هزيمة جديدة لحقوق الإنسان
إبراهيم العلوش
توافدُ المسؤولين الغربيين على إسرائيل والدعم شبه المطلق لها، مع تجاهل الفلسطينيين كبشر وتجاهل مأساتهم التاريخية، بيّن أن القوى الغربية ترمي اليوم حقوق الإنسان جانبًا، وترتدي وجه الدول الاستعمارية التي تدعم الفصل العنصري بكل ما تستطيع من قوى عسكرية ودبلوماسية.
في الوقت الذي يتبادل فيه المسؤولون الغربيون جمل الدعم لإسرائيل وإرسال الذخائر وحاملات الطائرات، يعاني الفلسطينيون من محاولة اقتلاع وترحيل، وتعمل الدبلوماسية الغربية على إنضاج شروط نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، الذي يقلق إسرائيل ويؤرق جيشها.
مع تحفظنا واستنكارنا للتهجم على المدنيين الإسرائيليين أو اختطافهم، فإن المدنيين الفلسطينيين هم أيضًا بشر، ولهم حسب القانون الدولي على الدولة المحتلة لأراضيهم حق الحماية والطبابة والطعام وتجنيبهم أخطار العمليات الحربية، ومن حقهم البقاء في منازلهم وعدم إخراجهم منها، بينما تجاهر إسرائيل بنيتها ترحيلهم من شمال قطاع غزة إلى جنوبه.
يأتي ذلك تمهيدًا لتهجيرهم إلى مصر، بعد نضج الضغوط على القيادة المصرية لبيع جزء من أراضيها لإسرائيل، وإخراج الغزاويين إليها كمرحلة أولى، ريثما يتم ترحيل فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن واكتمال حملة التطهير العرقي ضدهم.
كثير من دول أوروبا منعت حق التظاهر لدعم الشعب الفلسطيني، وأبرزها فرنسا وألمانيا، واعتبرت أن هذا الدعم معناه دعم حركة “حماس”، وقد اعتبرت قناة “بي بي سي” البريطانية أن كل من يتظاهر لدعم الفلسطينيين هو داعم لـ”حماس”، وإن كانت قد اعتذرت عن ذلك، كما اعتذرت مذيعة “سي إن إن” عن مزاعم ذبح الأطفال الإسرائيليين الكاذبة التي رددها الرئيس الأمريكي بايدن.
وزراء خارجية أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا خرجوا بدعم مطلق لإسرائيل، متجاهلين القصف اليومي ضد المدنيين العزل، وقد وصل الرئيس الأمريكي بايدن، والمستشار الألماني شولتز، ورئيس الوزراء البريطاني سوناك، وسيصل الرئيس الفرنسي ماكرون، كما أُعلن سابقًا، إلى إسرائيل لدعم حكومة نتنياهو المتطرفة التي تسببت خلال العقدين السابقين بهذه المأساة بعد تعطيل عملية السلام وحل الدولتين.
وصلت أيضًا حاملات الطائرات الأمريكية، وتم تنظيم الجسور الجوية الحاملة للذخائر، وسيصل 2000 جندي أمريكي للمساعدة في عمليات اقتحام غزة وتهجير شعبها.
لم يتغير شيء في المواقف الغربية تجاه الشعب الفلسطيني وتجاه الشعوب العربية والإسلامية، إلا أن ما يجري الآن هو إعلانات عداء مطلق لشعوب المنطقة واستخفاف بأحلامها وبحقوق الإنسان فيها، فطوال 75 سنة، حمت الدول الغربية إسرائيل، وحرصت على عدم تطبيق أي قانون دولي يتعلق بالفلسطينيين، رغم الإعلانات الدبلوماسية المتباكية على حقوق الإنسان، وعملية السلام التي تحولت إلى مسرحية هزلية.
عاش اليهود مع العرب والمسلمين طوال 800 عام في الأندلس، وأنتجوا الثقافة والفلسفة والازدهار الاقتصادي والحضاري، ولكن تم اقتلاعهم من قبل الأوروبيين عام 1491 بطرق التهجير القسري الذي يشبه طرق تهجير سكان غزة اليوم، مع سيل من تهم الهرطقة والإرهاب وما إلى ذلك من تهم جاهزة لكل ثقافة مغايرة.
اليوم يعاني التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين من الكراهية والتمييز العنصري، ما حوّل إسرائيل إلى مجرد قاعدة عسكرية استعمارية متقدمة، ولكن عصر الاستعمار قد ولّى، وتخلصت منه الشعوب العربية منذ هزيمة البوارج الحربية في العدوان الثلاثي 1956، لكن حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” و”ايزنهاور” جاءتا إلى المنطقة لإعادة فرض الحلول القسرية على الفلسطينيين وترحيلهم، ومنع سبل التعايش في حل الدولتين الذي تطالب به الأمم المتحدة والقانون الدولي.
هذه نكبة جديدة للفلسطينيين وللعالم العربي، وهي أيضًا نكبة جديدة لمفاهيم حقوق الإنسان التي تدّعي الدول الغربية حمايتها، وتحارب الصين وروسيا دبلوماسيًا وعسكريًا من أجل ترسيخها وتعزيز قيم العالم الحر، كما تدّعي.
في الوقت الذي تقصف فيه مستشفيات الفلسطينيين وجوامعهم وكنائسهم وبيوتهم، فإن كثيرين من مسؤولي العالم الغربي يتماهون مع انتقام إسرائيل العشوائي، الذي يجعلها مجرد منظمة تشبه المنظمات الإرهابية الأخرى، وتمنع الولايات المتحدة مجلس الأمن من إصدار أي قرار لوقف الحرب ضد المدنيين الغزاويين، ومنها مشروع القرار البرازيلي، ومشروع القرار الروسي، إذ استعملت أمريكا حق “الفيتو” في استعراض القوة الدبلوماسية التي تعكس قوة البوارج الحربية بعيدًا عن القيم المعلنة.
استفادت روسيا والصين من هذا التخبط، ومن الروح العدائية الغربية لشعوب المنطقة، وبدأت تقدم مبادراتها والتودد للفلسطينيين ولحقوقهم المشروعة، أما إيران التي هجّرت السوريين ودمرت مدنهم، ومارست العنف الطائفي في أرجاء المنطقة، فقدمت نفسها كملاك حامٍ للفلسطينيين، وبدأت تنشر “بروباغندا” الممانعة وأكاذيبها التي اعتدنا سماعها خلال السنوات الماضية. وهي لن تُقدم على التفريط بـ”حزب الله” الذي استولى على الدولة اللبنانية وأجزاء واسعة من سوريا، بحجة تحرير فلسطين.
مجلس الدولة الفرنسي أبطل، في 17 من تشرين الأول الحالي، قرار الحكومة في منع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وارتفعت أصوات تدعم حقوق الشعب الفلسطيني في عدد من الدول الأوروبية، ومنها إسبانيا والنرويج وأيرلندا، وصار صوت اليسار الأوروبي مسموعًا، خاصة في فرنسا التي كانت دبلوماسيتها تتميز بنكهة غير أمريكية أيام فرانسوا ميتران وجاك شيراك، ولا ينسى العالم العربي موقف الأخير في العام 1996 من جنود الاحتلال وهو يصيح بوجوههم في رام الله.
العالم العربي يتحرك، ولن يبقى حصة في أفواه الغرب وروسيا والصين وإيران، فالشعوب العربية صارت تمتلك من الثقة بالنفس ومن التعليم والطموح ما يجعلها تتغلب على هذا الواقع المتدهور في مكانتها الدولية وفي مجال في حقوق الإنسان، الواقع الذي قادهم إليه العسكر والنخب الحاكمة، بتآمرهم أو بقلة كفاءتهم.
ولعل ثورات الربيع العربي كانت إنذارًا لكل من يستخف بإرادة الشعب وحقوق الإنسان أو من يمس بكرامته، ولكل من يتجاهل إرادة شعوب المنطقة في الحياة بسلام وازدهار ورفاهية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :