مع انطلاق الثورة السورية وخروج مئات الآلاف من السوريين في مظاهرات عمت أنحاء البلاد، روج النظام حينها لرواية مفادها أن المتظاهرين يتناولون حبوب “هلوسة” وأنواعًا أخرى من الحبوب المخدرة التي تجعلهم يخرجون في تلك المظاهرات وليكرروا الكلام “المدسوس” الذي يهتف به البعض دون وعي لما يقولون. ووصل الحال بعض المواقع والصفحات المؤيدة للنظام على الشبكة الالكترونية أن عرضت حينها عينات لما قالت أنه “حبوب الجزيرة للهلوسة” والتي قالت أنها توزع على المتظاهرين ليشاركوا في المظاهرات.
واليوم وبعد غياب روايات الحبوب والمخدرات بدأ الحديث عنها يعود من جديد، ولكن هذه المرة لتطال قوات النظام وعناصره. إذ كثرت خلال الأشهر الأخيرة الروايات التي تفيد بأن النظام يتبع سياسة ممنهجة تشجيع عناصره على تناول أنواع من المخدرات والمشروبات الكحولية والمنشطات التي تجعلهم يتصرفون دون وعي أو إدراك، بحيث يتبعون الأوامر التي يتلقونها وينفذونها دون تفكير أو مراجعة. وبعد أن كانت كل تلك الروايات تعتمد على التكهنات وتحليل النفسيات لتفسير وفهم تصرفات عناصر النظام اللاإنسانية، بدأت مؤشرات ودلالات حول صحة هذه الروايات بالظهور.
– عناصر النظام… عدم اتزان وردود أفعال غريبة
قبل أسابيع حدث اشتباك صغير في قلب مدينة داريا بين عنصر واحد من قوات النظام مع عناصر من الجيش الحر وجهاز الشرطة المكلف بحماية المدينة. وجاء الاشتباك بعد أن كان هذا العنصر يتجول وحيدًا في أحد شوارع المدينة التي تقع تحت سيطرة الجيش الحر بعيدًا عن رفاقه ونقطة تمركزهم، وما إن وجد نفسه أمام بعض المدنيين الذين سألوه من يكون، حتى بدأ بإطلاق النار عليهم وفي الهواء بصورة هستيرية دفعت بعناصر الجيش الحر لإطلاق النار عليه. وقد أكد كل من كان في المنطقة وقتها أن هذا العنصر لم يكن بحال طبيعية، فطريقة سيره في الشارع وخطواته الغير متزنة، وسيره في بعيدًا عن رفاقه وهو يرتدي لباسه الميداني الكامل ويحمل أكثر من قطعة سلاح معه، وردّة فعله على سؤال المدنيين، كل ذلك يؤكد أنه لم يكن بوعيه إطلاقًا.
وفي وقت سابق كنا قد توجهنا بالسؤال لأبو وائل، قائد إحدى مجموعات الجيش الحر العاملة في المدينة ضمن كتيبة شهداء داريا، حول مدى صحة مثل هذه الروايات، وما إذا كانت لديه دلائل حول ذلك، فروى لنا قصصًا ومشاهدات مما كان يراه ويلاحظه أثناء الاشتباكات التي كانت تدور بين مجموعته وبين قوات النظام، أو عندما يقوم عناصر الجيش الحر بتمشيط منطقة ما بعد استعادتها من قوات النظام.
فقد ظهرت أثناء الاشتباكات ردود أفعال «غريبة» وتصرفات «لا شعورية» من قبل بعض عناصر النظام بعد الإصابة المباشرة برصاص الجيش الحر، كما يقول أبو وائل، وهي التي وصفها بأنها تتسم بـ «الهلوسة وعدم الاتزان». ومن الحوادث التي قال أنه شهدها بنفسه، أن عددًا من الشبيحة كانوا منتشرين عند مدخل أحد الأبنية برفقة أحد الضباط الذي أمرهم بالانتقال إلى مدخل البناء المقابل، فتم رصدهم من قبل قناصة الجيش الحر في المنطقة الذي قام بقنص أحدهم برأسه أثناء محاولته الانتقال، فقام البقية بسحبه وجره إلى داخل المدخل، ومن ثم قام جندي آخر بالخروج من نفس المكان وبنفس الاتجاه فقام القناص بقنصه هو الآخر. وتكرر المشهد للمرة الثالثة كما يقول أبو وائل، دون أن يغير الجنود مكانهم أو يتوقفوا عن الخروج من مكانهم والانتقال بنفس الطريقة. وعندما أُخليَ المكان بالكامل ووصل عناصر الجيش الحر إليه وجدوا فيه محاقن (سرنغات) بأحجام وألوان مختلفة، وأنواع متنوعة من الأدوية. (وقد حصلنا على صور لتلك السرنغات وبقايا الأدوية التي وجدت في المكان).
ويذكر أبو وائل قصة أخرى أكثر غرابة، إذ كان عناصر مجموعة من الجيش الحر يراقبون أحد الأبنية التي «يحتلها» جنود جيش النظام، وكان قناص المجموعة يتابع حركة جنديين متواجدين في مطبخ إحدى الشقق، حيث كان أحدهم يطبخ والآخر يجلس بجانبه، فقام بقنص الجندي الجالس فأصابه بقدمه ووقع أرضًا وصار يصرخ ليسعفه أحد أو ينجده، لكن صديقه الذي يطبخ بجانبه أكمل ما كان يقوم به دون أن يعيره أي انتباه أو يدرك ما حصل لصديقه. ويختم أبو وائل بقوله: «إن ما يتعاطاه عناصر الجيش ربما يكون مخدرات أو نوع من الحشيش، فيخرج ذلك العسكري دون أن يعلم لماذا خرج … يخرج فقط ليقتل متجردًا من كل القيم الإنسانية والأخلاقية … لدرجة أنه يرى رفيقه يُقتلُ بجانبه فلا يهتم أو يتأثر ولا يحاول إسعافه حتى».
وحول كمية السرنغات وبقايا الأدوية التي يجدها عناصر الجيش الحر في الأماكن التي يستعيدونها من قوات النظام، أشار أبو عمر، وهو أحد عناصر الجيش الحر الذين يقومون بعمليات التمشيط للمناطق التي تتم استعادتها، إلى أن الكميات تختلف بين منطقة وأخرى، «إلا أننا على الدوام نجد أكبر كمية من بقايا الحبوب والسرنغات في أماكن تمركز القناصة.»
– شهادات طبية
ولدى سؤالنا أحد أطباء المشفى الميداني في المدينة، نتحفظ على ذكر اسمه، حول هذه الأدوية التي تستخدمها قوات النظام، قال أنها مخدرات منشطة، توفر نشاطًا غير طبيعي لمن يتناولها، على عكس المشروبات الروحية. وأضاف أن من بين العينات التي أُحضرت إلى المشفى كان هنالك بقايا مستحضرات من هذا القبيل مثل الكوكايين(Cocaine) والإمفيتامين (Amphetamine).
وحول المحاقن (السرنغات) التي وُجدت في تلك الأماكن قال الطبيب أنها محاقن الأنسولين التي يستخدمها مرضى السكري فقط، وهؤلاء يعفون من الخدمة الإلزامية قانونًا، «وهذا يؤكد أنه لا يوجد أحد منهم قد استخدمها للأنسولين» فهذه المحاقن مخصصة للحقن الوريدي فقط وتتميز برأسها الرفيع والقصير، كما يقول الطبيب.
من جهته، طبيب آخر من أطباء داريا (طلب عدم ذكر اسمه) قال أنه وبعد المجزرة الكبرى التي نفذها النظام في مدينة داريا أواخر آب 2012، وجد الأهالي عدة سرنغات من مخلفات قوات النظام، فأخذها وقام بتحليلها في أحد المخابر التي يثق بها فأظهرت نتائج التحليل أن فيها آثار مواد مخدرة ومنشطة.
– أسير ومنشقون يؤكدون…
حسن سلمان عثمان عنصر من قوات النظام (السرية 104 قصر الشعب)، أسره الجيش الحر بعد تعرضه لإصابة في خاصرته وقدمه أثناء إحدى محاولات قوات النظام لدخول المدينة. وعندما جاء أحد أطباء المشفى الميداني لمعاينته لاحظ أن الأسير كان بحالة نشاط ولا يشعر بأية آلام ولا تظهر عليه علامات التعب، وهو الأمر الذي يثير الاستغراب، إذ أن المصاب بطلق ناري لابد أن يظهر عليه أثر الإصابة وعلامات الإعياء بعد إصابته بفترة وجيزة نتيجة النزف الذي يتعرض له، حسب الطبيب. كما أنه أثناء التحقيق معه كان يتكلم مع المحقق بثقة ودون توتر رغم أنه أسير. إلا أنه بعد ساعات، بدأت حالته الصحية والنفسية تختلف، إذ بدا عليه أثر الإصابة والتعب والخوف، وهو ما يثير الشكوك حول تعاطيه أدوية منشطة ومخدرة، بحسب الطبيب الذي عاد ليعاينه مرة أخر، رغم أنه نفى مرارًا أن يكون قد تناول أية أدوية، إلا أنه أكد أن مجموعة أخرى (من سرية الاحتياط 105 في الحرس الجموري حسب قوله) تتعاطى حبوبًا مخدرة ومشروبات كحولية، وهي تسبب لهم أزمة كبيرة يفقدون بعدها وعيهم ويصبحون بحالة جنون هستيرية، مضيفًا أنه شاهدهم وهم يحرقون أبنية بأكملها بعد تناول تلك الحبوب. وعند سؤاله عن تلك الحبوب، قال أنه لا يستطيع تحديد اسمها أو نوعها لكنه كان يشاهد مظروفات في كل واحد منها 4 حبات بيضاء توزع على أفراد تلك السرية، مشيرًا إلى أن ضابطًا مسؤولًأ كان يأتي بسيارة مصفحة ويقوم بتوزيع تلك الحبوب على مجموعات معينة من العناصر المقاتلة.
كما أكد عدد من العناصر المنشقة عن جيش النظام والذين انضموا للجيش الحر في المدينة الرواية التي ذكرها «الأسير حسن»، إذ قالوا أن مجموعات معينة فقط من المجموعات المقاتلة هي من تتعاطى المواد المخدرة والمنشطات وليس الجميع. وأضاف أحدهم قائلًا «كنت أخدم في الفرقة الرابعة حتى انشقاقي، كنا سبعة أشخاص فقط من الطائفة السنية ممن تم إرسالنا إلى داريا للقتال، أما البقية وهم بالعشرات فكانوا جميعًا من الساحل من الطائفة العلوية. كانوا لا يسمحون لنا بالاختلاط بهم أو السهر معهم، كانت لهم اجتماعاتهم وسهراتهم الخاصة بهم.» وليضيف زميله الذي انشق معه «كنا نعلم أنهم يتعاطون مخدرات ويشربون مشروبات كحولية، ونشعر بذلك من عيونهم ووجوههم وتصرفاتهم، وأحيانًا كنا نجد بقايا ما يتعاطونه أو يتناولونه».
كثيرة هي القصص والروايات حول لجوء النظام وعناصره لتناول المخدرات والمنشطات والمشروبات الروحية أثناء المعارك ولأسباب مختلفة، ورغم عدم وجود أدلة دامغة على صحة ذلك، إلا أن الكثير من المؤشرات والدلائل تبين أن لتلك القصص جذورًا من الحقيقة، كما أن ممارسات قوات النظام وتصرفات شبيحته المنافية تمامًا للإنسانية والتعقل تشير إلى أنهم لا يمكن أن يكونوا بوعيهم وإنسانيتهم عند قيامهم بتلك التصرفات.