عنب بلدي – حسن إبراهيم
لا تزال “هيئة تحرير الشام” المسيطرة عسكريًا على إدلب، تعيش على وقع قضية “الاختراق والعمالة” التي ضربت جذور الفصيل وطالت رأس الهرم فيه، مبقية على خيط تواصل بين تياراتها ومكوّناتها وكتلها لم ينقطع بعد.
معالم الشرخ لم تتضح لكن الأجواء مهيأة لانقسام، وسط تجاذبات قائمة بين مكوّنات “الهيئة” وسيناريوهات عديدة ممكنة عقب مضي أكثر من 15 يومًا على تجميد مهام وصلاحيات الرجل الثاني في “تحرير الشام”، ميسر بن علي الجبوري (الهراري) المعروف بـ”أبو ماريا القحطاني”، لضلوعه في ملف “العمالة”.
ورغم كلام “الهيئة” عن بعض تفاصيل قضية “خلايا العمالة”، وروايتها المتناقضة عن أن أفرادها عناصر جدد انتسبوا إلى صفوفها، لا يزال الغموض يحيط بمصير “أبو ماريا القحطاني”، ما فتح الباب للحديث عن مآلات “تحرير الشام” وخياراتها أمام إقصاء رجل “الهيئة” الثاني الذي يشكل كتلة كبيرة في صفوفها، ويحظى بدعم من بعض رجال الصف الأول فيها.
من صانع قرار إلى معزول
في 17 من آب الماضي، أصدرت “الهيئة” بيانًا نص على تجميد صلاحيات ومهام “أبو ماريا القحطاني”، بسبب “خطئه في إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل”، حسب قولها، دون توضيح لطبيعة هذه التواصلات أو الجهات التي يتواصل معها.
يقود “القحطاني” ملف محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وغالبًا ما كان يتم تقديمه من قبل أتباع “تحرير الشام” على أنه عالم دين أو شيخ، لكنه قائد ومنفّذ ورجل أعمال أكثر من كونه عالمًا، ولعب في الفترة ما بين 2014 و2015 دورًا رائدًا كمنظر أيديولوجي يهاجم “متطرفي” تنظيم “الدولة الإسلامية”، حتى حصل على لقب “قاهر الخوارج“.
واكتفى بيان “تحرير الشام” بتجميد المهام دون التطرق إلى تاريخ اعتقال “القحطاني” أو التحقيق معه، أو ما إذا كان معتقلًا أو خارج السجون، أو تحت “الإقامة الجبرية”، كما لا يزال “القحطاني” غائبًا عن النشر عبر معرفاته الشخصية منذ 12 من آب، إذ نشر بأنه مريض، وهو أمر غير معتاد منه.
الباحث في معهد “الشرق الأوسط” تشارلز ليستر، قال عبر تطبيق “إكس” (تويتر سابقًا)، إن “الهيئة” تشهد مشكلات داخلية، ومصير “أبو ماريا القحطاني” ليس معروفًا لكن “العواقب وخيمة”.
وقال الباحث ومدير تحرير مجلة “نيولاينز“، حسن حسن، إن “الهيئة” تغامر مغامرة جديدة وخطيرة، بتقييد أبرز رجالاتها وإقصائه، وتغامر بسبب مهم من أسباب نجاح سياستها في السنوات الماضية، وسبب استقرار أمورها في الشمال وحتى دوليًا.
الصراع بدأ يظهر
لا يمكن اعتبار قرار تجميد المهام أمرًا طبيعيًا في حالة “القحطاني”، كما لا يمكنه أن يمر دون تخبطات، فهو مشارك في تأسيس “جبهة النصرة” (“تحرير الشام” حاليًا) في تشرين الأول 2011، وصار نائبًا لزعيمها “أبو محمد الجولاني”، وعمل شرعيًا فيها و”أميرًا” للمنطقة الشرقية من سوريا مع بداية العمل المسلح عام 2012.
وخلق قرار تجميد مهامه صراعًا بين تيارَين داخلها، الأول داعم له يضم كتلة “المنطقة الشرقية” وعلى رأسها الشرعي في “الهيئة” مظهر الويس، والثاني ناقم على “القحطاني”، ويضم قياديي الصف الأول “أبو أحمد حدود”، ورئيس المجلس الشرعي في “تحرير الشام”، عبد الرحيم عطون (أبو عبد الله الشامي).
ويمتلك القحطاني حضورًا بارزًا داخل “الهيئة”، نظرًا إلى دوره بتأسيس “النصرة” في المنطقة، وتعد كتلة “الشرقية” (دير الزور، الرقة، الحسكة) تابعة له، وكان له دور بدعمها ماليًا ومنع مقاضاة أفرادها أمام المحاكم على انتهاكاتهم المتكررة.
وشكّلت “الهيئة” لجنة تحقيقات وصفتها بـ”الخاصة” وفق البيان، وذكر مصدر عسكري في “تحرير الشام” لعنب بلدي، أن اللجنة ضمت أمنيين وقياديين عسكريين وشخصيات إدارية، ورفض المصدر الإفصاح عنها، أو تحديد ما إذا كان “الجولاني” فيها.
قياديون وشرعيون منشقون عن “تحرير الشام” ذكروا أن القيادي في “الهيئة”، “أبو عبيدة منظمات”، كان رئيسًا للجنة التحقيق وبصلاحيات واسعة، وذكر المصدر أنه تم إبعاد مظهر الويس من لجنة التحقيق الخاصة بملف “العمالة”.
الأمر الذي أجج الخلاف، هو أن تيار أنصار “القحطاني” يرى أن “أبو عبيدة” محسوب على التيار الثاني (الحاقد على القحطاني)، ووجهوا اتهامات لرئيس اللجنة بالتلاعب لإدانة “القحطاني”، كما أن القيادي في “الهيئة” جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور) يميل إلى مساندة “القحطاني” ودعمه.
وبعد يومين من بيان تجميد المهام قال “أبو أحمد زكور” مادحًا “القحطاني” عبر تطبيق “إكس” (تويتر سابقًا)، وهو رجل ظل يقود دبلوماسية “تحرير الشام”، إنه “نِعم الخل والرفيق”، مع صورة جمعتهما ملتقطة فوق الثلوج، وبزي تخلّت عنه “تحرير الشام” سابقًا.
ما سبق يبرز أن كتلة “بنّش” التي يقودها “أبو حفص” وتضم قياديي الصف الأول في “الهيئة”، تريد محاسبة “القحطاني” الذي يملك كتلة لا يستهان بها، وهذا يجري تحت أنظار كتل أخرى تشكل دعائم أساسية وأعمدة في “تحرير الشام”.
“إقصاء واندماج وتهدئة”
الباحث في الجماعات “الجهادية” عرابي عرابي، قال لعنب بلدي، إنه لا يمكن الترجيح بطبيعة الانعكاسات التي ستؤول إليها “الهيئة” بعد التحولات التي مرت بها في الفترة الماضية، وهذا قد يضع “تحرير الشام” أمام منعطفات واحتمالات جديدة، أولها إقصاء كتلة “الشرقية” وهي الكتلة الأمنية والاقتصادية التي أحاطت بـ”القحطاني”.
وأوضح عرابي أن إقصاء كتلة “الشرقية” يعد من الاحتمالات العالية الترجيح، ويبدو أن المستهدف الأبرز لإقصائه وإبعاده عن المشهد منها سيكون القاضي الشرعي مظهر الويس وفاروق شحيل و”أبو محجن الحسكاوي”، نظرًا إلى دورهم الدعائي والعشائري في دعم “القحطاني”، ولموقفهم في دعمه ضد كتلة “بنّش”.
وذكر عرابي أن “أبو أحمد زكور” يرتبط بمصالح تجارية كبيرة مع كتلة “القحطاني”، وبالتالي فإنه سيقع أمام خياري استعداء كتلة “بنّش” أو الوقوف معها، ويرجّح أن يقف على الحياد في حال تم ضمان مصالحه التجارية والمالية ومنصبه داخل “الهيئة”.
ويرى عرابي أن كتلة “بنّش” تحتاج إلى أن تستميل عناصر أبناء المنطقة الشرقية بمختلف الوسائل الممكنة، كالإغراءات المادية، إلى جانب العمل الخطابي الإقناعي، بالإضافة إلى دور قياديين من أبناء المنطقة الشرقية بإقناعهم بالالتفاف حول مشروع “الهيئة” والتمسك به ونبذ الفتنة.
السيناريو والاحتمال الثاني بنظر الباحث عرابي هو تماسك كتلة الشرقية ومحاولة استمالة عناصر الكتل “الخامدة”، مثل كتلة “حلب”، وكتلة “أبو مالك التلي”، وربما يعرضون على كتلة “حماة” التحالف معهم.
ولكي تضمن كتلة “الشرقية” تحالف الكتل “الخامدة” معها، يجب أن تقدم تنازلات واسعة عن السيطرة الأمنية لها داخل “الهيئة”، وبالتالي لن يكون لهذه الكتلة تلك السيطرة المطلقة على المفاصل الأمنية، ما سيؤدي إلى إضعافها في المستقبل، وفق عرابي.
ويرجح عرابي ألا تميل الكتل للموافقة على هذا السيناريو، نظرًا إلى كمية المكاسب التي قد يحصلونها من إقصاء الكتلة مقابل الموافقة على دعمها.
ويرى عرابي أن الخيار الثالث هو التهدئة، والعمل على اختيار حل وسط من قبل “الجولاني”، واتخاذ بعض الإجراءات لإرضاء كتلة “بنّش”، ثم تتبعها إجراءات أخرى لطمأنة كتلة “الشرقية”، لعدم تطور الموقف إلى صدام معلَن أو اتخاذ رد فعل يؤثر على تماسك “الهيئة”.
ويعتبر الباحث أن سيناريو “التهدئة” هو الأرجح من بين السيناريوهات الثلاثة في الوضع الحالي، لأن أي انقسام جديد في “الهيئة” سيكون أثره ضارًا بمصالح الجميع، ويمنح خصوم “الهيئة” القدرة على تفكيكها بسهولة أكبر.
وحمل بيان التجميد لهجة “لطيفة خفيفة الحدة”، مقارنة ببيانات “الهيئة” بحق قياديين سابقين إثر خلافات سابقة معهم أو اعتراضهم على سياسات “تحرير الشام”، ولاقى انتقادات من قبل معارضي “الهيئة”، مفادها أن قضية كـ”العمالة لجهات داخلية وخارجية” لا تُقابل ببيان “أخوي”.