جريدة عنب بلدي – العدد 52 – الأحد – 17-2-2013
أطلقت الثورة السورية في جملة ما أطلقته من شعارات شعار «العدالة والمساواة» لم تأت هذه الشعارات من كراسات المثقفين ولا من أدبيات «أحزاب» قادت المظاهرات فهذا ليس متاحًا في دولة يحكمها حزب البعث منذ نصف قرن من الزمن، إنما أتت هذه الشعارات من حناجر المتظاهرين في مختلف المناطق السورية لتعبر عن شعور مرير ومزمن بعدم العدالة أو بالأحرى بالظلم الذي وقع على السوريين جميعًا، وعدم الإنصاف والمساواة في كل شيء ا>بتداءً من التعليم الذي كان يحصل عليه «المظليين من حزب البعث» مرورًا بالوظائف المخصصة للبعثيين دون سواهم أو لأبناء المسؤولين في حال الوظائف الهامة، وانتهاءً بطابور الخبز أو المازوت الذي يستطيع أصغر عنصر في فرع أمن سوري تجاوزه وعدم احترامه في صورة تتكرر يوميًا من صور الإذلال التي يتعرض لها المواطن السوري.
إذًا لا بد لأي حركة احتجاج من أن ترفع الشعارات المواجهة للوضع الذي انتفضت عليه، فالظلم يستوجب العدالة والتمييز يستوجب المساواة. وهنا يمكن التساؤل لماذا نواجه الظلم بالعدالة ولا نواجهه «بالانتقام» من الظالم؟ والتمييز والعنصرية بتمييز وعنصرية مضادة؟
ربما ليس السوريون وحدهم من طرحوا على أنفسهم هذه الأسئلة من بين الشعوب التي شهدت انتفاضات أو ثورات أو حتى تغييرات اجتماعية كالتي يعيشها مجتمعنا السوري اليوم، وهنا سأسوق مثالين، المثال الأول من دولة جنوب أفريقيا وقائدها الذي تحول إلى رمز عالمي نيلسون مانديلا، ففي جنوب أفريقيا حكم نظام التمييز العنصري الذي كان يحتكر الأرض الزراعية والوظائف والمناصب الحكومية ويمنع السكان السود عنها، حتى كان التمييز يشمل المدارس والمشافي ووسائط النقل العامة، وبهذا تنازعت المواطنين مشاعر الرغبة في تغيير وضعهم، وعبر عن هذه المشاعر حزبين أساسيين هما حزب المؤتمر الوطني الذي يتزعمه مانديلا، وحزب المؤتمر القومي وهذا الحزب الأخير كان يريد أن يواجه العنف بالعنف والظلم بالانتقام والتهجير بالتهجير، وهو ما رأت فيه فئات واسعة من المواطنين الأفارقة أنه سيؤثر على مستقبل بلدهم ويقودهم إلى دوامة من الاقتتال والدمار لن يستطيعوا الخروج منها، فكانت القاعدة الشعبية الواسعة تنحاز للمؤتمر الوطني وقائده نيلسون مانديلا الذي يطالب بمواجهة الظلم بالعدالة والتمييز بالمساواة، ليس ببساطة نجحت التجربة التي استغرقت قرابة نصف قرن لكنها نضجت في تسعينات القرن الماضي وخرج مانديلا من السجن ليغدو رئيس البلاد، واليوم جنوب أفريقيا واحدة من أهم الدول الناهضة اقتصاديًا واجتماعيًا وهي تنافس في أي تعديل في مجلس الأمن لتحاول حجز مقعدها الدائم فيه كممثلة عن شعوب أفريقيا كلها، في المقابل هناك ثلاث دول جارات لجنوب أفريقيا وهي زيمبابوي والكونغو ورواندا ممن اختارت أحزاب وفصائل فيها طريق الانتقام في استقلالها لا زالت حتى اليوم تعاني من الديكتاتوريات العسكرية التي حكمتها كما أنها لا زالت تتمتع بأدنى مستويات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وأكثر نسبة وفيات بين الأطفال! يضاف إليها أن معدل الأعمار لا يتجاوز أربعين سنة، هنا لا أريد الاستطراد أكثر عن تجارب الآخرين وتجربة غياث مطر ويحيى شربجي وغيرهم ماثلة أمامنا كسوريين وهي تجربة ناجحة وإن رحل أصحابها أو دخلوا السجون.
المثال الثاني هو من الجار العراق فبعد الاحتلال الأمريكي له قام العراقيون بما يعرف «باجتثاث البعث» و» حل الجيش» وهذا ما شجعت عليه الولايات المتحدة، في المقابل أصبح البعثيون الذين تعرضوا للملاحقة فقط لأنهم بعثيون أناس مطاردين ما دفعهم أكثر إلى العنف والرد بحمل السلاح على الحكومة، هذا بدوره انعكس على المجتمع العراقي دمارًا وموتًا وضعفًا في العملية السياسية ونخبها.
يبدو أن أمامنا امتحانات صعبة لكن علينا أن نتذكر التجارب الناجحة ونعمل بها، فإما أن نسقط النظام ونذهب في الانتقام والعنف ونخسر البلد، وإما أن نسقط النظام ونفتح باب العدالة الانتقالية والمساواة بين السوريين ونتفرغ لنبني وطنًا يليق بشهدائه، لذا علينا التركيز على أن السياسة أيضًا مدخل للوطنية وأن العدالة ودولة القانون والمساواة هي من سيحمي مستقبل أبنائنا، وليست فقط بندقية المقاومة هي من يحتكر دخولنا إلى الفضاء الوطني، وإن كانت في هذه اللحظات تكسب شرعيتها من مواجهة نظام غاشم وعنصري لكن هذا لا يعني إغفال باقي جوانب الحل القانوني والسياسي فسوريا بحاجة لها من أجل المستقبل.
لا تنقص هذه الكلمات من دور المقاومة فهي بالتأكيد الأهم اليوم ويجب أن ندعمها لنحقق هدفنا الأساسي في إسقاط النظام، وهنا نصف مهمتنا وبعدها يجب الانطلاق إلى النصف الأكثر إيجابية من مهمات الثورة وهو بناء دولة العدالة والمساواة التي تليق بالسوريين في ظل القانون الذي يحمي الجميع. وهذا المطلب ليس مستحيلًا.