران وأكبر نفوذ لها في كواليس تشكيل الشرق الأوسط الجديد.
أوروبا الغارقة بتيارات اليمين المتطرف وجدت نفسها تعود إلى شبابها الإمبراطوري الاستعماري، وهي تصطف خلف البيارق الأمريكية والإسرائيلية، متناسية جوارها للعالم العربي وأهمية العيش معه بسلام وبمصالح متبادلة، متوهمة بأن السيطرة على الحكام الفاسدين هي سيطرة على الشعوب العربية أيضًا.
مهما كانت النتائج فإن الشعوب العربية هي الخاسرة ما دامت غير قادرة على التأثير، وما دام الفشل السياسي يكبّل حكمها، فهؤلاء الحكام مع كل المستعمرين الجدد والقدامى ليس لهم إلا هدف واحد، هو إبقاء شعوب المنطقة العربية غارقة في الخوف والجهل ومناقشة تفاصيل الأساطير والأوهام التي ترضي غرور الحكّام ورجال الدين الغارقين في أمجاد التاريخ.
نعايش مأساة الفلسطينيين كل يوم وكل ساعة، وهي تذكّرنا بالقصف الذي عانينا منه على يد نظام الأسد الذي يحاول إبقاء البلاد سجنًا كبيرًا لا يختلف كثيرًا عن سجن غزة، وعلى يد الروس الذين يتوهمون النصر على الغرب بسياساتهم الاستبدادية، وعلى يد الميليشيات الإيرانية التي تعيش في ساحات أخرى من التاريخ الذي يستعيد هيمنة الإمبراطورية الفارسية، ولكن بنكهة طائفية.
هذا الأفق المسدود أمام الشعوب العربية هو الذي يجعل عودة الاستعمار اليوم ممكنة، فالحاكم العربي كل ما يهمه بقاؤه في سدة الحكم، حتى لو استعان بالمستعمرين، وهذا هو أحد الأعراف التاريخية السائدة في عالمنا العربي منذ أن استعان بعض الحكام العباسيين بالترك لتثبيت حكمهم، مكرسين قاعدة أساسية لا تزال سارية منذ ألف عام إلى اليوم، هي استمداد الشرعية من الأجنبي، وليس من الشعب، مهما كانت العواقب.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :