عنب بلدي – براءة خطاب
تشكل مذكرات التوقيف الدولية علامة بارزة للحد من حالة الإفلات من العقاب على الجرائم التي يرتكبها النظام السوري، وبعد مرور خمس سنوات على صدور مذكرة توقيف دولية ضد كبار المسؤولين في مخابرات النظام، شملت ثلاث شخصيات تواجه تهم ارتكاب “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية”، أصدر القضاء الفرنسي مجددًا مذكرات اعتقال بحق أربعة من كبار المسؤولين السوريين.
وأثار قرار القضاء الفرنسي تساؤلات حول جدوى القرار ومدى تأثيره على الملف السوري، في ظل وجود المسؤولين المتهمين خارج الأراضي الفرنسية، ورحب بعض الحقوقيين بقرار القضاء معتبرين أنه خطوة إيجابية تبرز دور فرنسا بمحاسبة الضالعين بانتهاكات في سوريا، وتؤكد عدم الإفلات من العقاب على الجرائم ضد الشعب السوري.
رمز لاستخدام البراميل المتفجرة
يمهّد القرار، الصادر في 19 من تشرين الأول الحالي، لمحاكمة مسؤولين كبار في النظام السوري، هم وزير الدفاع الأسبق، فهد جاسم الفريج، ووزير الدفاع السابق، علي عبد الله أيوب، وقائد القوات الجوية، أحمد بلول، وقائد “اللواء 64 مروحيات”، علي الصفتلي، وجميعهم يخضعون لمذكرات توقيف دولية بتهمة التواطؤ في جرائم حرب، وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين، وقتل شخص محمي بموجب اتفاقيات منها القانون الدولي الإنساني.
وتعد القضية الأولى التي يُتهم فيها مسؤولون عسكريون رفيعو المستوى في الجيش السوري بارتكاب جرائم حرب ناشئة عن عملية عسكرية موجهة ضد المدنيين، كما تعد رمزًا لاستخدام النظام السوري البراميل المتفجرة عبر سلاح الجو، بحسب ما قاله المختص في القانون الجنائي الدولي المعتصم الكيلاني، لعنب بلدي.
الكيلاني ذكر أن تحرك القضاء الفرنسي اليوم يأتي ليؤكد مجددًا أنه لا إفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة في سوريا على الإطلاق.
وعن فائدة المذكرات بالنسبة للملف السوري، يعتقد الكيلاني أن المشتبه بهم الأربعة سيكونون في مستقبل سوريا محل المساءلة والملاحقة القضائية، وسيطلب من “الإنتربول” الدولي تعميم أسمائهم على اللائحة الحمراء، وفي ذلك الوقت لن يتمكنوا على الإطلاق من السفر خارج سوريا، حتى لا يعرّضوا أنفسهم للتوقيف والتسليم الى السلطات القضائية الفرنسية.
محاكمات غيابية
لفت النظام القضائي الفرنسي الانتباه إلى دور المسؤولين الكبار الأربعة في جرائم الحرب المرتكبة ضد الشعب السوري، وتعتبر هذه الخطوة رسالة قوية إلى أن العدالة خارج الحدود الإقليمية لها دور أساسي في ملاحقة المسؤولين عن “أخطر” الجرائم المرتكبة ضد المدنيين في سوريا منذ آذار 2011، دون الوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو العدالة الانتقالية، أو محكمة مشتركة.
كما توضح أن هذه التحقيقات ممكنة ومحتمل أن تؤدي إلى نتائج ملموسة، بفضل عمل التوثيق المكثف الذي قام به الناشطون السوريون منذ عام 2011 ودور الضحايا والشهود الذين يشاركون شهاداتهم، بحسب “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”.
وأوضح معتصم الكيلاني، لعنب بلدي، أنه بحال عدم تنفيذ أوامر الاعتقال الدولية، يمكن لقضاة التحقيق النظر في إغلاق التحقيق وإحالة القضية إلى المحاكمة.
ويتمتع القضاء الفرنسي بخاصية المحاكمات الغيابية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المشتبه بهم لهم الحق بأن يمثلهم محامٍ طوال مدة المحاكمة، حتى لو لم يكونوا هم أنفسهم حاضرين في المحكمة، لحين إصدار الحكم بحقهم، وآنذاك تصدر مذكرات توقيف دولية لتنفيذ الأحكام الجنائية الصادرة، بحسب الكيلاني.
ما القضية
جاءت مذكرات الاعتقال بحق المسؤولين الأربعة لضلوعهم بارتكاب جرائم حرب ناشئة عن عملية عسكرية موجهة ضد المدنيين، بعد تحقيق قضائي بدأ عام 2017.
وبدأت القصة حين تعرضت مدينة درعا، وتحديدًا حي طريق السد، في 7 من حزيران 2017، لقصف مكثف من قبل النظام السوري، تحت إطار عملية الاعتقال، وهي عملية عسكرية قادتها قوات النظام على مدينة درعا، جنوبي سوريا، بدعم فعال من موسكو.
وخلال الهجوم، استُهدف منزل صلاح أبو نبوت، وهو مواطن سوري يحمل الجنسية الفرنسية، بالبراميل المتفجرة التي أُطلقت من الطائرات المروحية، وقُتل صلاح أبو نبوت في الهجوم، بحسب “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”.
وضم المبنى المستهدف مدرسة للأطفال وهي مدرسة “السد” (أجيال) التي كانت تدار من قبل منظمة غير حكومية أردنية.
وفي 12 من حزيران، أبلغت زوجة أبو نبوت السلطات الفرنسية بالتفاصيل التي حدثت، وفي 29 من كانون الثاني 2018، فتحت وحدة جرائم الحرب في محكمة باريس تحقيقًا بناء على الشكوى المقدمة من نجله عمر أبو نبوت بشأن مقتل والده صلاح أبو نبوت، وتم تعيين قاضيين للتحقيق وقبول نجل الضحية عمر كطرف مدني.
وكان صلاح أبو نبوت تعرض للاعتقال في نيسان 2013 حتى عام 2015، وأُطلق سراحه من سجن “عدرا”، فيما غادرت عائلته إلى الأردن ثم إلى فرنسا خلال فترة اعتقاله.
وانضم “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” (SCM) إلى الإجراءات كطرف مدني في القضية، وأسهم المركز بتزويد قضاة التحقيق بأسماء الشهود، ومجموعة كبيرة من الصور والتسجيلات المصورة التي وثقت تفجير 7 من حزيران 2017 في درعا، بالإضافة إلى معلومات أساسية عن التسلسل القيادي للقوات الجوية السورية، وقوات النظام، وآلية صدور وتسلسل تنفيذ الأمر القتالي في سلاح الجو السوري.
وقُدمت إلى القضاء دراسة خاصة حددت فيها نوع الطائرة التي نفذت الهجوم، وهي مروحية “ME” روسية الصنع، والمطار الذي أقلعت منه، كما حددت نوعية الأسلحة المستخدمة خلال الهجوم وهي البراميل المتفجرة.
وعمل المركز بشكل مستقل دون شركاء دوليين، بإعداد وبناء ملف القضية بالكامل وتقديمه إلى المحكمة الفرنسية، وهي “رسالة واضحة أخرى مفادها أن الضحايا أنفسهم والمنظمات المحلية هم الضمانة الأساسية لتحقيق العدالة ووضع حد للإفلات من العقاب من أجل بناء سلام مستدام في سوريا”، بحسب مدير مشروع التقاضي الاستراتيجي في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، المحامي طارق حوكان.
معايير بدء التحقيقات
كان صلاح أبو نبوت مواطنًا سوريًا يحمل الجنسية الفرنسية، وللمحاكم الفرنسية اختصاص بالجرائم المرتكبة بحق المواطنين الفرنسيين أو مزدوجي الجنسية، وكذلك الجرائم التي يرتكبها مواطنون فرنسيون أو مزدوجو الجنسية، وعلى أساس الجنسية السورية- الفرنسية المزدوجة لصلاح أبو نبوت، بدأ تحقيق قضائي جنائي بقيادة قاضي تحقيق مستقل من وحدة جرائم الحرب الفرنسية بفرنسا في كانون الثاني 2018.
ومع ذلك، فإن عديدًا من ضحايا الجرائم الدولية الذين يسعون إلى تحقيق العدالة، بمن فيهم عديد من السوريين، لا يحملون الجنسية الفرنسية، ومن أجل السماح لهم بالوصول إلى العدالة، اعتمد المشرّع الفرنسي عدة تشريعات، بحسب “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير“.
وعلى سبيل المثال، منذ إدراج اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في القانون الفرنسي عام 1986، يمكن مقاضاة أي مشتبه به موجود على الأراضي الفرنسية ومحاكمته في فرنسا بتهمة التعذيب.
وينطبق الشرط نفسه منذ آب 2013 على المشتبه بارتكابهم جريمة الإخفاء القسري، بعد إدراج اتفاقية الأمم المتحدة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري في القانون الفرنسي.
وبغض النظر عن جنسيتهم وبلد إقامتهم، يمكن لضحايا التعذيب والاختفاء القسري تقديم شكوى جنائية إلى المدعي العام الفرنسي والمشاركة في الإجراءات كأطراف مدنية، ويمنح هذا الوضع الضحايا حقوقًا واسعة طوال فترة التحقيق، مثل القدرة على طلب إجراء تحقيقات محددة، أو استدعاء شهود معينين للإدلاء بشهاداتهم.
وفيما يتعلق بالجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب المرتكبة في الخارج، اعتمد البرلمان الفرنسي، في 9 آب 2010، قانونًا يدرج نظام روما الأساسي في القانون الفرنسي، ويمنح هذا القانون المحاكم الفرنسية اختصاص محاكمة مرتكبي هذه الجرائم إذا توفرت الشروط التالية:
أن يقيم المشتبه به في فرنسا، ووجود تشريع يجرم هذه الأفعال في الدولة التي ارتكبت فيها، أو تكون الدولة التي يكون المشتبه به من رعاياها أو التي ارتكبت فيها الجرائم طرفًا في نظام روما الأساسي.
ولا يمكن الشروع في الملاحقات القضائية إلا بناء على طلب المدعي العام الفرنسي.
وأن يكون المشتبه به ليس خاضعًا لأي طلب تسليم أو مقاضاة من محكمة دولية أو وطنية.
وعُدلت هذه الأحكام بشكل بسيط بموجب قانون 23 من آذار 2019، الذي استبعد شرط التجريم المزدوج لجريمة الإبادة الجماعية، وأزال الرفض الصريح للاختصاص من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
كما عُدّلت هذه الأحكام لاحقًا من قبل نواب الجمعية الوطنية الفرنسية، في 6 من تموز الماضي، عندما صوّتوا لمصلحة إلغاء شرط التجريم المزدوج لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، واعتمده البرلمان الفرنسي بشكل نهائي في 11 من تشرين الأول الحالي.
وفي 1 من كانون الثاني 2012، أنشئت وحدة متخصصة لمحاكمة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في باريس، وتتألف هذه الوحدة من خمسة مدعين عامين، وثلاثة قضاة تحقيق مستقلين، وفريق من المحققين المتخصصين، يعملون حصرًا في قضايا الجرائم الدولية، وتجري الوحدة الفرنسية حاليًا 85 تحقيقًا أوليًا و79 تحقيقًا قضائيًا متعلقًا بجرائم دولية ارتُكبت خارج الأراضي الفرنسية، منها نحو 10 تحقيقات تتعلق بجرائم ارتُكبت في سوريا.
مذكرات سابقة
في تشرين الثاني 2018، أصدر القضاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية ضد كبار المسؤولين في مخابرات النظام السوري، شملت ثلاث شخصيات تواجه تهم ارتكاب “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية”.
الأسماء الثلاثة، التي نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية، ضمت كلًا من علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي السوري، وجميل حسن، مدير إدارة المخابرات الجوية السورية، وعبد السلام محمود، رئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية.
ويواجه المسؤولون الثلاثة تهمًا قضائية تثبت ضلوعهم في عمليات الإخفاء القسري وتعذيب المعتقلين في السجون السورية بطريقة وحشية، وذلك إثر الصور التي سربها الضابط المنشق عن النظام السوري المعروف باسم “قيصر”، والتي تظهر تعرض المعتقلين للتعذيب والتجويع والتنكيل بجثثهم.