علي عيد
اتصل بي، قبل فترة، شاب جامعي في العشرينيات، لمّاح ويملك لغة سليمة، طالبًا أن أفسح له المجال للكتابة في وسيلة إعلام أعمل بها أو في غيرها، حسب استطاعتي.
كان طلبًا طبيعيًا، بل يستحق مني كل اهتمام، فقد فعلتها عندما كنت طالبًا في السنة الجامعية الأولى، بل وكانت وجهتي بيروت، قبلة الصحافة العربية وقتها طلبًا للعمل والخبرة، ولكن ما فاجأني بطلب الشاب بعد أن سألته ما إذا كان يرغب بالانضمام إلى فريق التحرير أو المراسلين، فكان الرد “ما عندي خلق لهذه الأشياء”، وفاجأني بأنه يريد أن يتم اعتماده كاتب مقال رأي، وهذه التي ما كنت أحسب حسابها.
مقال الرأي، هو أرفع مستوى للكتابة، وأكثرها حساسية، على اعتبار أن كاتبه يجب أن يتمتع بالخبرة الكافية في المجال الذي سيكتب فيه، فإن كان مقال الرأي يمثل افتتاحية الوسيلة الإعلامية، فهو يعبر عن موقفها من قضية بالغة الحساسية، ويجب على من يكتبه أن يكون صانع سياسات داخل الوسيلة الإعلامية، وقلمًا عارفًا وواسع الاطلاع.
أذكر في صحيفة “عكاظ”، وكنت ضمن كوادرها لسنوات، أن افتتاحية الصحيفة كانت كرة لهب يتقاذفها عدد من الزملاء ذوي الخبرة والتاريخ، وكل يتمنى لو يتحمل وزرها الآخر، فهي أصعب من كتابة تقرير أو تحليل لأنها تمزج بين ما يعرفه الناس وما يريده صانعو السياسات وموقف الدولة، والخطأ فيها مسؤولية مضاعفة لا يتحملها كاتب المقال الافتتاحي فقط.
وهنا يمكن التمييز بين عمود الرأي الذي تتنصل الوسيلة الإعلامية من المسؤولية عن مضمونه، والافتتاحية التي تمثل رأيها وموقفها، وغالبًا ما يتعلق هذا الاشتباك بالمضامين والقضايا السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية التي تهم الرأي العام، والتي يكون إبداء الرأي الفردي فيها مؤثرًا في اتجاهات الجمهور ومواقفه وقراراته.
أما إذا كان مقال الرأي عمودًا متخصصًا، فالمطلوب شخص هو الأفضل في قطاعه أو مجاله، سياسي رفيع، طبيب استشاري، محامٍ متمرس وخبير في القوانين، أديب أو ناقد، وهكذا، إذ لكل مقال مقام، ما يستوجب من الوسيلة الإعلامية البحث عن كاتب ذي باع فيما يكتب.
المشكلة الأخرى التي لا يستوعبها كثيرون من خارج جسم الصحافة، أو ممن دخلوا إليها من أماكن واختصاصات متعددة، هي أن كاتب المقال لا يُحسب على الصحفيين إذا كان يكتب في مجاله الخاص، فالطبيب الذي يقدم خدمة عمود متخصص، يضع فيه بعض آراء معتمدة على دلائل من خبرته في هذا المجال، لا يمكنه تقديم طلب انضمام إلى مجتمع الصحفيين ونقاباتهم المهنية.
بعض الصحف تحقق أعلى مبيعاتها أو انتشارها بفضل كتّاب الرأي، وهؤلاء الكتّاب يشكلون حجر زاوية فيها، ومع الوقت يصبحون عامل ثقة لتعزيز علاقتها بالجمهور.
قد يكون كاتب مقال الرأي حرًّا في اختيار الموضوع وطريقة السرد، لكن ذلك لا يعتبر رخصة لكاتبه لقول ما يريد، دون دلائل أو براهين علمية تدعم رأيه، وكل من يضمِّنُ المقال آراءَه الخاصة غير المستندة إلى المنطق والعلم والتجربة، فإن “الخواطر” هي أفضل ما يمكن أن تسمى به كتاباته، وفي هذا قال الحكيم العربي أكثم بن صيفي التميمي، إن “آفة الرأي الهوى”.
هناك قواعد أساسية ينصح بها الكتّاب في مقالاتهم، منها حشد ما يمكن من الحجج، والاستعانة بما أنجز من أبحاث ودراسات وتجارب، والاستجابة إلى الآراء النقيضة ومناقشتها دون السخرية أو التقليل من أهميتها، واختيار ما يناسب من قوالب معروفة، ويجوز عدم الالتزام بشكل محدد للمتمكنين من تقديم أسلوبهم الخاص والماتع، واللغة السليمة والرشاقة والقدرة على الربط والتنقل بين الأفكار.
ويُنصح كاتب المقال بأن يتعمق في قراءة ما يريد الكتابة فيه، وأن يبحث عن الموضوعات التي تجذب القارئ، أو تهم شريحة واسعة من الجمهور، والتفاعل والاستجابة لردود الفعل بعد النشر، فغالبًا ما تفتح مقالات الرأي الباب واسعًا لمشاركة الجمهور في مناقشة قضايا مهمة، كما أنها واحدة من أدوات تحريك الرأي العام وتحديد موقفه واهتماماته.
من مخاطر مقال الرأي أنه قد يقود صاحبه إلى المحكمة، كما حصل مع الروائي والكاتب الفرنسي إميل زولا (Émile Zola) بسبب مقال رأي بعنوان “أنا أتهم” (J’accuse) كتبه عام 1898، ونشر على الصفحة الأولى من صحيفة باريس اليومية “L’Aurore”، وكان مضمون ما كتبه شديد الحساسية في قضية معاداة السامية في عهد الجمهورية الثالثة.
جرى تقديم زولا للمحاكمة الجنائية بتهمة التشهير وأدين وحكم عليه بالسجن، ولكنه فرّ إلى إنجلترا.
مثال آخر هو الأديب عباس محمود العقاد، إذ تمت محاكمته وحبسه، بسبب مقالات في صحيفة “المؤيد” هاجم فيها الملك فؤاد عام 1930.
بالعودة إلى صديقنا الشاب الجامعي، النصيحة هي أن يكون مقال الرأي أول ما تفكر فيه كطموح في حياتك المهنية، وآخر ما تفعله كحصيلة لمعارفك وخبراتك المتراكمة.. وللحديث بقية.