عنب بلدي – محمد فنصة
“الشغل مع زبائن خارج سوريا أفضل، لأن الدفع غالبًا بالدولار، أما بالبلد ما بتوفي معنا، ساعات عمل طويلة مقابل أجور بسيطة”، بهذه الكلمات أوضحت رانيا سبب توجهها للعمل عن طريق الإنترنت لزبائن خارج سوريا، رغم المشكلات المتعددة التي قد تنتج عن هذه العملية.
رانيا تشترك في هذا السلوك مع عديد من الأشخاص في سوريا ممن يستطيعون تقديم الخدمات المأجورة عبر الإنترنت، مثل تصميم الصور بأنواعها (شعار شركة، بروشور، أغلفة كتب، وغيرها)، وإنتاج أو تعديل مقاطع مصورة، وبرمجة وتصميم المواقع الإلكترونية، وغيرها، عن طريق مواقع إلكترونية وسيطة تجمع بين مقدمي هذه الخدمات والباحثين عنها.
وتنتشر المعاهد الخاصة التي تفتتح دورات تعليمية تختص بتدريس المجالات المذكورة، في حين يتعلم بعض الأشخاص من المصادر المفتوحة المجانية على الإنترنت.
وازداد الطلب على تعلم التصميم ولغات البرمجة بسبب دخلها المرتفع مقارنة ببقية المهن، وخصوصًا عند العمل لزبائن خارج سوريا، إذ يكون الأجر بالعملات الأجنبية، في ظل تدهور قيمة الليرة السورية وتدني قيمة الأجور بشكل عام لتردي الوضع الاقتصادي.
بالمقابل، يعاني أصحاب هذه المهن مصاعب مشتركة تتعلق بطبيعة المهنة التي تحتاج إلى الجلوس أمام شاشة الكمبيوتر لساعات طويلة، وأخرى خاصة بالمقيمين في سوريا من انقطاع مستمر للكهرباء، وضعف سرعة الإنترنت، وانتقاص أجورهم لعدم وجود طريقة دفع مباشر، والاعتماد على طرق التحويل الرسمية التي تصرف العملة الأجنبية للمحلية بقيمة أقل من المتعامل بها في الأسواق.
تحديات متعددة
رانيا (طلبت عدم ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية) تقيم في محافظة درعا جنوبي سوريا، وتعمل في مجال تصميم الصور باستخدام الكمبيوتر منذ عدة سنوات، قالت لعنب بلدي، “إن من عيوب عملي أنه يتطلب ساعات طويلة مرهقة غير محددة المدة أمام شاشة الكمبيوتر، وهو ما يؤثر على حالتي النفسية”.
وتعمل رانيا بشكل أساسي على مشاريع منفصلة لزبائن أجانب خارج سوريا، لكنها بسبب عدم كثافة العمل وانقطاعه لأيام أو أسابيع أحيانًا، تقدم في مركز تعليمي بمدينتها دورات تدريبية للمهتمين بتعلم ذات المجال.
بحسب تقرير منظمة العمل الدولية (ILO) الصادر في أيلول الماضي، يعاني أكثر من 13 مليون شخص في جميع أنحاء العالم ضعف البصر بسبب عملهم، مع ما يقدّر بنحو 3.5 مليون إصابة في العين تحدث في مكان العمل كل عام، ويمثل هذا 1% من جميع الإصابات المهنية غير المميتة.
نفذت رانيا عديدًا من المشاريع لعملاء من لبنان والأردن ومصر والكويت والإمارات عبر مواقع متخصصة بربط العاملين على الإنترنت بمختلف المجالات مع الباحثين عن هذه الخدمات، مشيرة إلى أهمية تسويق المصمم لأعماله من أجل الحصول على زبائن، كمهمة إضافية لعمله.
وعلى الرغم من التطور التقني الذي ساعد في الوصول إلى عملاء من خارج البلاد، يواجه السوريون مشكلات في العمل عن بُعد، منها ما ذكرته رانيا من “مجادلة” أصحاب المشاريع حول الأجور ومواصفات المشروع المطلوب، مهددين باللجوء لمصممين آخرين للخضوع لشروطهم، دون وضع أي اعتبار لحرفية المصمم وإبداعات تصاميمه، وفق تعبيرها.
ويصل مدخول رانيا الشهري بشكل متوسط إلى 200 دولار من عملها بالتصميم لعملاء أجانب، لكنها دائمًا ما تخسر جزءًا من أجورها بسبب طريقة تسلم الأجور، واشتراط العملاء الأجانب الدفع فقط بقنوات التحويل الرسمية.
وتتسلم رانيا أجورها على شكل حوالات عبر شركة “ويسترن يونيون”، التي بدورها تسلم المبلغ في سوريا حصرًا بالليرة السورية، وبسعر صرف البنك المركزي السوري، الذي يختلف في سعر الدولار الواحد عن “السوق السوداء” بعدة آلاف من الليرات السورية، ويضاف إلى هذا الفرق أجور الحوالة التي تُخصم من حساب رانيا.
بلغ سعر صرف الدولار الواحد بحسب نشرة “الحوالات والصرافة” 11500 ليرة سورية، في 19 من تشرين الأول الحالي، بينما بلغ سعره 13850 ليرة في “السوق السوداء”، بحسب موقع “الليرة اليوم” المختص بتتبع سعر العملة المحلية.
يلجأ عديد من السوريين في سوريا، وخصوصًا النساء والفتيات، إلى تعلم مهارات التصميم الإلكتروني بمختلف مجالاته (صور، مواقع ويب، تعديل مقاطع مصورة) عبر دورات تدريبية، بحثًا عن فرص عمل باختصاصات يمكن أداؤها من المنزل، وفق ما رصدته عنب بلدي.
بحسب تقرير “ILO” الصادر في آب الماضي، حول احتياجات العائلات المتأثرة بالزلزال في حلب، كانت أهم التحديات التي تواجه المرأة في العمل تتعلق ببعد مكان العمل عن منزلها، وتطلب العمل في ورديات ليلية، أو وجود أطفال لديها بحاجة إلى رعاية، بالإضافة إلى انخفاض الأجور وظروف العمل السيئة.
مواقع مساعدة محظورة
شرح فادي من ريف دمشق بعض الصعوبات التي يواجهها في العمل الخارجي كونه مصمم صور ومصور منتجات، مثل أن العمل عن بُعد في مجال التصميم لا يسمح للمصمم بالتعرف إلى شخصية الزبون وإعطائه مشروعًا “يناسب ذوقه”، كما يصعب شرح متطلبات الزبون في المشروع.
وبالاعتماد على رؤية المصمم، يزداد احتمال أن يرفض العميل المشروع، أو يطلب تعديلات كثيرة “مجهدة”.
وقدّر فادي (طلب عدم ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية)، أن نحو 30% من الزبائن الخارجيين “محتالون” يمتنعون عن دفع أجور العمل المتفق عليها بعد تسلم المشروع، موضحًا عدم إمكانية اكتشاف طبيعة العميل إلا بعد انتهاء العمل، إذ يرفض أي زبون تقديم دفعات مقدمة، ويقتصر الأمر على وعود فقط، دون عقد مكتوب أو جهة قانونية تحفظ حقوقه.
وواجه فادي عديدًا من المشكلات خلال عملية تحويل الأجور له في سوريا، أهمها عدم موافقة أي أجنبي على تحويل الأموال إلا عبر المكاتب المرخصة والرسمية، التي تتعامل بأسعار المصرف المركزي، وبذلك يخسر جزءًا من قيمة أجوره.
ولتجنب هذه المشكلة، توجه فادي للعمل مع السوريين في الخارج فقط، إذ إن أغلبيتهم لديهم أقارب في سوريا، يحولون لهم الأموال بطرق غير رسمية، ليتسلم فادي أجوره من أقارب العميل وفق سعر صرف “السوق السوداء”.
في أغلبية بلدان العالم يتسلم مقدم الخدمات عن بُعد أجوره عبر الدفع الإلكتروني المباشر في حسابات بنكية، وبذات العملة المتفق عليها، ولعدم رواج التعامل بالحسابات البنكية في سوريا أو تعامل الشركات الأجنبية مع البنوك في سوريا، يُحرم السوريون من هذه الميزة.
ضعف الشبكة والكهرباء
من الصعوبات الأخرى التي يواجهها السوريون العاملون في مشاريع عن بُعد، ضعف سرعة الإنترنت، وفترات انقطاع الكهرباء الطويلة اللازمة للعمل، وعدم استفادتهم من المواقع العالمية التي تقدم خدمات الذكاء الاصطناعي وتسهل مجال عملهم، كما أفاد فادي.
تحجب السلطات مواقع أهم أدوات الذكاء الاصطناعي الرائجة مثل “ChatGPT”، ومنصة “Bard” التابعة “لجوجل”، وبعض أهم مواقع توليد الصور عبر توصيف الكلمات.
كما تعد أهم برامج التصميم وإنشاء وتعديل الصور والمقاطع المصورة من شركة “أدوبي”، من البرامج المدفوعة التي لا يمكن للسوريين شراؤها عبر الإنترنت، لعدم وجود حسابات بنكية تدعمها الشركة في سوريا، وهو ما يضطرهم لاستخدام نسخ مقرصنة من البرنامج.
وفي دراسة لمنظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، في آب الماضي، وجدت أن خطورة الذكاء الاصطناعي التوليدي على العمل المكتبي أكبر من غيره، كونه قادرًا على إنتاج نصوص وصور وأصوات ورسوم متحركة ونماذج ثلاثية الأبعاد وبيانات أخرى، ويتوقع أن تصبح ربع مهام العمل معرضة بشدة للأتمتة المحتملة.
وفقًا لتقديرات منظمة العمل الدولية، قبل أزمة “كوفيد- 19″، كان هناك ما يقرب من 260 مليون عامل من المنزل في جميع أنحاء العالم، يمثلون 7.9% من العمالة العالمية، وكان 56% منهم من النساء.
ويقول التقرير إن من المرجح أن يستمر نمو الأعمال المنزلية في السنوات المقبلة، ما يجدد الحاجة الملحة إلى معالجة المشكلات التي تواجه العاملين في المنزل وأصحاب العمل.