غياب ومنفى

  • 2013/02/18
  • 7:47 م

جريدة عنب بلدي – العدد 52 – الأحد – 17-2-2013

لم تكن هذه حادثة الوفاة الأولى التي لم تستطع «عهد» أن تكون فيها مع أهلها معايشة تفاصيل أيامهم في النزوح.. عمها وخالتها قضيا نحبهما بعد صراع مع المرض على التوالي في هذا الشهر، كانت لحظات تكلمت فيها مع والدتها على الهاتف بعد انتظارها ربع ساعة ريثما حالفها الحظ و»علّق الخط»، لتعلمها بنبأ وفاة خالتها الكبرى، صمتٌ ساد ليعلو بعده نحيب، لا عن ألم الموت الذي باعد بين الأحبة، بل كان هناك ما هو أعمق، حرك سكنات قلبين متعبين من توالي الجراح المثقلة على عتباتهما..

«عهد» فتاة دارانية في العشرين من عمرها، عايشت الثورة السورية بكل فصولها، بألم وغصة، اضطرت لترك أهلها والذهاب لمنفاها في لبنان على غير عادة بنات جيلها، متجاوزة كل التقاليد التي تمنع الفتيات من السفر لوحدهن كما هي عادات مجتمع داريا الملتزم، وذلك بعد أن اعتقلت ثلاثة من صديقاتها المقربات في دمشق ما جعل بقاءها داخل البلد مغامرة لا تستحق المجازفة.

لم تكن قصة عهد هي الوحيدة التي اخترقت قانونًا اجتماعيًا كهذا، فخولة ونهى ورولا وهالة صديقاتها اللاتي رافقنها آلام ومتاعب الغربة دون أهاليهن لم يكنّ أحسن منها حالًا. ساعات طويلة يسرحن بخيالهن هناك حيث كن مُجتمعات. خولة تقضي ساعات من وقتها يوميًا في الحديث عن أخيها المفقود المغيّب في سجون الأسد، كثيرًا ما كانت تبث إليه أهاتها وخلجات صدرها عسى الله أن يجعلها بردًا وسلامًا عليه، وهي التي تفتقد صحبته منذ أشهر. بينما تسرح نهى لاعنةً حظها العاثر الذي حال بينها وبين خطيبها المبعد قسرًا عن مرأى عينيها منذ ما يزيد عن العام والنصف، وهو القابع اليوم في سجن صيدنايا بعد أن خطفه حاجز طيار لأجهزة المخابرات الجوية في أحد أزقة مدينة داريا.

أما رولا فكثيرًا ما تكون قلقة متململة وسريعة الانفعال من ملاحقة الأمن لزوجها الذي آثر البقاء في المدينة لتعلم مؤخرًا أنه  قرر الالتحاق بالجيش الحر، بينما أولادها لا يزالون في الداخل ينتظرون حصولهم على ورقة إخراج قيد تؤكد أنهم أفراد عائلة واحدة بعد أن نسيت رولا «دفتر العيلة» في بيتها الذي أكرهت على الخروج منه تحت قصف الميغوالسوخوي تاركةً وراءها كل شيء. يبقيها هذا الوضع في حيرة دائمة… ماذا بالإمكان أن تفعل! شوقها لأطفالها يجعل اغروراق عينيها بالدموع أمرًا معتادًا، فهي لا تعلم ماذا يأكلون؟ كيف ينامون؟

أما هالة التي تمكنت من اصطحاب زوجها لمنفاها، فإن  قلبها بقي معلقًا مع أهلها الذين استقروا مؤخرًا في إحدى ضواحي ريف دمشق البعيد لساعات عن دمشق المدينة، والتي تحتاج للوصول إليها المرور على أكثر من عشر حواجز!

عاودت عهد البكاء مجددًا، أربعة أيام ولم تستطع التكلم مع أهلها بعد أن فقدت الاتصال معهم، فانقطاع الكهرباء حيث يقيم أهلها النازحون في ريف دمشق تسبب في ضعف الإشارة وانتهاء شحن الأجهزة المحمولة، ما منعها من الاطمئنان عليهم.

لم يعد الأمر محتملًا بالنسبة لها كما تقول، غياب عن معايشة تفاصيل حياة أهلها الذي باتوا محاصرين من جديد في مكان نزوحهم من قبل قوات الأسد التي تفقد السيطرة شيئًا فشيئًا عن مناطق العاصمة وريفها، وبعدٌّ عن حنانهم ودفء صدورهم، يدفعها كل يوم للتفكير بخطىً جدية للعودة إلى بلدها مهما كلف ذلك من مخاطر! لكن خولة تمسح دموعها بسرعة، وتمسك عهد من كتفها وتهزها بقوة  «نحنا جينا لهون لنبقى.. لانو لازم نرجع».

مقالات متعلقة

فكر وأدب

المزيد من فكر وأدب