روسيا تخلف وراءها فراغًا أمنيًا جنوبي سوريا

  • 2023/09/30
  • 4:15 م
جندي روسي على عربته المدرعة يراقب المعارضين لاتفاق "التسوية" في أثناء إجلائهم من مدينة درعا- 15 من تموز 2018 (AFP)

جندي روسي على عربته المدرعة يراقب المعارضين لاتفاق "التسوية" في أثناء إجلائهم من مدينة درعا- 15 من تموز 2018 (AFP)

شكّل التدخل العسكري الروسي في سوريا نقطة تحول جذرية في مسار الأحداث الميدانية، إذ استطاع النظام السوري استرجاع مساحات جغرافية واسعة على الخريطة منذ أول غارة نفذها سلاح الجو الروسي في سوريا في 30 من أيلول 2015، منها باتفاقيات روسية- تركية، وأخرى لعبت فيها روسيا دورًا محوريًا مع الأردن وإسرائيل وحتى الولايات المتحدة.

الجنوب السوري كان مثالًا حيًا على تحول كفة القوى في المنطقة، من بين مناطق أخرى سيطر عليها النظام خلال الفترة نفسها، إذ سيطر على المحافظات الجنوبية، بينما تخلّت الولايات المتحدة عن فصائل المعارضة في الجنوب السوري عام 2018، وانتهت المنطقة بسيطرة روسيا والنظام عليها بموجب اتفاق صار يعرف لاحقًا باسم “اتفاق التسوية”.

سنوات تبعت الاتفاق شهدت ثقلًا روسيًا في المنطقة، كان يفسر على أنه إبعاد للميليشيات الإيرانية عن الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل، لكن الوجود الروسي بدأ ينخفض تدريجيًا منذ عام 2021، عندما تخلى عن دعم “اللواء الثامن” الذي شكلته روسيا من فصيل “شباب السنة” المعارض للنظام آنذاك.

الجنوب في يد روسيا

أشرفت روسيا على مفاوضات مباشرة بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام وتركزت المفاوضات في مدينة بصرى الشام شرقي المحافظة في أيلول من عام 2018، وتوصلت أطراف الاجتماعات من فصائل المعارضة والقوات الروسية إلى انضمام فصائل من العارضة لـ”الفيلق الخامس” التابع للنظام، والمشكل من قبل روسيا.

وعملت موسكو على تشكيل جسم عسكري تابع لها لتنفيذ بنود الاتفاق مع دول الجوار، القاضي بإبعاد مليشيات إيران 80 كيلومترًا عن الحدود السورية الأردنية، بحسب ما نقله قادة سابقون في فصائل المعارضة لعنب بلدي.

واختارت روسيا قائد فصيل “شباب السنة” أحمد العودة، ليكون قائد القوة العسكرية المحلية التابعة لها في الجنوب السوري، وأبقت على الفصيل العسكري على حاله من حيث تعداد العناصر، بينما سحبت أسلحته الثقيلة من دبابات ومدرعات.

قيادي في “اللواء الثامن”، التابع حاليًا “الأمن العسكري” اليوم بعد أن تخلت روسيا عن دعمه منتصف عام 2021، قال لعنب بلدي إن العودة كان منفتحًا على الحوار، وأثبت إمكانية إدارته للمنطقة بشكل منظم من خلال المفاوضات التي استضافها حينها في معقله بصرى الشام.

وتكفلت روسيا بتقديم راتب شهري قدره 200 دولار أمريكي لكل مقاتل في “اللواء الثامن”، و300 دولار للقياديين في الفصيل نفسه، وكانت هذه الرواتب عامل جذب للعناصر ما زاد من الكتلة البشرية في “اللواء” مع بداية تأسيسه.

وفي تشرين الأول 2021، نقل “تجمع أحرار حوران” المحلي، عن قيادي في “اللواء الثامن” أن التشكيل العسكري المدعوم من قبل روسيا في طريقه للتفكك، خصوصًا بعد أن شملت “التسويات” مجموعات تتبع له في قرية نصيب الحدودية مع الأردن.

عناصر من قوات النظام رفقة الشرطة العسكرية الروسية داخل بلدة المزيريب عقب اتفاق “التسوية” الذي شمل ريف درعا الغربي- 16 أيلول 2021 (سبوتنيك)

“التسوية” لتعويم الأسد

الباحث في مركز “جسور للدراسات” رشيد حوراني، قال لعنب بلدي إن روسيا حاولت إعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية باستخدام القوتين الناعمة والخشنة من خلال تقديم المساعدات، أو من خلال القوة العسكرية.

وعملت روسيا على إجراء “تسويات” وضم عناصر فصائل المعارضة إلى صفها، ومنح بعض الامتيازات التطمينية لمن خضع لـ”التسوية” كعدم الاعتقال على الحواجز أو السماح بالخدمة العسكرية ضمن حدود المحافظة وخاصة درعا.

وحاولت روسيا في الوقت نفسه، بحسب حوراني، تقديم صورة عن النظام أنه قادر على التعاون للتخفيف من مخاوف الدول وخاصة إسرائيل والأردن، وهو ما دفع الأخيرتين للقبول باتفاق “التسوية”.

وأنشأت روسيا مع إسرائيل “خطًا ساخنًا” للتنسيق بينهما بخصوص الضربات الجوية التي تنفذها في سوريا، كما سيرت دوريات عسكرية عدة مرات على الحدود مع الأردن بعد تنامي ظاهرة تهريب المخدرات بموجب الضمانات التي قدمتها روسيا لتل أبيب وعمان عام 2018.

وتتواصل عمليات تهريب المخدرات من مناطق سيطرة النظام السوري باتجاه الدول العربية رغم المسارات السياسية التي سعت لها بعض الدول لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، وإعادته إلى محيطه العربي، وأبرزها الأردن.

اقرأ المزيد: “المخدرات.. وصفة الأسد للاقتصاد وابتزاز الجوار”

وفي 8 من أيار الماضي، أغارت طائرات حربية لا تزال مجهولة الهوية، يرجح أنها أردنية، على أهداف في منطقة اللجاة بين محافظتي درعا والسويداء جنوبي سوريا، ما خلّف ثمانية قتلى من عائلة كاملة بينهم ستة أطفال.

وكالة “رويترز” قالت نقلًا عن مصادر استخباراتية، لم تسمِّها حينها، إن الغارة نفذها طيران أردني “ضاق ذرعًا” بعمليات تهريب المخدرات نحو أراضيه، بينما لم تعلن المملكة الأردنية مسؤوليتها عن القصف حتى اليوم.

ما أسباب انخفاض الحضور الروسي؟

يرى الدكتور نصر اليوسف، الخبير بالشأن الروسي، أنه في لحظة إقدام روسيا على أولى خطواتها في الحرب على أوكرانيا، لم تكن موسكو تفكر برد الفعل العنيف من الغرب، وبذلك فتحت القيادة الروسية على نفسها “باب جهنم” من خلالها خطوتها العسكرية في المنطقة.

وأضاف أن “ورطة أوكرانيا” جعلت جل اهتمام القيادة الروسية يصب في حربها المندلعة على حدودها الغربية مع أوكرانيا، على حساب ملفات أخرى أقليمية كانت تهتم بها سابقًا من روسيا إلى أرمينيا وغيرها.

الباحث في مركز “جسور للدراسات” رشيد حوراني قال لعنب بلدي إن الحرب الروسية- الأوكرانية أثرت بشكل تدريجي على النفوذ الروسي في سوريا، وهو ما استغلته إيران لتزيد من إجراءاتها إلى جانب النظام لتعزيز حضورها في الجنوب.

وأضاف أن الوجود الإيراني يمكن رصده سواء من خلال تهريب المخدرات وربط المتعاونين معها بمصالح مادية، أو من خلال إنشاء نقاط أمنية على طرف الحدود من الجانب السوري للتلويح باستخدامها ضد إسرائيل وهذا ما يفسره التدخلات البرية الإسرائيلية في عمق الأراضي السورية مؤخرًا.

تراجع فتح الباب أمام تغلغل إيراني

الكاتب في الشأن السياسي السوري عاصم الزعبي وهو من أبناء محافظة درعا، قال لعنب بلدي إن التدخل الروسي جاء في ظاهره تحت عنوان “إعادة الأمان لدرعا”، لتكون مناسبة للاستقرار وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين من دول الجوار أبرزها الأردن.

وأضاف أن الوقائع حملت معها آثار معاكسة، إذ أسهمت روسيا بضرب الاستقرار في المنطقة، وزادت الوضع الأمني سوءًا، ولم تستطع روسيا وحليفها المحلي إعادة الأمن للمنطقة، بل زادت حالات الاغتيال والتوترات الأمنية بالمنطقة.

وأسهمت سيطرة النظام السوري بدعم روسي على الجنوب السوري بعودة تنظيم “الدولة الإسلامية” بشكل أخطر مما كان عليه قبل عام 2018، حتى أن قائد التنظيم عثر عليه في درعا مطلع 2022.

وفتحت هذه السيطرة الباب على مصراعيه للتغلغل الإيراني الذي لطالما عارضه الأردن وأبدت إسرائيل ردود فعل حوله جنوبي سوريا، بحسب الزعبي.

اقرأ أيضًا: سيطرة النظام لم تحقق الاستقرار.. نزاعات تكرس “الرعب” بدرعا

الخبير في الشأن الروسي نصر اليوسف، قال لعنب بلدي إن خفض الوجود الروسي، أو انخفاضه، جنوبي سوريا، أتاح الفرصة أمام ميليشيات موالية لإيران لتوسيع مجالها في تلك المنطقة.

وأضاف أن هذا الانتشار يشكل خطرًا على الأمن القومي لدول الجوار، خصوصًا أن الإيرانيين لا يخفون أطماعهم في دول أخرى بالمنطقة.

أفراد من الشرطة العسكرية الروسية عند معبر نصيب الحدودي مع الأردن في محافظة درعا- 7 من تموز 2018 (AFP)

تراجع النفوذ الروسي

لم تتخلَ روسيا عن كونها جزءًا أساسيًا من خطة سيطرة النظام على الجنوب السوري التي مضى على تنفيذها خمس سنوات، إذ تتجول بين الحين والآخر آليات عسكرية للجيش الروسي في المنطقة، لكنها لم تعد ذات حضور فاعل بالمنطقة منذ 2021.

القيادي في “اللواء الثامن” قال لعنب بلدي إن الغزو الروسي لأوكرانيا كان بداية انحدار الحضور الروسي في الجنوب، إذ تراجع الدعم تدريجيًا عن “اللواء” وتوقفت رواتب العناصر بالكامل، حتى أن زيارات الشرطة العسكرية الروسية إلى بصرى الشام صارت نادرة، ثم قطعت بالكامل.

وعملت روسيا على إلحاق “اللواء الثامن” بشعبة “المخابرات العسكرية” (الأمن العسكري) بحسب القيادي منذ ذلك الحين.

وأضاف القيادي أن القوات الروسية صارت فعليًا دون تأثير يذكر على الجنوب السوري، وبعيدة كل البعد عن الأحداث التي تجري في المحافظة، إذ لم يتبقَ من قواتها سوى بضعة أفراد في مركز الشرطة الروسية بمدينة “إزرع” و مركز “موثبين” الذي يتمركزون فيه إلى جانب عناصر من قوات النظام.

توزيع مساعدات على قاطني مراكز الإقامة المؤقتة في مدينة درعا من قبل الشرطة العسكرية الروسية- 11 من آب 2021 (سبوتنيك)

الأثر على دول الجوار

الخبير الاسترتيجي والباحث غير المقيم في معهد “ستيمسون” في واشنطن، عمار السبايلة، قال لعنب بلدي إن روسيا تركت فراغًا أثر على دول الجوار كالأردن وإسرائيل، خصوصًا أن جهات أخرى حاولت ملء الفراغ.

وأضاف أن ميليشيات عديدة، وعصابات جريمة، و”تنظيمات إرهابية” بدأت تستعيد قوتها ونفوذها، وتحاول ملء الهوامش التي تركتها روسيا، وهو ما ترك أثرًا سلبيًا في عموم المنطقة.

ويرى الباحث أن روسيا تتعامل مع الأردن على أنها “محطة أمريكية”، إذ توجد فيها قواعد عسكرية أمريكية، وبالتالي فإن تخفيف النفوذ الروسي في المنطقة يمكن أن يكون متعمد، في إطار إشغال أمريكا، وخلق “واقع مقلق” بالمنطقة.

وبالنسبة لموسكو، فإنها فعليًا لا تملك الكثير من الأوراق لمواجهة الولايات المتحدة على صعيد المنطقة الجنوبية من سوريا، وهو ما يمكن أن يدفع بروسيا نحو إثارة قلاقل بالمنطقة في هذا الإطار، كما هو الحال عندما أطلقت يد إيران شرقي سوريا ضد الوجود الأمريكي، بحسب الباحث.

ومن جهة أخرى يمكن النظر إلى أن روسيا تحاول إثبات نفسها كواقع في المنطقة، أي أن غيابها أو تخفيض حضورها العسكري في منطقة ما، يمكن أن يثير قلاقل في المنطقة، وهو ما تهدف لإثباته فعليًا، بحسب السبايلة.

الخبير في الشأن الروسي نصر اليوسف، يرة أن إسرائيل بدورها لن تكون سعيدة من خفض الوجود الروسي جنوبي سوريا، خصوصًا مع الآفاق التي فتحها أمام الميليشيات الإيرانية وأبرزها “حزب الله” اللبناني في المنطقة.

وعلى أقل تقدير يمكن أن يمثل الوجود الإيراني جنوبي سوريا “مصدر ابتزاز” لدول الجوال مثل إسرائيل والأردن، بحسب اليوسف.

إيران على الحدود

عام 2020، أصدر مركز “ألما” الإسرائيلي دراسة تحدث عبرها عن أن وحدة استخباراتية إيرانية تحمل اسم “ملف الجولان” تعمل بهدف بناء بنى تحتية لـ”خلية إرهابية” في الجنوب السوري، وكيلة عن “حزب الله” اللبناني.

وأشارت إلى أن الغرض من هذا النشاط هو جمع المعلومات وتنفيذ الأعمال الأمنية ضد إسرائيل، ويعتبر عناصرها والعاملون فيها من السكان المحليين السوريين الذين يعرفون المنطقة جيدًا، ويمكنهم الاندماج بين السكان المحليين.

وتشير النتائج التي خلصت لها الدراسة إلى عشر قرى في محافظة القنيطرة، و14 قرية أخرى في محافظة درعا تحت سيطرة “فيلق القدس الإيراني” (جزء من “الحرس الثوري الإيراني”)، أُنشئت فيها بنية تحتية عسكرية على الحدود السورية مع إسرائيل، ما أتاح إمكانية فتح جبهة أخرى على الحدود السورية ضد إسرائيل، تعادل تلك التي حدثت في لبنان سابقًا.

اقرأ أيضًا: الجنوب السوري.. رسائل إيران تقابل بـ”حزام أمني” إسرائيلي


شارك في إعداد هذه المادة مراسل عنب بلدي في درعا حليم محمد.

مقالات متعلقة

سوريا

المزيد من سوريا