اللاذقية – ليندا علي
بعد كثير من المفاصلة، نجح عباس بشراء 20 كيلوغرامًا من الحطب بسعر 3000 ليرة للكيلو الواحد، بعد أن طلب البائع منه 3500 ليرة لكل كيلو.
وقال عباس (38 عامًا)، وهو موظف في القطاع الخاص باللاذقية، إنه لا يمتلك أي خيار آخر سوى شراء الحطب بالكيلو وادخاره لبرد الشتاء، فكمية 50 ليترًا من المازوت المدعومة من الحكومة لا تكفي أكثر من عشرة أيام بالحد الأعلى، مهما حاولت عائلته التقنين فيه، مضيفًا أن المازوت في “السوق السوداء” متوفر لكن الليتر بـ16 ألف ليرة وهو سعر مرتفع جدًا.
بحساب بسيط، يحتاج عباس على الأقل إلى خمسة ليترات مازوت يوميًا، لكي يؤمّن الدفء لأطفاله الثلاثة صباحًا قبل الذهاب إلى المدرسة، وحين يكون البرد شديدًا، ما يكلفه 80 ألف ليرة يوميًا، وفي حال استخدم الحطب فإن التكلفة تنخفض إلى نحو 20 ألف ليرة، ورغم أنها ليست قليلة قياسًا براتبه الذي لا يتجاوز 500 ألف ليرة، تبقى أفضل الموجود كما قال لعنب بلدي.
في اللاذقية، كما في عموم سوريا، يعد الحطب خيارًا بديلًا للتدفئة لكنه مكلف ويحمل أضرارًا صحية ويتسبب بحرائق وأضرار بالممتلكات، ويلجأ إليه الأهالي ويشترونه بالكيلو لعدم القدرة المادية على شرائه بالطن، في وقت اعتاد السوريون انتظار مخصصاتهم من مازوت التدفئة دون أمل بتسلمها.
وبلغت مخصصات العائلة الواحدة من مادة مازوت التدفئة لفصل الشتاء الماضي 200 ليتر، وتُوزّع على دفعات كل منها 50 ليترًا، ولكن سنويًا مع كل إعلان عن كمية المخصصات، يشتكي المواطنون من عدم حصولهم إلا على الدفعة الأولى فقط، في حين لم يتسلم عديد منهم المازوت إلا بعد نهاية فصل الشتاء، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
ويبلغ الحد الأدنى لرواتب العاملين في القطاع العام حوالي 186 ألف ليرة سورية (نحو 13.4 دولار أمريكي)، وسجل سعر مبيع الدولار 13600 ليرة سورية، وسعر شرائه 13500 ليرة.
طن الحطب بـ3.5 مليون
لا تمتلك ماجدة (42 عامًا)، موظفة حكومية تعمل بدوام جزئي مع وظيفتها، أي خيار سوى شراء الحطب والمازوت استعدادًا لفصل الشتاء المقبل، فالدفء بالنسبة للعائلة حاجة ماسة نظرًا إلى مرض ابنتها بالدم المنجلي، الذي يحتاج حامله إلى تدفئة مستمرة وإلا فإنه سيكون عرضة لكثير من الانتكاسات ونوبات الألم التي لا تتوقف.
نجحت ماجدة بشراء 50 ليتر مازوت مع بداية الصيف من “السوق السوداء” بسعر بلغ نحو 8000 ليرة حينها، بينما اليوم يُطلب منها 16 أو 17 وأحيانًا 18 ألف ليرة، وهو ما لا تستطيع تحمل تكاليفه، فهي المعيلة الوحيدة لعائلتها المؤلفة من يافعين اثنين وطفلة لم تتجاوز الـ11 عامًا.
إلى جانب المازوت الذي اشترته، قررت ماجدة اليوم شراء طن حطب لكنها لم تكن تدرك أن سعره ارتفع لهذا الحد، فقد سألت كثيرًا ولدى عدة تجار، ووجدت أن السعر يتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين ليرة بحسب نوعه، لذلك بدأت بشرائه بالكيلو بسعر 3500 ليرة، وهذا ما سيفرض عليها شراء مدفأة خاصة بالحطب، بثمن يتجاوز الـ175 ألف ليرة.
قالت ماجدة لعنب بلدي بعد أنفاس ممزوجة بالحسرة، “الحياة صارت أكثر من مستحيلة، لم نعد نعرف ماذا نلاحق، الأكل أم التدفئة أم أجور المواصلات”.
وارتفع سعر طن الحطب من مليون ليرة الشتاء الماضي إلى مليونين منتصف أيلول الماضي، ليصل اليوم إلى نحو 3.5 مليون ليرة للأنواع اليابسة بشكل كامل، نتيجة ازدياد الطلب عليه مع قرب الشتاء وجراء قلة مخصصات مازوت التدفئة.
الغابات مستباحة
عدد كبير من الأهالي كانوا ينتظرون موسم الزيتون لتقليم الأشجار بعد انتهاء القطاف، والاستفادة منها بالتدفئة، إلا أن شح موسم الزيتون هذا العام يفرض عليهم عدم التقليم كي لا تتضرر الأشجار الموسم المقبل، وهو ما أدى إلى خسارة هذه الفئة أحطابها.
فؤاد (45 عامًا)، موظف حكومي، يستغل وقته بعد الدوام منذ نحو شهر للبحث في قريته بريف جبلة عن أي حطب في الغابات القريبة، وادخاره لفصل الشتاء، رغم خوفه الكبير من أن ينتبه أحد إليه.
“نريد أن نتدفأ فماذا نعمل؟”، تساءل فؤاد، مضيفًا، “لست وحدي من يقوم بهذا الأمر، أحيانًا نخرج أنا وجيراني للبحث عن الحطب، فلا بديل آخر لدينا”.
يبرر “أبو سليم” (58 عامًا)، وهو تاجر حطب في اللاذقية، ارتفاع سعره بالمخاطر الكبيرة في أثناء الاحتطاب، وقال “إذا قبض علينا سندفع ما فوقنا وتحتنا حتى يطلق سراحنا”.
ولا تعتبر تجارة الحطب ممنوعة في سوريا، بشرط ألا يلجأ التاجر إلى قطع الأشجار في الأماكن الحرجية التابعة للدولة، بمعنى أن تكون ناتجة عن اقتلاع أشجار من أرضه مثلًا.
وهذا ما يثير “الفساد” في أغلبية الأحيان، لأنه في حال تعرض أي تاجر حطب لـ”فسادية” (إخبارية) لدى الجهات المعنية، سيجري استجوابه ليعلن عن مصدر الحطب لديه، وهنا من الممكن أن يتعرض للابتزاز بحال كان مصدر الحطب الأراضي الحرجية، وفق التاجر.
وأشار التاجر إلى أنه يشتري الحطب من بعض الفلاحين الذين يقتلعون شجيراتهم خصوصًا الحمضيات، مضيفًا أن ثمن طن حطب أشجار الليمون من أرضه 1.5 مليون ليرة، ومع أجور النقل وإضافة المرابح فإن سعره يتراوح بين 2.5 و2.8 مليون ليرة، فيما يعتبر السنديان أغلى ويصل إلى نحو 3.5 مليون ليرة.
وبحسب المادة “32” من قانون الحراج، فإن كل من يقوم بقلع أو قطع أو إتلاف الأشجار في حراج الدولة، يعاقب بالسجن من ستة أشهر إلى سنتين، مع دفع غرامة بين 500 ألف ومليون ليرة سورية.
ودائمًا ما تكون هناك طرق للالتفاف على القوانين، حين يكون صاحب المخالفة “سخيًا” بالدفع، وهو أمر متعارف عليه في سوريا.
بالمقابل، يهاجم كثيرون فرض عقوبة على من يقومون بـ”التحطيب”، فكيف يحصل السوريون على الدفء في ظل ارتفاع سعر المازوت وندرة وجوده، والتقنين القاسي بمعدل ساعة وصل واحدة كل خمس ساعات قطع، مع ترجيحات الأهالي بارتفاع التقنين خلال الشتاء، إذ لم تكن فترة وصول الكهرباء تتجاوز ربع إلى نصف ساعة الشتاء الماضي.
“حاميها حراميها”
قال رئيس دائرة الحراج في مديرية زراعة اللاذقية، جابر صقور، في تصريحات لصحيفة “الوحدة” المحلية، في 5 من تشرين الأول الحالي، إنهم يواجهون تحديًا بنقص الكوادر، وهو ما يؤدي إلى عدم تحقيق الحماية الكاملة للغابات، مضيفًا أن عدد عناصر الضابطة الحرجية لا يتجاوز 136 عنصرًا، وهو عدد لا يستطيع تغطية ولو جزء بسيط من جغرافيا المنطقة.
ويسود اعتقاد شائع في اللاذقية أن “حاميها حراميها”، بمعنى أن عناصر الضابطة الحرجية هم أنفسهم من يعملون على “التحطيب” وبيع الحطب، فالرواتب الحكومية لا تغطي جزءًا بسيطًا من الاحتياجات الأساسية، ما يفتح باب الفساد للموظفين والموظفات.
ورغم أنه لا يوجد دليل ملموس على هذه الاتهامات، يؤكد كثير من الأهالي الأمر ويقول بعضهم إن عددًا من العناصر يسهلون مهمة تجار الحطب مقابل منفعة مادية.
وبحسب رئيس دائرة الحراج في مديرية زراعة اللاذقية، فإن مديرية الزراعة تبيع لكل بطاقة عائلية طنًا من الحطب بسعر 500 ألف ليرة، لكن الحصول عليه مربك للغاية، فهو يحتاج إلى وقت طويل وكثير من الإجراءات، وسط اتهامات ببيع هذه الكميات لتجار الأحطاب ليستفيدوا منها.
ولا يعد سعر 500 ألف ليرة قليلًا بالنسبة لأغلبية السوريين، نتيجة الأوضاع الاقتصادية السيئة، فالمبلغ يعادل راتبين ونصفًا للموظف الحكومي.
ومن المتوقع أن يرتفع طن الحطب حتى خمسة ملايين ليرة مع بدء فصل الشتاء بشكل فعلي، وازدياد الحاجة للمادة، ما يعني زيادة الطلب عليها.
وفي 1 من أيلول الماضي، أعلنت وزارة النفط والثروة المعدنية في حكومة النظام بدء التسجيل على مازوت التدفئة لفصل الشتاء، ويبدأ على كمية تبلغ 50 ليترًا كـ”دفعة أولى” فقط لكل عائلة، دون أن تعلن كمية الدفعات المخصصة لموسم الشتاء.
ونص بيان الوزارة على أن أولوية التسليم بعد التسجيل ستكون للعائلات التي لم تحصل على مخصصاتها خلال الموسم الماضي، ويحدد ذلك بناء على آخر عملية شراء سابقة لمادة مازوت التدفئة.
وفيات بسبب مدفأة الحطب
يتسبب الاعتماد على الحطب كمادة للتدفئة بأضرار ووفيات نتيجة استنشاق الروائح المنبعثة أو اندلاع حرائق، ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية عن عدد ضحايا مدافئ الحطب، فإنه لا يكاد يمر عام إلا وتنتشر أخبار الوفيات نتيجة الاختناق بمدفأة الحطب، أو نتيجة حريق أدت إليه المدفأة.
في عام 2019، قال رئيس الطب الشرعي في طرطوس، علي سيف الدين، إن الطفلين الشقيقين سليمان (10 سنوات) وشهد ياسر زطفة (عامان ونصف) توفيا نتيجة حريق نشب بمنزلهما في قرية المجيدل بريف الشيخ بدر، بعد تعرضهما لحروق شديدة، وقال قائد فوج إطفاء طرطوس، سمير شما، إن سبب الحريق كان مدفأة الحطب.
طبيب مختص بالأمراض الصدرية، فضّل عدم ذكر اسمه، قال لعنب بلدي، إن التعرض لمدفأة الحطب يشبه التدخين تمامًا، فاستنشاق دخانها يسهم بترسيبه داخل الرئة، تمامًا كما يفعل التدخين.
وأضاف الطبيب أنه رغم كون الحطب الخيار الوحيد للتدفئة، فهو غير مستحب على الإطلاق، وينصح باستخدام “الشيمنيه” (الموقد) كونه مصممًا بطريقة آمنة، لافتًا إلى أنه يدرك مدى ارتفاع سعر “الشيمنيه” ولكنه علميًا الأقل ضررًا قياسًا بالمدافئ المنتشرة حاليًا.
وحذر الطبيب مرضى الربو من التعرض لمدفأة الحطب أو النوم في الغرفة حيث توجد حتى بعد إطفائها، مضيفًا أن مدفأة الحطب على المدى الطويل من الممكن أن تؤدي إلى سرطان الرئة، أو تسرع بظهوره إن كان موجودًا، كما أنها أحد أسباب الجلطات ومشكلات الأوعية الدموية.
وأكد الطبيب أنه لا توجد طريقة استخدام آمنة لمدفأة الحطب، لكن هناك بعض الإجراءات التي يمكن اتباعها للتخفيف من ضررها، مثل ترك منفس هواء، كفتح النافذة قليلًا، وتهوية الغرفة بمعدل مرة واحدة كل ساعة، ومحاولة الخروج واستنشاق الهواء في الخارج، حتى لو كان الطقس باردًا، لافتًا إلى أن “التعرض لنزلة برد أفضل بكثير من التنعم بدفء مدفأة الحطب”.
وفي ختام تصريحاته، أكد الطبيب أنه يجب التأكد من أن الحطب يابس بالكامل قبل شرائه، بمعنى أنه لا يجب استخدامه بالتدفئة قبل مضي عام كامل على قطعه.