لمى قنوت
بالتصفيق حمل محبو وأصدقاء خالد خليفة جثمانه، وشقت زغرودة عباب الحزن خلال تشييعه، وأقيمت في وداعه لقاءات وفاء ومحبة في كل من اللاذقية وبيروت وبرلين وباريس، وامتلأ الفضاء العام غصة على فقيدنا وفقيد سوريا، وحُملت يافطات تنعى خليفة في ساحة الكرامة بالسويداء، إحداها تخلد ذكراه “الموت عمل شاق، خالد خليفة، شمسك لا تغيب.. وداعًا”، كتقليد دأب عليه ثائروها وثائراتها في انتفاضة السويداء التي دخلت شهرها الثاني، لتحويل الذاكرة إلى تاريخ، وهو إرث سوري مقاوم، تكثف وتراكم منذ ثورة 2011 ضد العسف والطغيان. بالمقابل، صمت وتجاهل الإعلام الرسمي والإعلام الذي يدعمه ويدور بفلكه موت واحد من أبرز الروائيين والروائيات في سوريا، خليفة الذي حمل خيار السوريين والسوريات في الحرية والعيش الكريم، واختار أن يكون صوت المظلومين والضحايا، وبقي في دمشق لأخذ حصته، كما قال، “من العار والألم”، فهو لا يريد لأحد أن يحدثه عن ألم شعبه.
هكذا تحيك الشعوب سردياتها وذاكرتها الجمعية، وتكرم مبدعيها، وتحيي إرثها المقاوم، وتصوب الحقائق والتلاعب بالذاكرة وتُعلي قصص المعذبين والمستضعفين والمهمشين والمناضلين والمعتقلين والمختفين قسرًا، رجالًا ونساء بتنوعاتهن.
لطالما كان التفكيك الشعبي لسرديات التضليل الذي مارسه النظام بمنزلة توق لتأسيس مرحلة تاريخية جديدة لسوريا، وعزم شعبي لتحقيق العدالة والإنصاف، وشكل من أشكال مقاومة التدوين التاريخي الرسمي الذي احتكره النظام، ودأب إعلامه الحثيث على التلاعب بالذاكرة.
تراوح التعامل الأمني مع القامات الإبداعية في سوريا بين الجريمة والعنف المباشر وبين الحجب وتطويع إحياء الذكرى على قياس الاستبداد، فمثلًا، مُنعت كتب خالد خليفة داخل سوريا، وكسر الأمن يده خلال تشييع الفنان ربيع الغزي، وأخفي قسرًا فنان مسرح خيال الظل زكي كورديللو وابنه مهيار (طالب فنون مسرحية)، وحولت أبواق النظام حق دفن الشاعر نزار قباني بدمشق، وفق وصيته، إلى “مكرمة” من حافظ أسد، وانتُزع شعره السياسي من الأنشطة التي ركزت على تكريمه وإحياء ذكراه خلال احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، فمسخوا التكريم بقراءة بعض أشعاره في مهرجان “الياسمين”.
لقد عكس إعلام النظام الحاكم صدى فاشيته خلال الصراع، فمثلًا، عرضت “الإخبارية السورية”، في أيلول 2017، تهديدًا للاجئين والمهاجرين أطلقه قائد قوات “الحرس الجمهوري”، عصام زهر الدين، “من هرب ومن فرّ من سوريا إلى بلد آخر، أرجوك لا تعود، لأن الدولة إن سامحتك فنحن عهدًا لن ننسى ولن نسامح، نصيحة من هالدقن لا حدا يرجع منكم”، وخلال ما يُعرف باتفاق البلدات الأربع، استخدم أحد مذيعي التلفزيون الرسمي عبارة “أهالينا” عندما قال، “وصول الحافلات التي تقلّ أهالينا من كفريا والفوعة”، بينما استُخدمت عبارة “المسلحين/المجموعات الإرهابية” على من أُخرج من بلدات الغوطة الشرقية وهُجِّر قسرًا إلى الشمال السوري، على الرغم من وجود مدنيين، نساء ورجال وأطفالًا وطفلات، إلى جانب المسلحين في الحافلات، علمًا أن البلدات الأربع تعرضت للصفة الجرمية نفسها، أي الحصار والتهجير القسري للسكان.
القبضة الأمنية المحكمة على الإعلام الرسمي والإعلام الذي يدور في فلك النظام الحاكم الذي تجاهل وفاة خالد خليفة، أمرت بقطع البث وفتح تغطية لساعات لنقل خبر وفاة ابن المطرب الموالي جورج وسوف، وتواطآ معًا، أي الأجهزة الأمنية والإعلام، في جريمة إجبار الأفراد، ومن ضمنهم الأطفال والطفلات، على بث ما سُمّي في الإعلام على أنه “اعترافات”، ونشر أخبار كاذبة تصب في دعم سردية النظام بهدف الوصم والتشهير بسمعة الأفراد وأسرهم، مثل الجريمة التي ارتكبت بحق الطفلة روان قداح وإجبارها على الظهور بالإعلام الرسمي في 22 من أيلول 2013، مدعية بأنها مارست الجنس مع مقاتلين، بعد أن اختطفها الأمن السوري في تشرين الثاني عام 2012.
إن الصراع على السرديات في سوريا، ومن ضمنه تدوين التاريخ الشفوي، هو جزء لا يتجزأ من المعارك التي تخوضها أطراف الصراع، وقد أدرك النظام السوري أهمية التاريخ الشفوي وأنشأ، في 9 من حزيران 2016، مؤسسة “وثيقة وطن” كمؤسسة غير حكومية وغير ربحية، تترأس مجلس أمنائها بثينة شعبان، المستشارة السياسية والإعلامية لبشار الأسد، وهي مؤسسة تدعي حسب موقعها الإلكتروني بأنها تُعنى “بحفظ الذاكرة الوطنية من الضياع أو التشويه أو التزوير، وتسهم في كتابة التاريخ السوري المعاصر بأيادٍ سورية وفق مقاربة التأريخ الشفوي، وتسعى إلى صناعة رأي عام حول الأحداث الكبرى، وتعمل لبناء أرشيف من الشهادات” لتشكيل قاعدة بيانات مرجعية عن سوريا.
تكمن أهمية العدالة الانتقالية التحولية في سوريا في أن المحاسبة وتخليد الذكرى وإتاحة الروايات والأدوار والتجارب هي شكل من أشكال جبر الضرر للناجين والناجيات من العنف، وحفظ الذاكرة هو إحدى مهام لجان الحقيقة، وإصلاح القوانين والمؤسسات، ومن ضمنها المؤسسات الإعلامية والقضائية وقطاع الأمن وغيرها من المؤسسات، يعد ركيزة أساسية من ركائز العدالة الانتقالية التحولية المتعددة، التي لن تتحقق المصالحة الوطنية ولن يُبنى السلام العادل والشامل دونها.