وأنت تتجول في شوارع إدلب وأسواقها شمال غربي سوريا، لا يغيب عن ناظريك انتشار المتسولين فيها، خاصة النساء منهم والأطفال، فقد صار ظاهرة متزايدة، وسط انتشار الفقر والبطالة.
وألقت الحرب الدائرة في سوريا على مدار 12 عامًا بظلالها وأثّرت سلبيًا على جميع مناحي الحياة، فشهدت المنطقة ترديًا كبيرًا في الأوضاع الاقتصادية نتيجة العمليات العسكرية وموجات التهجير القسري المستمرة، وانتشرت البطالة وقلة فرص العمل، في ظل انخفاض وانقطاع المساعدات الإنسانية.
وينتشر التسول في منطقة تتراوح أجور المياومة فيها بين 40 و70 ليرة تركية (ثلاثة دولارات وسطيًا)، وتختلف باختلاف عدد ساعات العمل وطبيعة المهنة من زراعة أو أعمال يدوية أو أعمال بناء.
“حاجة ومهنة”.. من جميع الفئات
طالت ظاهرة التسول الفئات العمرية كافة من الذكور والإناث، وباتوا يبحثون عما يسد رمق عوائلهم الفقيرة، ليبقى مشهد المسنات المتسولات الأكثر إيلامًا، إذ حرم النزوح الكثير من الأسر من بيوتها وأرزاقها ومصادر دخلها الأساسي، واضطرت للعيش في مخيمات وسط أوضاع مأساوية أو منازل غير مجهزة أو أشباه منازل مهدمة ومهددة بالسقوط في أي لحظة.
وغالبًا ما تجد مسنات متسولات في إدلب مكانًا ثابتًا لهن في أحد الشوارع أو الحدائق أو الأسواق، لطلب العون من المارة، نظرًا إلى عدم قدرتهن على التجول وقطع المسافات في البحث عن متبرعين ومتعاطفين، وهو ما أكدته المسنة فطوم الأحمد، السبعينية التي أنهكها المرض والفقر.
الباحث الاجتماعي محمد العبدو قال لعنب بلدي، إن للتسول شقين، الأول هم من يتسولون من أجل الحاجة وهم قليلون، أما الشق الثاني وهم الغالبية الذين يمتهنون التوسل كمهنة وتجارة، وليسوا من أصحاب الحاجة، فمنهم من تصل يوميته لبضع مئات من الليرات التركية.
ويرى حسين مواس، وهو عامل في القطاع الإنساني، بأن السبب الرئيس للتسول هو الفقر والبطالة الموجودة بنسبة عالية، إضافة إلى التفكك الأسري، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الأطفال يتسولون بسبب القدوة من آبائهم وأمهاتهم الذين يمتهنون التسول، ويقوم الأبناء بتقليدهم فهي مهنة غير متعبة جسديًا، بغض النظر عن ضغوطها النفسية.
جمع نفايات لا تسول
بحسب محمد عبد الرحمن، وهو مدير مخيم “مريم” جنوب معرة مصرين، فإن عددًا كبيرًا من أطفال المخيم البالغ عدده نحو 600 عائلة، يعملون بجمع النفايات من أسواق “الهال” أو المكبات الكبيرة في المنطقة القريبة، لتأمين بعض متطلبات المعيشة لأهلهم.
آيات عيد، ربة منزل من سكان مدينة معرة مصرين ومهجرة من ريف حلب، قالت لعنب بلدي إن عددًا من الأطفال يطرقون باب منزلها يوميًا، بحجة طلب المساعدة، منهم من يطلب المال ومنهم من يطلب الطعام، وهم لحوحون ولا يخرجون إلا بتحقيق طلبهم.
وأضافت أن زوجها بات لا يطيق إزعاج الأطفال منذ الصباح الباكر، ولا يريد أن يطردهم بنفس الوقت، لذلك اقترح عليهم أن يجمعوا كل نفايات البناية ورميها في الحاويات القريبة، ويأخذوا مالًا مقابل الخدمة التي يقدمونها.
وذكرت أن هؤلاء الأطفال صاروا يساعدون أصحاب البيوت في تأمين احتياجاتهم وتنظيف منازلهم، ويأخذون مالًا بدل الخدمة ولم يعودوا يتسولون.
غلاء معيشة وانخفاض دخل
في 13 من أيلول الحالي، افتتح فريق البحث الاجتماعي في الجامعة الدولية للعلوم والنهضة، المؤتمر الثاني للظواهر الاجتماعية في مركز “يونس إمره” في اعزاز، والذي تناول ظاهرة التسول في الشمال السوري ببحث حمل عنوان “معًا ضد التسول”.
وقال عميد كلية التربية في جامعة “النهضة”، الدكتور محمد العمر، لعنب بلدي، إن الطلاب في كلية التربية أجروا البحث من خلال مقابلات ميدانية مع الأطفال المتسولين في مدينة اعزاز، وكان البحث ضمن إطار التعاون بين الجامعة الدولية للعلوم والنهضة ومركز “يونس إمرة” في اعزاز.
وبحسب العمر، فإن أهم أسباب التسول وفق الدراسة البحثية، غلاء المعيشة وانخفاض الدخل، لافتًا إلى أن فريق البحث نظّم زيارات ولقاءات استهدفت الأطفال المتسولين أنفسهم، وتعرف الفريق منهم على أهم الأسباب التي دفعتهم للتسول، وكانت بالدرجة الأولى الطلاق، وعدم وجود معيل للأسرة، كذلك رغبة الأب في البطالة وإرسال أبنائه للتسول.
وأوصى البحث بتوفير فرص العمل وتقديم التدريبات المهنية، وتقديم الدعم النفسي الاجتماعي للمتضررين، وتفعيل دور الجمعيات الخيرية في معالجة هذه الظاهرة.
وتحاول المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية العاملة في مناطق شمال غربي سوريا، الحد من الظواهر السلبية المنتشرة في المنطقة كالتسول والتسرب المدرسي وعمالة الأطفال، من خلال توعية الأهالي لمضار هذه الظواهر، إضافة لخلق مشاريع إنتاجية واقتصادية تومن فرص عمل للناس لتحسين وضعهم المعيشي وعدم حاجتهم للتسول وغيره.
وبحسب فريق “منسقو استجابة سوريا” العامل في المنطقة، فإن مؤشرات الحدود الاقتصادية للسكان في منطقة شمال غربي سوريا، قد ارتفعت، وذلك بناء على سعر الصرف وكمية الاحتياجات وارتفاع الأسعار.
وقال الفريق إن حد الفقر المعترف به، ارتفع إلى قيمة 6473 ليرة تركية، وحد الفقر المدقع، ارتفع إلى قيمة 4669 ليرة تركية.
ويعاني عدد كبير من سكان شمال غربي سوريا الفقر المدقع وتراجعًا وعجزًا في القدرة الشرائية وقلة فرص العمل.
وتضم المنطقة 4.5 مليون إنسان، 4.1 مليون منهم بحاجة إلى مساعدة، و3.3 مليون منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي.
اقرأ أيضًا: مسنات ترمي بهن الحاجة إلى التسول في إدلب