اللاذقية – ليندا علي
“الله يخليكي اشتريها مني والله جوعان بدي آكل”، العبارة التي تفتك بقلب سهير (34 عامًا)، بينما تكاد تسمعها بأشكال ومفردات مختلفة بشكل يومي، وهي تغادر مكان عملها المسائي كبائعة بمتجر ألبسة في حي الزراعة باللاذقية، حيث يوجد عشرات الأطفال الذين يبيعون العلكة أو الورود أو البسكويت أو المحارم الورقية أو غيرها.
سهير قالت إنها تقع بين خيارين أحلاهما مرّ، مضيفة أنها إن أعطت الطفل طلبه فإنها تشعر وكأنها تسهم بتشجيعه على العمل وهو لا يتجاوز العاشرة من عمره أو أقل كما يبدو على هيئته، وإن لم تعطِه فإنها تشعر بتأنيب الضمير.
الشابة كانت فيما مضى تشتري سندويشة فلافل للطفل دون أن تمنحه المال، لكن الوضع الاقتصادي “الضاغط” حاليًا واستمرار تدني الرواتب يجعلانها عاجزة عن مثل هذا الأمر، لذا فإنها غالبًا تشتري له “بسكوتة” أو تعتذر إليه وتمضي بحال سبيلها.
ازدادت عمالة الأطفال في اللاذقية وعموم سوريا، نتيجة تدني الأوضاع المعيشية واستمرار تدهورها، وغالبًا ما ينتشر الأطفال على إشارات المرور أو بالقرب من مطاعم الوجبات السريعة، أو في الأسواق، وعديد منهم يفترشون الشارع ليناموا بعد يوم متعب.
وتشكل الحدائق منزلًا لكثير من الأطفال والمشردين أيضًا، حيث ينامون فيها بالعراء صيفًا وشتاء مع الاستعانة ببعض أوراق الكرتون، دون أي تدخل من الجهات المعنية في اللاذقية.
“طردني والدي”
في إحدى زوايا شارع “هنانو” وسط المدينة، كان طفل يمد يده للمارة طالبًا المال ليأكل كما قال، وفي حوار سريع معه، قال إن اسمه أيهم، وعمره 11 عامًا، وقد طرده والده من المنزل قائلًا له إنه لا ينفع بشيء، حسب رواية الطفل.
وأضاف أن والده طلب إليه ألا يعود إلى المنزل إلا وقد أصبح “رجلًا” قادرًا على تدبير أموره، فهو (الوالد) لا يمكن أن “يطعمه”، ويخبره أن عليه أن يعمل.
من الصعب التحقق من رواية الطفل، وربما تكون للاستعطاف، إلا أن مجرد وجوده في هذا المكان وهو يتسول الأموال من المارة، يعتبر انتهاكًا صارخًا بحق الطفولة، بحسب التشريعات والقوانين المحلية والدولية، ويعبر عن فشل حكومي في إدارة البلاد ومساعدة مواطنيها على تجاوز أزماتهم.
وتفتقد سوريا لوجود أماكن خاصة بالأطفال المشردين، ومساعدتهم على إتمام تعليمهم بعيدًا عن مخاطر الشارع، من تحرش ومخدرات وسرقة، وهو ما يؤدي بهم في النهاية إلى سلوك طريق الجريمة ربما.
أعمال مجهدة تحت أنظار الحكومة
يعمل الأطفال في محافظة اللاذقية بعديد من النشاطات المجهدة، كما في أعمال البناء وورشات الدهان، أو في تصليح السيارات بمنطقة الصناعة، حيث يوجد عشرات الأطفال الذين تعلو وجوههم وأجسادهم الشحوم السوداء، بينما يقومون بفك السيارات والمساعدة في إصلاحها.
يحدث كل هذا على مرأى ومسمع الجهات المعنية ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي من المفترض بها أن تكون مسؤولة عن أولئك الأطفال، والعمل على إعادتهم إلى مدارسهم.
ويعمل قسم كبير من الأطفال بالتسول ونبش القمامة وبيع البسكويت أو المحارم أو الورود، وبات مشهد طفل وهو يدخن شائعًا في المدينة.
في منطقة سبيرو، قرب مستشفى “تشرين” الجامعي، كان طفل ينبش القمامة (الصورة الرئيسة)، وحين اقتربت مراسلة عنب بلدي منه لسؤاله والحديث معه، ورغم كل المحاولات بجعله يتكلم، تابع عمله دون أن يفتح فمه بكلمة، حتى بعد مرور نحو ربع ساعة من المحاولة، إذ كان ينبش القمامة، ويستخرج منها عبوات البلاستيك وبقايا الخبز، ويفصل كل منهما في كيس مختلف.
ليس من الواضح إن كان سيستخدم الخبز في الطعام، أو أنه يجمعه بهدف بيعه، خصوصًا أن سعر كيلو الخبز اليابس وصل إلى نحو 9000 ليرة، علمًا أنها تجارة ممنوعة وتعرّض صاحبها للمساءلة القانونية في سوريا.
معاملة قاسية
كان فراس (41 عامًا) يتناول طعامه مع أحد الأصدقاء في مطعم صغير للمعجنات (البيتزا) داخل المدينة، حين اغتنمت طفلة عدم انتباه النادل، ودخلت المطعم تحمل باقة ورود، واقتربت من إحدى الطاولات حيث جلست سيدتان مع ثلاثة أطفال، وطلبت إليهم أن يمنحوها بعض الطعام.
تدخّل النادل وأمسك الطفلة من ذراعها “بعنف” ثم نهرها وطردها خارج المطعم، معتذرًا إلى السيدتين على الحادثة، وفق فراس.
وقال فراس، وهو مهندس يستعد للسفر إلى أربيل بالعراق نهاية تشرين الأول الحالي، إن الموقف كان قاسيًا جدًا، وأضاف، “أحمد الله أني أغادر هذه البلاد وأترك هذا المستنقع الذي لا أمل لأحد بالنجاة فيه”.
“الفقر والحاجة”
معاون وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام، محمد فراس نبهان، برر في تصريح لصحيفة “الوطن” عام 2022، انتشار ظاهرة عمالة الأطفال، بأنها نتيجة الفقر والحاجة وغياب المعيل والتفكك الأسري.
وعوضًا عن طرح الحلول والعمل عليها، تحدث نبهان عن الآثار النفسية والجسدية السيئة التي تصيب الطفل العامل نتيجة عمله.
واكتفى بسرد الإجراءات “النظرية” التي تقوم بها الوزارة، ومن بينها صدور قانون حقوق الطفل عام 2021، الذي تضمن علاج ظاهرة عمالة الأطفال.
بعد عامين من صدور هذا القانون، لم يتغير الواقع سوى للأسوأ، ورغم عدم وجود إحصاءات حكومية حول ظاهرة عمالة الأطفال، فإن ازديادها يمكن ملاحظته بسهولة، من خلال زيادة عدد الأطفال الذين يعملون في الشوارع، بحسب ما رصدته عنب بلدي في اللاذقية، على سبيل المثال.
منظمة “أنقذوا الأطفال” قالت، إن أكثر من 15.3 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة الإنسانية في سوريا، بينهم سبعة ملايين طفل، ويعيش عديد منهم في مناطق تكاد تكون فيها الخدمات الأساسية معدومة.
وذكرت أنه بعد 12 عامًا من النزاع في سوريا، فقد عديد من الأطفال والديهم أو إخوتهم أو غيرهم من أقربائهم، وأن هناك 2.1 مليون طفل خارج المدرسة، ما يحرمهم من المهارات الأساسية ومن وجود بيئة آمنة ووقائية، ويجعلهم عرضة لخطر التعرض للانتهاكات.
وأضافت أن 1.6 مليون طفل آخرين يواجهون خطر الاضطرار إلى ترك الدراسة، وزادت معدلات سوء التغذية والمرض والإعاقة بشكل ملحوظ على مدار السنوات، وأبلغ الأطفال عن شعورهم بالخوف والقلق والحزن، مع ظهور علامات الاضطراب العاطفي والضغط السام على عديد منهم.