عن الإبادة الجماعية
لمى قنوت
اكتملت المراحل العشر لجريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين والفلسطينيات بشكل عام، وسكان غزة بشكل خاص، والتي تشمل التصنيف، والترميز، والتمييز، والتجريد من الإنسانية، والتنظيم، والتباعد، والتحضير، والاضطهاد، والإبادة، والإنكار.
يعد تصنيف المرحلة الأولى من مراحل عملية الإبادة الجماعية، التي تتمثل بتعزيز خطاب “نحن والآخر المختلف”، الذي من خلاله يصنع الاحتلال من السكان الأصليين (الفلسطينيون والفلسطينيات) عدوًا لكيانه، تأتي مرحلة الترميز في تحديد اللباس أو ارتداء رموز ظاهرة تُفرض على المجموعة المُضطهَدة.
في السياق الفلسطيني تُستخدم وثائق بألوان مختلفة للدلالة على مكان إقامة الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، أما بالنسبة للاجئين واللاجئات فلا يكتفي الاحتلال بحرمانهم من حق العودة، وإقامة دولتهم، وحقهم بالحصول على جواز سفر فلسطيني كبقية مواطني ومواطنات دول العالم، بل يسهم في فرزهم كحاملي وثيقة سفر للاجئ الفلسطيني (سورية/ لبنانية/ عراقية/ مصرية)، وما تصاحب حامليها، نساء ورجالًا، من تمييز وصعوبات في السفر، وحرمان من حرية التنقل، وأذى نفسي وجندري ممتد عبر الأجيال.
أما التمييز البنيوي في كيان قائم على الاحتلال الاستيطاني ونظام الفصل العنصري، فقد رسخ ذاكرة جمعية فلسطينية نهشها الألم والاضطهاد منذ النكبة في عام 1948، تتمثل في الطرد والتهجير، ونزع الممتلكات والأراضي وشرذمتها، والتفرقة والعزل والهيمنة، والحرمان من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
تتمثل المرحلة الرابعة، التجريد من الإنسانية، في تشبيه البشر بالحيوانات والحشرات والجراثيم والأمراض، لنزع إنسانيتهم، وشيطنتهم، وتعزيز خطاب الكراهية ضدهم في المدارس والإعلام وخطابات الساسة والعسكر، من أجل التحريض على سحقهم ومحوهم وتبرير العنف ضدهم، ويحضرني المثال القريب الذي وصف المقاومة بغزة بـ”الحيوانات البشرية” وشعار “الموت للعرب” الذي يهتف به عادة المستوطنون المتطرفون.
كما أن التشييء بإسقاط الأهلية القانونية عن سكان غزة ومناقشة تهجيرهم قسرًا إلى سيناء، وحجب حقهم في تقرير مصيرهم المتمثل في رفض التهجير، هو هدر لإنسانيتهم. تمثّل التشييء مؤخرًا في كلمة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي اقترح “نقلهم إلى صحراء النقب حتى تنتهي إسرائيل من تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة في (حماس) و(الجهاد الإسلامي) وغيرهما في القطاع، ثم تقوم بإعادتهم إذا شاءت، لكن نقلهم إلى مصر (…) يمكن لهذه العملية أن تستمر سنوات، وهي عملية فضفاضة”.
تأتي مرحلة التنظيم، من خلال فرض الخدمة العسكرية الإلزامية على جميع “المواطنين”، رجالًا ونساء، وفتح باب التطوع لمن يعفيهم القانون من الخدمة، وتسهيل رخص السلاح لكل المستوطنين الذين سُرِحوا من الخدمة في قوات الاحتلال الإسرائيلية، ومنحهم حرية التجمع والحشد وتعميم سياسة الإفلات من العقاب لمرتكبي الانتهاكات والجرائم بحق الفلسطينيين والفلسطينيات.
تشير مرحلة التباعد إلى الاستقطاب الإعلامي والسياسي التحريضي وإسكات الأصوات الوسطية أو الرافضة لنهج الاضطهاد من المجموعة المُضطَهِدة نفسها، كما حصل عندما رفع يهود أرثوذوكس علم فلسطين في القدس وانهال عليهم جنود إسرائيليون بالضرب. ويُصنفُ في هذه المرحلة أيضًا فرض قوانين وآليات تقيد الحركة كسَجن سكان غزة منذ 16 عامًا، وإحكام الإغلاق عليهم في أكبر سجن بالهواء الطلق، وإقامة جدار فولاذي محصن بتكنولوجيا فائقة بين غزة وبين فلسطين المحتلة، إضافة إلى عزل مدن وبلدات القطاع الغربي عن بعضها بنقاط تفتيش.
إن الفصل العنصري والاضطهاد اللذين يمارسهما الاحتلال هما جريمتان ضد الإنسانية. ولعل رمزية اختراق الجدار في عملية “طوفان الأقصى” لا تتمثل في الفشل الاستخباراتي الصهيوني والاختراق بوسائل بدائية، قياسًا بالوسائل التكنولوجية المتطورة الذي بني بها الجدار “المليء بالرادارات وأجهزة الاستشعار التي تصل إلى أعماق الأرض”، بل في هدم جدار السجن والنفاذ لأرضهم التاريخية.
تأتي مرحلة التحضير في الخطاب والتحركات، ويسعى الاحتلال من خلال المتحدثين، رجالًا ونساء، الرسميين وغير الرسميين على المنصات الإعلامية إلى إقناع العالم بأن ما يحصل هو ليس إبادة جماعية إنما هو حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأنه مكافحة لإرهاب “حماس” وغيرها من الفصائل، وأنها تسدي خدمة للعالم بالتخلص من هذه المجموعات. أما بالنسبة للتحركات، فقد تم استدعاء 360 ألفًا من جنود الاحتياط لقوات الاحتلال الإسرائيلية ممن كانوا يبنون حياتهم في دول أجنبية ومن يدرسون في الخارج.
وتعد الخطابات التحفيزية في صفوف الجنود جزءًا من التحضير، ونرى مثالًا على ذلك في مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي لإيزرا ياشين (Ezra Yachin)، واحد من قدماء مجرمي الحرب وعمره اليوم 95 عامًا، يتنقل بين صفوف المقاتلين بلباس عسكري ويقول لهم: “انتصروا واقضوا عليهم ولا تتركوا أحدًا خلفكم. امحوا ذكراهم. امحوهم وأسرهم وأمهاتهم وأطفالهم. هذه الحيوانات لا يمكن تركها على قيد الحياة”. يجدر الذكر أن إيزرا ياشين كان ينتمي إلى عصابة ستيرن أو ليخي، التي نشطت في الأربعينيات من القرن الماضي، وامتدت أنشطتها الإرهابية إلى ما هو أبعد من فلسطين، وارتكبت جرائم عديدة خلال النكبة عام 1948.
تتلخص مرحلة الاضطهاد في جملة الجرائم والمجازر المتواصلة ضد الفلسطينيين، نساء ورجالًا، والتي تتجاهلها دول الشمال ذات الإرث الاستعماري وتعتبرها حقًا مشروعًا لاحتلال استيطاني في “الدفاع عن نفسه”. أما عن الإفناء أو الإبادة الجماعية فهي عندما تتصاعد وتيرة الاضطهاد، ويبدأ حصار التجويع، وتتوسع دائرة الانتهاكات والعنف، ويزداد القتل والتهجير الجماعي والتنكيل بالأجساد واستخدام الاغتصاب كأداة حرب.
أما المرحلة الأخيرة من جريمة الإبادة الجماعية فهي الإنكار، وتأتي في أعقاب الإبادة الجماعية، فيتم إحراق الجثث ونبش القبور لإخفاء الأدلة وترهيب الشهود، وإنكار ارتكاب الجريمة، و/أو اتهام الضحايا بارتكابها، مثل إنكار جريمة استهداف المستشفى “المعمداني” واتهام “الطرف الآخر” بالجريمة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :