لا يزال التوتر الأمني مستمر في أرياف دير الزور الشمالية والشرقية على وقع الاشتباكات التي شهدتها المنطقة بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) و”مجلس دير الزور العسكري” التابع لها، وصاحب السيطرة على المنطقة.
ومنذ صباح أمس، الاثنين 28 من آب، اشتبك الطرفان بمناطق جغرافية متفرقة لكن المواجهات تركزت بشكل أساسي في بلدة الجيعة غربي دير الزور، وقرية العزبة شماليها، ومدينة البصيرة شرقي المحافظة.
اعتقلت “قسد“ قائد مجلس دير الزور العسكري”، أحمد الخبيل (الملقب بـ”أبو خولة”)، بعد خلاف بين الجانبين دام أكثر من شهرين، بينما بقي قادة الصف الأول في “المجلس” محاصرين بمدينة الحسكة رافضين تسليم أنفسهم.
ونشر أدهم الخبيل شقيق قائد “مجلس دير الزور”، تسجيلًا مصورًا تداوله ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الأحد 27 من آب، هدد خلاله من أسماهم “الدواعش الصفر” (في إشارة إلى “قسد”) بالتصعيد في حال لم يُحل الموقف.
واندلعت اشتباكات في المنطقة لا تزال آثارها مرئية في دير الزور حتى لحظة تحرير هذا التقرير على خلفية اعتقال قادة “المجلس”.
مهلة
وخلال المواجهات شهدت المنطقة دخول تعزيزات عسكرية لـ”قسد” متضمنة دبابات ومدافع ثقيلة من عيار “57 مم” وضعتها بمنطقة المعامل شمال شرقي دير الزور بحسب ما قاله مسؤول عن قوى “الأمن الداخلي” في قرية بدير الزور تعد إحدى نقاط الاشتباك بين الجهتين.
المسؤول، الذي تحفظ على ذكر اسمه كونه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام، أضاف أن القيادة العامة لـ”الأمن الداخلي” (أسايش) تواصلت معه وطالبته بسحب السلاح من بعض العناصر ومنحهم إجازات، وإذنًا بمغادرة نقاطهم حتى يحل الخلاف بين “المجلس” و”قسد”.
ومنحت هذه الإجازات للعناصر الذين ينحدرون من عشيرة “البكير” (فرع من عشيرة العكيدات)، التي ينحدر منها القائد العام لـ”مجلس دير الزور” أحمد الخبيل (أبو خولة)، خوفًا من انحيازهم إلى صف “المجلس”.
وأفاد مراسل عنب بلدي في دير الزور أن مقاتلي “المجلس العسكري” سيطروا مساء أمس الاثنين، على حاجز “الصنور” في بلدة أبو حمام شرقي دير الزور، بعد معارك مع “قسد”.
وتداول ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي بيانًا مصورًا من وجهاء عشيرة “لعكيدات”، طالبوا فيه بالافراج عن قادة “مجلس دير الزور العسكري” المُعتلقين لدى “قسد” خلال مهلة 12 ساعة، مهددين باستهداف جميع عناصر “قسد” وأماكن تمركزها، وإعلان النفير العام ضدها.
قيادي في “مجلس دير الزور”، قال لعنب بلدي إن قواته لا تزال محافظة على تأهبها وبكامل الجاهزية لأي طارء عسكري قد يحدث في المنطقة، مشيرًا إلى أن ما أشيع حول الإفراج عن القادة المحتجزين في الحسكة “عار عن الصحة”.
وقالت “شبكة فرات بوست” المحلية، إن وجهاء وشيوخ عشائر من المنطقة توجهوا نحو مدينة الحسكة للاجتماع بممثلين عن التحالف الدولي والقائد العام لـ”قسد” مظلوم عبدي، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين وعلى رأسهم قائد “مجلس دير الزور”، أحمد الخبيل.
تأسس “مجلس دير الزور العسكري” في عام 2016 من من أبناء العشائر العربية (عكيدات بكارة جبور مشاهدة بو شعبان) وكانت البداية على شكل مجموعات صغيرة في مدينة الشدادي، بدأت بالتوسع في مناطق شمال شرق سوريا من خلال استقطاب أبناء المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية” ومعظمهم من عناصر “الجيش الحر” السابقين، والمعارضون للتنظيم.
وانضم لـ”قسد” لاحقًا في معاركها العسكرية ضد التنظيم الذي كان يتركز ثقله العسكري بدير الزور، ومع دحر التنظيم من المنطقة تمركز “مجلس دير الزور” في المحافظة التي ينحدر مقاتلوه منها. |
خلاف عقائدي أم إداري
خلاف “قسد” التي يهيمن “حزب العمال الكردستاني” (PKK) على مفاصل القرار فيها، مع فصائل عربية ضمن مكوناتها ليس الأول من نوعه، إذ سبق وأنهت فصائل عربية أخرى بالطريقة نفسها، وحلّتها على شكل مجموعات صغيرة داخل “قسد”.
أبرز هذه الخلافات كانت تلك التي تحولت لمواجهات مسلحة بين “قسد” و”لواء ثوار الرقة” (أحد مكونات قسد)، إذ نشبت بينهما معارك مسلحة استمرت لأيام، وانتهت بحل الفصيل ودمج مقاتليه بالفصيل الأم.
ومن الفصائل العربية التي ذابت داخل “قسد” أيضًا، “جيش الثوار”، “لواء ثوار الرقة”، “كتائب شمس الشمال”، لواء “أويس القرني” الذي أنهي بمعارك عسكرية.
الباحث في مركز “عمران” للدراسات أسامة شيخ علي، يرى أن الخلاف يعود لمحاولات “قسد” المستمرة للسيطرة الفعلية على دير الزور وإخضاع المنطقة لمشروع “الإدارة الذاتية” مثلما حدث في الرقة والحسكة.
وأضاف أن الاضطرابات والاحتجاجات المناوئة لـ”قسد” بدير الزور لم تتوقف على مدى السنوات الماضية منذ سيطرة الأخيرة عليها بدعم من التحالف الدولي عام 2017.
ومن جهة أخرى قدم أحمد الخبيل خدمات كبيرة لـ”قسد” وساعدها في بسط سيطرتها على المنطقة ولو بالحد الأدنى، كتطبيع علاقات “قسد” مع العشائر الموجودة في المنطقة، بحسب شيخ علي.
وعلى الرغم من أن للخبيل دور إيجابي في سيطرة “قسد” على المنطقة، وصل لمرحلة أخرى أثارت حفيظة القيادة العامة في الفصيل الأم ضده، إذ زاد نفوذه في المنطقة، وصار شخصية قوية ذا شعبية في دير الزور.
ومع تنامي قوة الخبيل، خشيت “قسد” من عدم إمكانية السيطرة عليه مستقبلًا، وهو ما ظهر خلال الشهرين الماضيين عندما حاولت تنحيته عن قيادة “مجلس دير الزور العسكري”، ما انعكس على هيئة اشتباكات واحتجاجات في مناطق سيطرة “المجلس” بدير الزور، بحسب الباحث.
وأضاف أن الأحداث التي شهدتها المنطقة نهاية تموز الماضي، ظهر خلالها جليًا أن “قسد” لن تقبل ببقاء “أبو خولة” بمنصبه، وأن تزداد قوته ونفوذه يومًا بعد يوم، لذلك كانت المحاولة الثانية قبل أيام عندما استدعي مع قيادات “المجلس” إلى الحسكة، ووُضعوا فيها تحت الإقامة الجبرية.
مشكلة المكون العربي
يتمثّل المكوّن العربي في مؤسسات “الإدارة الذاتية”، المظلة السياسية لـ”قسد”، بشخصيات عربية موالية لها، لم تحقّق تطلّعات سكان المنطقة من العشائر العربية على مدار سنوات سيطرة القوات الكردية على المنطقة.
وتعتبر مشكلة عدم وجود تمثيل للمكونات العربية، من أبرز المشكلات التي لطالما دفعت بأبناء عشائر دير الزور للاحتجاج في الشوارع مطالبين التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا (الداعم الرئيسي لـ”قسد”) للتدخل.
وفي تقرير صدر عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، في آذار 2020، انتقد إقصاء المكوّن العربي عن مفاصل اتخاذ القرارات داخل المؤسسات العسكرية والمدنية التابعة لـ”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، الجناح السياسي لـ”قسد”.
ويعتبر “مجلس دير الزور العسكري” من أكبر التشكيلات العشائرية في “قسد” ويشكل تمثيلًا على الصعيد العسكري بالنسبة لأبناء المنطقة رغم خلافهم معه في بعض الجزئيات.
“شبهات” حول “أبو خولة”
الباحث أسامة شيخ علي، قال لعنب بلدي إن “أبو خولة” تحوم حوله “شبهات كثيرة” تتعلق بالفساد والعلاقاته بالميليشيات الإيرانية على الضفة الغربية لنهر الفرات، إلى جانب إدارته لشبكات التهريب بين ضفتي النهر.
وأضاف أن “قسد” قد تكون استفادت من هذه الورقة حتى تحصل على موافقة أمريكية لإزاحة الخبيل.
ويرى شيخ علي أن مسار الأحداث لا يزال غير واضح في دير الزور، حيث تقاوم عشيرة “البكير” التي ينتمي لها الخبيل، وعشائر أخرى احتجاجًا على الطريقة التي عزل فيها قائد “مجلس دير الزور العسكري”.
مسؤول المركز الإعلامي لـ”قسد” فرهاد شامي، أعلن عن نتائج الحملة الأمنية التي أطلقتها “قسد” بدير الزور التي قال إنها جائت لـ”ملاحقة خلايا تنظيم (الدولة الإسلامية)”.
وقال شامي لقناة “روناهي” الكردية (مقرها شمال شرقي سوريا) أمس، الاثنين 28 من آب، إن الحملة أسفرت عن اعتقال 13 شخصًا، ومقتل آخرين رفضوا تسليم أنفسهم، في حين أفاد مراسل عنب بلدي في دير الزور أن “قسد” لم تشن أي عملية أمنية ضد تنظيم “الدولة” في المنطقة.
الباحث في مركز “عمران للدراسات” سامر الأحمد، قال في سلسلة تغريدات عبر حسابه في موقع “إكس” (تويتر سابقًا)، إن خطوة “قسد” جاءت بعد حديث متكرر عن مخطط أمريكي للهجوم على ميليشيات إيران في البوكمال بالاعتماد على أبناء العشائر، إذ تضمن الحديث أن التحالف سيعتمد على قوات عربية في جبهته ضد الميليشيات الإيرانية شرقي سوريا، في حين يرفض حزب “العمال الكردستاني” (PKK) المشاركة بأي عمل ضد الإيرانيين.
وأضاف الباحث أن التصعيد هو “اختبار حقيقي لقوة العشائر ورد فعلها تجاه سلطات الأمر الواقع، وقد يشكل فرصة جديدة لانتزاع حقوق أهل المنطقة من (قسد) التي أرهقتهم بالتضييق الاقتصادي والأمني منذ عدة سنوات”.
ويرى الأحمد أن “قسد” تحاول القضاء على قوة ونفوذ “مجلس دير الزور العسكري” بالطريقة “الغادرة” نفسها التي قضت فيها على نفوذ “لواء ثوار الرقة”، وبنفس أسلوب “تحرير الشام” في ابتلاع فصائل المعارضة شمال غربي سوريا.
اقرأ أيضًا: تياران داخل “قسد”.. أمريكا والمكتسبات يمنعان الصدام
سيناريوهات المنطقة
الباحث أسامة شيخ علي يرى أن عدة سيناريوهات تلوح في أفق المنطقة، أبرزها هي أن تبقى أرياف دير الزور منطقة مضطربة، خصوصًا أن الميليشيات الإيرانية التي تسيطر على غرب الفرات جاهزة لملء أي فراغ قد يحدث في دير الزور.
لكن هذا السيناريو قد يتعطل إذا جرت مفاوضات حقيقية بين العشائر ذات الاعتبار بالمنطقة وعلى رأسها “العكيدات” وقيادة “قسد”، أخرى لإيجاد حل للأزمة الحالية بقضي بعدم حل “مجلس دير الزور العسكري”.
ويقتضي السيناريو الثاني بإعادة هيكلة “المجلس” وتسليمه لشخصية قيادية مقبولة من “قسد” والمجتمع المحلي، وهو ما يمكن أن يعيد الاستقرار للمنطقة، بحسب الباحث.
شيخ علي أضاف أن محاولات “قسد” المستمرة لإخضاع المنطقة لإدارتها بشكل كامل كما حدث مع الرقة والحسكة، يحول دون الوصول إلى استقرار فيها.
وكما هو واضح حتى اليوم في دير الزور، فإن هيمنة “قسد” غير مكتملة، فلا يمكن مشاهدة مناهج “الإدارة الذاتية” التعليمية فيها، ولا تنظم أيضًا مسيرات موالية لمؤسس “العمال الكردستاني”، عبد الله أوجلان، كما هو الحال في الحسكة والرقة وحتى ريف حلب.
خلاف قديم يتجدد
في 25 من تموز الماضي، اندلعت اشتباكات مسلحة بين “مجلس دير الزور العسكري” و”الشرطة العسكرية”، وهما تشكيلان تابعان لـ”قسد” بريف محافظة دير الزور الشمالي على خلفية مقتل عناصر من المجلس إثر خلاف على حاجز أمني.
سبق ذلك في 19 من الشهر نفسه، انتشار تسجيل صوتي لقائد “مجلس دير الزور” أحمد الخبيل يتحدث عن خلافاته مع القيادة المركزية في “قسد”.
وورد في التسجيلات أن “مجلس دير الزور العسكري” يواجه عدوين داخلي وخارجي، الأول يتمثل ببعض القياديين في “قسد” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، والخارجي يتمثل بتركيا والنظام السوري.
وعقب أيام عاد الخبيل لينفي الحديث عن وقوع خلاف بينه وبين القيادة العامة لـ”قسد”، الذي انعكس على هيئة حشود عسكرية شرقي محافظة دير الزور.
وقال الخبيل في حديثه لقناة “روناهي” الكردية، المقربة من “قسد”، إن التسجيلات الصوتية التي سربت له مؤخرًا كانت خلال نقاشه مع “الرفقاء” في “مجلس دير الزور العسكري”.
وأشار إلى أن النقاش كان يدور حول “خلافات بوجهات النظر” بين قادة “المجلس” لا أكثر.