عنب بلدي – فاطمة المحمد
يتدفق مهاجرون على طول نهر “إيفروس” الحدودي بين تركيا واليونان، عبر قوارب صغيرة تنقلهم من الضفة التركية إلى الضفة اليونانية.
وفي رحلتهم نحو حلم الوصول إلى أوروبا، هناك من ينقطع التواصل بينهم وبين أهلهم عند نهر “إيفروس” وسط ضبابية تحيط بمصيرهم.
ينشر سوريون عبر مجموعات المفقودين على منصة “فيس بوك” صورًا لأبنائهم ومعلومات عن اليوم الذي انقطع تواصلهم معهم على طريق أوروبا، آملين أن يصلوا إلى معلومات حول المصير الذي آل إليه أبناؤهم.
في عداد المفقودين
قال أيمن هدله لعنب بلدي، وهو لاجئ سوري يقيم في تركيا، إن شقيقه أحمد (23 عامًا) عزم على الخروج إلى أوروبا بحثًا عن حياة أفضل في شهر أيلول عام 2021، وانطلق مع ابن عمه عمران ومجموعة من الأشخاص من الأراضي التركية نحو الحدود اليونانية.
وأضاف أيمن أن التواصل انقطع مع شقيقه بعد أن وصل إلى النهر الحدودي “إيفروس”، في 9 من أيلول بالساعة الواحدة ليلًا، وبعد أيام من البحث ونشر معلومات وصور شقيقه أحمد، استطاع التواصل مع شخص أخبره أنه كان في نفس المجموعة مع شقيقه، وأن المجموعة تعرضت لكمين من الحرس اليوناني في أثناء عبورها إلى القسم اليوناني.
أصيب المهاجرون بالرعب وهم على متن القارب، وبدؤوا بالقفز يمينًا وشمالًا داخل النهر، وعاد قسم منهم إلى الضفة التركية وغرق القسم الآخر، وبعضهم سلموا أنفسهم للحرس الحدودي، حسب الشاهد الذي ادعى أنه رأى شقيق أيمن وابن عمه يسلمان نفسيهما للحرس اليوناني.
لم يكن أحمد يحمل هاتفًا فحاول أيمن الاتصال برقم ابن عمه عمران بشكل دوري، لكنه كان خارج نطاق التغطية، إلى أن وصلت الرسائل إلى عمران في 20 من أيلول.
“تواصل شبان على الهاتف وأخبروني أن الجهاز كان بجيب شخص غارق بالنهر أخذوا منه الشريحة، وصوروا لي الجثة التي حملت نفس ملابس عمران ذي الـ25 عامًا بملامح مشوهة بشكل كامل”، حسب ما قاله أيمن هدله لعنب بلدي.
أكد الشبان لأيمن أنهم قاموا بعملية بحث ولم يعثروا على جثث أخرى، ودفنوا جثة عمران على حدود النهر من الجانب التركي وتركوا أثرًا على القبر لتعثر عائلته على رفاته.
توجه أيمن مع القوات التركية إلى القبر ونقلوا الجثة إلى مستشفى “أدرنة” الحكومي، بعد التأكد منها، وأكمل إجراءات دفن ابن عمه عمران في مدينة اسطنبول.
بدأ بالبحث عن أخيه أحمد بالسجون والمستشفيات في أدرنة وكركالي واسطنبول، ولكن عدم وجود هوية (كملك) مع شقيقه صعب عليه عمليات البحث.
قام أيمن بتوكيل محامٍ في تركيا واليونان على أمل العثور على أي خيط قد يصله بشقيقه، ولكن دون جدوى.
جمعهم الفقد
عبر مجموعات البحث عن المفقودين على منصة “فيس بوك”، تواصل أيمن مع الشاب السوري صلاح الذي يعيش في ألمانيا، إذ فقد هو الآخر التواصل مع شقيقه الذي اختفى بنفس الطريقة.
وتبادل الشابان معلومات شقيقيهما وصورهما، واتفقا على البحث معًا، بحث أيمن في مستشفيات وسجون تركيا وصلاح في مستشفيات وسجون اليونان.
سافر صلاح إلى اليونان، ووكل محاميًا ليستطيع البحث في السجون والمستشفيات اليونانية، واتجه إلى مستشفى “أليكساندروبوليس” اليوناني الذي يقع في المنطقة الحدودية مع تركيا، وبدأ البحث في صور لجثث أو بقايا جثث مجهولة الهوية للاجئين لقوا حتفهم في النهر أو الغابة اليونانية، ولم يعثر صلاح بين صور الجثث على صورة لجثة شقيقه أو صورة لأحمد، حسب قول أيمن.
ذكر أيمن أن لديه أخًا معتقلًا في سجون النظام منذ عام 2015 لا يعلم عنه شيئًا، وهو الشقيق الثاني الذي يفقده، ويعيش هو وعائلته على أمل أن يكون شقيقه أحمد حيًا ويعود إلى منزلهم يومًا ما.
على مشارح اليونان
في وثائقي “الموتى المجهولون”، الذي بثته قناة “arte” الفرنسية، ذكر الطبيب بافلوس بافليديس، المسؤول عن فحص كل لاجئ متوفى يتم انتشاله من نهر “إيفروس”، أنه يتلقى طلبات من جميع أنحاء العالم لأشخاص يبحثون عن ذويهم الذين فقدوا في النهر.
يرسل له أقارب المفقودين صورًا ومقاطع مرئية مصورة التُقطت منذ مدة زمنية قصيرة لهم أو يشاركون مع الطبيب مواقع جغرافية للمكان الذي فُقد فيه ذووهم، لعله يستطيع مساعدتهم.
قال بافليديس، الأستاذ في الطب الشرعي، ويعمل في مستشفى “أليكساندروبوليس” منذ 22 عامًا بمنطقة “إيفروس” الحدودية مع تركيا، إنه في آخر عام 2022، وصلت إلى مشرحة المستشفى جثث لضحايا النهر عددها قارب 600 جثة، فقط من الجانب اليوناني.
ومن الناحية النظرية، توقع أن يكون هناك العدد ذاته على الجانب التركي، أي 1200 إلى 1500 جثة لضحايا النهر، بحسب بافليديس.
وأضاف أن هناك مزيدًا من الطلبات لأناس يبحثون عن أقاربهم في مشارح مستشفى “أليكساندروبوليس”.
الجثث التي تبقى مجهولة الهوية أو التي لا يأخذها أفراد من عائلاتها في حال لم يتمكنوا من تحمل تكاليف نقل الموتى، تُدفن في مقبرة بنيت خصيصًا للمسلمين الأجانب في المنطقة الحدودية، تضم شواهد قبور بعضها يحمل أسماء، وبعضها لأشخاص مجهولين من جميع أنحاء العالم مثل سوريا والصومال وأفغانستان.
الأفعى القاتلة
نهر “إيفروس” يبدو كأفعى، بحسب وصف رئيس نقابة الحرس الحدود اليوناني، فالانتيس غيالاماس، ويمتد على مسافة 200 كيلومتر ليشكل الحدود البرية الوحيدة بين تركيا واليونان، وتحظر السلطات تمامًا الدخول إلى المنطقة.
وفقًا لوكالة الهجرة الأممية، توفي ما يقرب من 3500 شخص في عام 2021، خلال محاولتهم دخول الاتحاد الأوروبي عبر الحدود البحرية والبرية بين تركيا واليونان، ما يجعله العام “الأكثر دموية” للمهاجرين في هذه المنطقة منذ 2018، بحسب وكالة الهجرة الأممية.
وأفادت الأمم المتحدة أنه بناء على شهادات جمعتها فرق المنظمة الدولية للهجرة في كلا البلدين، هناك تقارير تفيد باستمرار عمليات صد وطرد جماعي، واستخدام القوة المفرطة ضد الأشخاص الذين يتنقلون على طول الطريق بين تركيا واليونان.
قوارب الموت
وصف الطبيب بافليديس نهر “إيفروس” بأنه خطير وواسع ومياهه ضحلة.
وقال إن المهربين لا يسمحون للاجئين بحمل الأمتعة على متن القارب، لذلك يجب عليهم ارتداء عدة طبقات من الملابس في وقت واحد، مثل ثلاثة أزواج من السراويل أو خمسة قمصان، لذلك سوف ينقلب المركب بلا أدنى شك، وكل تلك الملابس سوف تسحبهم إلى الأسفل تحت الماء.
“السبب الأكثر شيوعًا للوفاة هو الغرق، القوارب الصغيرة التي تعبر النهر غالبًا ما تكون مزدحمة بطالبي اللجوء، ما يتسبب بانقلاب المركب وغرقهم”.
بافلوس بافليديس – أستاذ الطب الشرعي بمنطقة إيفروس اليونانية الحدودية مع تركيا |
ويعد الموت تجمدًا ثاني الأسباب الأكثر شيوعًا لوفاة اللاجئين على طريق النهر، والسبب الثالث هو الإجهاد الشديد.
أضاف بافليديس، “يمكننا أن نرى هؤلاء الناس مرهقين بسبب المشي لساعات طويلة، تخيل رجلًا متعبًا من السباحة عبر النهر، مرتديًا عدة طبقات من الملابس المبللة ولم يتوقف لالتقاط أنفاسه، ذلك سيتسبب بانخفاض حرارة جسده”.
ومن الأسباب الأكثر شيوعًا للوفاة، أن بعض الناس لديهم أمراض موجودة مسبقًا لم يعلموا بها وماتوا من إرهاق أنفسهم، بحسب الطبيب الشرعي بافلوس بافليديس.
ما بعد نهر “إيفروس”
تحدث قصي الأحمد، لعنب بلدي، عن شقيقه باسل (28 عامًا) الذي أراد أن يخرج من سوريا لتأسيس حياة مستقرة، وسلك طريقه من سوريا إلى تركيا ثم إلى الحدود اليونانية.
قال قصي، إن شبكة التهريب ليست سوى شبكة اجتماعية يتواصل بها الأفراد مع بعضهم، ويرسلون لبعضهم أرقام المهربين الذين تعاملوا معهم، أو الذين تعامل معهم أشخاص آخرون يعرفونهم، وهذه الأرقام تتوفر بكثرة وفي متناول الجميع.
المحاولة الأولى لباسل ومجموعته لعبور النهر كانت في 11 من آب الماضي، وانتهت بالفشل، إذ تمت إعادتهم من قبل الحرس اليوناني بعد أخذ جميع مقتنياتهم من هواتف وحقائب وساعات، وتركوا لهم فقط ملابسهم ثم قاموا برميهم في نهر “إيفروس”، بحسب ما قاله قصي.
وفي 17 من آب، كانت محاولتهم الثانية، واستطاعت المجموعة عبور نهر “إيفروس” بنجاح.
لم يمضِ سوى وقت قليل على المحاولة الثانية الناجحة حتى سمع قصي القاطن في النرويج عن حرائق في غابات اليونان، وسارع إلى الاتصال بشقيقه في الغابات، الذي طمأنه بدوره أنه يرى الحريق ولكنه بعيد عنهم.
باسل الذي كان يعمل في إدارة المشاريع بريف حلب الشمالي، انقطع التواصل معه في 21 من آب.
استيقظ قصي على أخبار منتشرة عبر موقع “فيس بوك” والصفحات الإخبارية العربية واليونانية عن وفاة 18 لاجئًا في حرائق اليونان بمنطقة أفاس، نفس المنطقة التي كان فيها شقيقه مساء اليوم السابق.
انتابه الخوف من أن يكون شقيقه الأصغر توفي في الحريق، اتصل بأشخاص على صلة بأفراد مجموعة باسل ليسألهم عن عدد الذين كانوا معه في المجموعة، ليخبروه أنهم 18 شخصًا، وعندها أيقن قصي أن شقيقه بين المجموعة.
سافر قصي (31 عامًا) على طائرة متجهة إلى اليونان ليعطي عينة من أجل تحليل “DNA”، وبعد أسبوع اتصلوا به ليخبروه أن نتيجة التحليل مطابقة، وأن جثة شقيقه موجودة في مستشفى “أليكساندروبوليس”، وطلب منهم أن يرى مكان الحريق الذي أودى بحياة شقيقه.
“كانوا يحتمون من الحريق في منزل (حظيرة) للأغنام والأبقار، متوزعين يحاولون النجاة بأرواحهم، هكذا التقط الفريق الطبي أجسادهم، كان الحريق قد طال كل شيء، المنزل والأشجار والغابة المحيطة وأجسادهم”.
قصي الأحمد – شقيق أحد المتوفين في حرائق اليونان |
أرسل قصي ما تبقى من رفات شقيقه داخل كفن في الطائرة التي لم يتمكن من الخروج على متنها، وكانت الوجهة إلى تركيا، ومن ثم إلى ريف حلب الشمالي، ليدفن من قبل عائلته التي ودعته قبلها بشهر حالمة بمستقبل أفضل.
من القاتل؟
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أكد أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أن النشاط الواسع للمرتزقة على الحدود بين اليونان وتركيا لقمع وصد وصول المهاجرين إلى الأراضي اليونانية خطير وغير قانوني ويجب أن يتوقف في الحال.
وتحدث المرصد الأورومتوسطي خلال الدورة الـ54 للمجلس عن وجود دلائل قاطعة على تجنيد ودعم السلطات اليونانية لهؤلاء المرتزقة لتقليل أعداد طالبي اللجوء، وأن جرائمهم وصلت إلى حد قتل المهاجرين، ومن بينهم أطفال، أو تعمد إغراق قواربهم، وممارسة مختلفة أشكال التنكيل والتعذيب بحقهم، وإعادتهم قسرًا في ظروف غاية في الخطورة.
وأضاف المرصد أن المرتزقة يستخدمون في مهامهم قوارب تابعة للأمن اليوناني، وينفذون أعمالهم “الإجرامية” تحت أنظار الأمن.
وأوضحت الباحثة في المرصد الأورومتوسطي إيما جيمبرا، أن توكيل مجموعات غير نظامية (مرتزقة) بمهام صد وإرجاع طالبي اللجوء لا يعفي بأي حال الحكومة اليونانية من تحمل التبعات القانونية الناجمة عن ذلك، وأنه قد يضعها بشكل مباشر أمام مسؤولية مضاعفة بحكم موافقتها على ممارسة أنشطة إجرامية غير قانونية على أراضيها.