إبراهيم العلوش
قبل 33 عامًا، اختفت ألمانيا الشرقية، التي صدّرت لنا الجبهة الوطنية التقدمية ودعمت نظام حافظ الأسد ودرّبت مخابراته، وأيّد رئيسها، أريش هونيكر، مذابح الثمانينيات في سوريا.
في مدينة هامبورغ، وبحضور أكثر من 700 ألف شخص ولمدة يومين في بداية تشرين الأول الحالي، احتفل الألمان بالذكرى الـ33 لظهور ألمانيا الموحدة واختفاء جمهورية ألمانيا الديمقراطية التابعة للسوفييت، بعد رشوة لروسيا قدرها 15 مليار مارك كثمن لإجلاء الجيش السوفييتي منها، الجيش الأحمر الذي تحول إلى لون باهت، وأصبح ضباطه مجرد مدمنين على “الفودكا” بعد سبعة عقود من ادعاءاتهم نصرة الطبقة العاملة، وكان فلاديمير بوتين حينها أحد ضباط المخابرات الروس الذين كانوا يعملون في محطة برلين للتجسس.
في 9 من تشرين الثاني 1989، ارتكب مسؤول في ألمانيا الشرقية زلّة لسان، عندما أعلن السماح للمواطنين الألمان الشرقيين بزيارة ألمانيا الغربية، فتدفق الآلاف وحطموا جدار برلين، الفاصل بين القسمين الشرقي والغربي لمدينة برلين، والذي كانت تحميه الصواريخ العابرة للقارات والجيوش الجرارة الروسية والغربية، التي استولت على ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وبكت عجوز ألمانية مثل الآلاف غيرها فرحًا، وصرخت بالجموع لماذا تأخرتم، كنت أحلم بزيارة ألمانيا الغربية وأنا صبية لأستمتع بالجمال والرفاهية والحب، وأنا الآن لم أعد قادرة على السهر ولا على الاستمتاع، لماذا لم تفعلوا ذلك من قبل!
بعد أقل من عام على ذلك الخطأ الذي ارتكبه مسؤول الحزب “الشيوعي” الحاكم في ألمانيا الشرقية، وفي 3 من تشرين الأول 1990، تم توحيد ألمانيا، على يد المستشار هيلموت كول، الذي أرضى جورباتشوف، وأقنع الأمريكيين بمصالح متفق عليها، وخفف من قلق الفرنسيين، الذين تشكّل ألمانيا تحديًا دائمًا لهم عبر التاريخ القريب على الأقل.
وما إن قبض الروس المبلغ المتفق عليه حتى انسحبوا من برلين، آخذين معهم بوتين ليعمل سائق “تاكسي” في موسكو، وسرعان ما عاود العمل مع أجهزة المخابرات ليتزعم الطبقة الغنية الجديدة (الأوليغارشية) في روسيا، التي أثرت على حساب بيع الأملاك العامة الروسية والسوفييتية.
ورغم أن أجهزة المخابرات السورية تم تنظيمها على يد ضابط سابق في المخابرات الألمانية النازية، فإن رئيس ألمانيا الشرقية (المعادي للنازية) أيّد مذابح الثمانينيات، وزار سوريا، واصطحبه حافظ الأسد إلى مدينة الطبقة لافتتاح سد “الفرات”، ولم يمر الأسد بمدينة الرقة التي رفض زيارتها طوال فترة حكمه، ولكنه نقل طلاب المدارس وأعضاء المنظمات الشعبية وموظفي الدولة في الرقة لحشدهم أمام هونيكر.
بعد وصول نحو مليون سوري إلى ألمانيا بسبب الدمار الذي أسهم فيه بوتين، قبل أن يصبح رئيسًا لروسيا، سألت صديقي السوري- البرليني، لماذا توجد فروق واضحة بين برلين الشرقية والغربية، ردّ بتهكم: إنهم مثلنا يعانون من أخلاق الدولة الفاسدة، ولا يزالون يحملون آثار التربية المخابراتية رغم المليارات التي تُضخ لدمجهم في الاقتصاد والحياة السياسية، ورغم مرور أكثر من 30 عامًا، لا يزال بعضهم يهرب بالقروض المالية، ويحنّ إلى روسيا، مسترجعين عقدة استوكهولم عن حنين الضحية إلى جلادها.
نجح كثير من السوريين في ألمانيا، نجحوا في دراساتهم وفي إنجازاتهم العلمية والتجارية، ويفتخرون بوجودهم فيها، وبموقف المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، التي أصرّت على استقبال اللاجئين في العام 2015، وهي التي ذاقت مرارة الاستبداد عندما كانت مواطنة في ألمانيا الشرقية، وصدّقت كلام السوريين عن العذاب الجسدي والنفسي الذي تتسبب به دولة المخابرات.
وكذلك يفتخرون بموقف ألمانيا من ضرورة محاسبة نظام الأسد على جرائمه، ولعل محاكمات بعض رجالات النظام في كوبلنز وغيرها بداية لجلب كل الضالعين في تدمير سوريا وتهجير سكانها إلى المحاكم ومعاقبتهم، ومعاقبة النظامين الإيراني والروسي على جرائمهما في سوريا، كما أعادت الحرب الروسية في أوكرانيا إلى الأذهان المأساة السورية، لا سيما أن حرب الروس على حدود أوروبا.
ومثل بعض الألمان الذين يحنون إلى ألمانيا الشرقية مستجيبين لعقدة استوكهولم، هناك بعض السوريين الفارين من بلادهم لا يزالون يؤيدون نظام بشار الأسد بشكل مؤلم لكل ضحايا النظام، ويظهرون في مناسبات متعددة ويجاهرون بالعداء للثورة السورية، ولكنهم يرفضون العودة للعيش في ظل نظام الأسد.
ألمانيا التي تحتضن اليوم حوالي مليون سوري صارت بلد الحلم السوري، حيث يتمنى الجميع أن تكون سوريا المستقبل مثل ألمانيا، موحدة وحرة ومزدهرة اقتصاديًا وتتبادل الاحترام مع دول الجوار وتحترم حقوق الإنسان.
قبل 33 عامًا، حققت ألمانيا وحدتها بجهود قادتها أمثال هيلموت كول، بينما خسرت سوريا اليوم وحدتها عبر جرائم نظام الأسد واستقطابه للتدخلات الخارجية التي تستمر بإشعال النيران والأحقاد بين السوريين!