جنى العيسى | حسن إبراهيم | يامن مغربي
إسقاط النظام والحرية والعدالة والتغيير السياسي والإفراج عن المعتقلين والعيش بكرامة ورفض العودة إلى القيود وتطبيق القرار الأممي “2254”، مطالب نادى بها مئات السوريين على مدار الأيام العشرة الماضية، امتزجت بهتافات الثورة الأولى “حرية للأبد، سوريا لينا وما هي لبيت الأسد”.
خلقت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي يعانيها المقيمون في مناطق سيطرة النظام منذ سنوات، الظروف لانتفاضة جديدة، عززها عدم تعهد النظام بتقديم حلول مجدية من شأنها تخفيف وقع المعاناة.
ومنذ منتصف آب الحالي، تشهد محافظات ومناطق عدة ضمن سيطرة النظام موجة من الاحتجاجات والانتقادات التي فجرها الواقع المعيشي والاقتصادي المتردي، خاصة بعد رفع أجور العاملين بنسبة 100%، ورفع أسعار المحروقات في الوقت نفسه.
أدى قرار رفع أسعار المحروقات إلى تآكل في قيمة مرتبات موظفي الحكومة من ناحية قيمة المبلغ بالمقارنة مع الدولار الأمريكي.
وبعيدًا عن الخلفية الاقتصادية لتصاعد الاحتقان والاحتجاجات، ارتفع سقف المطالب إلى إسقاط النظام السوري في مناطق تحت سيطرته، كالسويداء ودرعا والساحل، لتستجيب مناطق خارج سيطرته في إدلب وأرياف حلب ودير الزور، في حالة أعادت مطالب الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 إلى الشارع.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، أسباب عودة المظاهرات إلى مناطق عدة تحت سيطرة النظام السوري، ومآلاتها، ومستقبل هذه الاحتجاجات القريب، وسط تساؤلات حول طبيعة التعامل معها في حال توسعها.
من السويداء ودرعا: ثورة لكل السوريين
في 16 من آب الحالي، دعا عدد من أهالي بلدة القريّا جنوبي السويداء إلى وقفة احتجاجية في ضريح قائد الثورة السورية الكبرى، سلطان باشا الأطرش. حمل نص الدعوة عبارة “عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يخرج شاهرًا سيفه”، احتجاجًا على رفع أسعار المحروقات بنسبة تقارب 300%.
وسرعان ما انفجرت الوقفات الاحتجاجية إلى إضراب عام، وقطع طرقات، ومطالب بإسقاط النظام السوري والعيش بكرامة وحرية وديمقراطية لا تحت حكم العسكر وحزب “البعث”.
وتوسعت رقعة الاحتجاجات إلى أكثر من 40 نقطة تظاهر بشكل يومي منذ ذلك الوقت. وأغلق متظاهرون مبنى قيادة حزب “البعث” وعددًا من المؤسسات الحكومية، وحرقوا صورًا لبشار الأسد، ووصلت المطالب إلى طرد إيران وروسيا من الأراضي السورية.
وبارك المظاهرات رموز ومشايخ السويداء، منهم الشيخ الروحي للطائفة الدرزية، حكمت الهجري، الذي قال إن من حق الناس أن يصرخوا ويستغيثوا وأن يتوقفوا عن عمل أصبح يجلب الإذلال، وكذلك شيخ العقل حمود الحناوي، الذي أصدر بيانًا مشابهًا، والتقى المتظاهرين بالقريّا، في 22 من آب الحالي.
“مضافة الكرامة” التي تشكّل مرجعًا لشريحة من أبناء السويداء، ويمثلها الشيخ ليث البلعوس (نجل وحيد البلعوس زعيم حركة “رجال الكرامة” الذي قُتل في أيلول 2015)، أصدرت بيانًا أيدت عبره “مطالب الشعب المحقة”، وأبدت جاهزيتها لرد أي اعتداء على “الشعب الثائر”.
قائد “مضافة الكرامة”، ليث البلعوس، قال لعنب بلدي، إن حشود المتظاهرين التي خرجت في السويداء كبيرة، ولأول مرة تصل إلى هذا العدد، وخرجت بعد انتهاكات النظام في المحافظة والجور والظلم والقهر الذي مارسه، معتبرًا أن التفاف مشايخ العقل والوجهاء والمنظمات الإنسانية والجمعيات الخيرية حول المتظاهرين والمطالب كان مشرفًا.
وأضاف البلعوس أن المتظاهرين لا يطالبون بتحسين الوضع المعيشي والخدمي بالمحافظة، إنما يريدون تطبيق القرار الأممي “2254”، ورحيل الأسد، معتبرًا الترويج لغير ذلك أمرًا مرفوضًا.
السوريون لن يقبلوا ببشار الأسد، حتى لو حسّن الأوضاع في سوريا، وأشعل أصابعه العشرة شمعًا، السوريون لهم دم عند النظام الذي هجّر أولادهم وذبحهم، لا يريدون خبزًا وكهرباء.
الناس قالوا كلمتين: لا نريد الطغمة الحاكمة، لا نريد بشار الأسد. الشيخ ليث البلعوس – قائد “مضافة الكرامة” في السويداء |
إلى جانب السويداء، خرج أبناء مدينة درعا بمظاهرات من قرى ومدن مختلفة مطالبين بإسقاط النظام والإفراج عن المعتقلين، منها انطلقت من ساحة المسجد “العمري” وجابت بعدها شوارع المدينة، أوصلوا رسالة مفادها “أن درعا ما زالت على العهد كما كانت سابقًا، ولن تتخلى عن ثورتها” وفق متظاهرين قابلتهم عنب بلدي.
وشهدت مناطق متفرقة من محافظة درعا احتجاجات مناهضة للنظام في مدينة نوى وإنخل وجاسم وبصرى الشام وصيدا والكرك، تزامنًا مع استمرار الاحتجاجات بمناطق من محافظة السويداء المجاورة لها.
الساحل.. انتقاد علني وغليان مكتوم
في وقت لم تشهد فيه ساحات المحافظات الكبرى أي مظاهرات أو إضرابات، علت أصوات المحتجين في الساحل السوري الذي يحمل رمزية خاصة، كونه يعد معقلًا لأنصار النظام السوري وحاضنة شعبية للمقاتلين منذ عام 2011، عبر ناشطين وصحفيين دعوا الأسد إلى التنحي، وطالبوا الأهالي بتنظيم إضرابات سلمية للمطالبة بأبسط حقوقهم.
من بين الشخصيات، الصحفي السوري كنان وقاف (الذي غادر سوريا مؤخرًا)، والذي توّجه، في 20 من آب الحالي، عبر تسجيل مصور إلى أهالي الساحل، وقال، “لن يسلم منكم أحد. صمتكم لا يعني نجاتكم من نظام كهذا، نظام يعتمد الحديد والنار والخوف، ويمشي بهذا الشعب إلى مزيد من القهر والذل”.
وناشدت ابنة الناشط أحمد إبراهيم إسماعيل من محافظة اللاذقية (يتبنى خطابًا معارضًا سواء للنظام أو للمعارضة)، من أجل تحويل اعتقال والدها إلى قضية رأي عام، بعد اعتقاله من قبل “الأمن العسكري”، عقب انتقاده الأوضاع المعيشية و”فساد” الحكومة السورية.
ومن طرطوس ظهر الناشط أيمن فارس عبر تسجيل مصور وجّه فيه انتقادات لبشار الأسد وزوجته أسماء، واتهمهما بتجويع أهالي الساحل، قائلًا، “بدل أن تتمرجل على شخص يكتب كلام عادي، تمرجل على إسرائيل اللي عم تضرب سوريا كل يوم، وما حدا فقّر الشعب غيرك أنت ومرتك”.
أصوات علت في وقت تشهد فيه اللاذقية وجبلة وطرطوس حالة هدوء حذر وترقب لاحتجاجات مقبلة، ترافقت مع شن أجهزة الأمن التابعة للنظام حملة اعتقالات بعد منتصف آب الحالي، طالت ناشطين وأشخاصًا متهمين بتبعيتهم لـ”حركة 10 آب” التي أُعلن عنها مؤخرًا وتداول أعضاؤها قصاصات ورقية احتجاجية في مدن يسيطر عليها النظام.
مصدر بفرع “أمن الدولة” في اللاذقية (تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية)، قال لعنب بلدي، إن موجة اعتقالات شنتها أجهزة الاستخبارات، وسط حالة استنفار أمني كبير، خصوصًا بعد تمزيق صور لرئيس النظام، بشار الأسد، في مدينتي اللاذقية وجبلة.
كما طوّق عناصر الأمن ساحة “شباط” عند دوار “العمارة” بمدينة جبلة، في 22 من آب الحالي، قبل بدء دوريات ليلية في جبلة متمثلة بسيارات لعناصر أمن، وسط تكثيف حركة العناصر في المنطقة، وهذا ما منع خروج مظاهرات في جبلة، وسط تحذيرات من الدوائر العسكرية المقربة من كل عائلة من خطر الاعتقال، أو الحديث عن الاحتجاجات في السويداء ودرعا.
نظرة إلى الراتب والليرة
يصارع المواطن السوري وحيدًا في مواجهة موجة ارتفاع الأسعار وغياب القدرة على تأمين حاجيات عائلته الأساسية، وسط تدهور الليرة أمام العملات الأجنبية، مع غياب أي حلول تنتشله مع أزماته المتلاحقة.
واستقر متوسط الراتب الحكومي في سوريا بنهاية 2010 عند حدود 8000 ليرة سورية، أي ما يقارب 170 دولارًا عندما كان سعر صرف الدولار الواحد 47 ليرة سورية، فيما لا يتعدى حاليًا (بعد الزيادة) 20 دولارًا أمريكيًا.
وبلغ سعر غرام الذهب عيار 21 قيراطًا نهاية 2010، 1805 ليرات سورية (نحو 38 دولارًا)، بينما يبلغ حاليًا 730 ألف ليرة (نحو 54 دولارًا).
ونهاية 2010، كانت كل 47 ليرة سورية تساوي دولارًا أمريكيًا، وتهاوت عبر السنوات بشكل كبير متجاوزة في آب الحالي حاجز الـ14000 ليرة لكل دولار واحد.
وفي 2010، بلغ سعر ليتر المازوت 20 ليرة سورية، وليتر البنزين حوالي 44 ليرة، وسعر أسطوانة الغاز 250 ليرة، وفي آب الحالي حددت حكومة النظام سعر ليتر البنزين “أوكتان 90″ بـ8000 ليرة سورية، و”أوكتان 95” بـ13500 ليرة، وسعر المازوت الحر بـ11550 ليرة، وسعر أسطوانة الغاز بـ53000 ليرة سورية.
النظام يرقّع.. تنازلات لا تهدد وجوده
قوبل انتشار التسجيلات المصورة والصور للاحتجاجات عبر وسائل التواصل الاجتماعي بتجاهل من وسائل الإعلام الرسمية.
فيما بدت تحركات النظام الرسمية بهذا الإطار “خجولة”، في محاولة لاحتواء المطالب المعيشية والاقتصادية للمحتجين، فبعد غليان الشارع نتيجة ارتفاعات الأسعار التي تبعت زيادة الرواتب، ظهر حتى الآن على شاشة التلفزيون الرسمي سبعة وزراء يديرون وزارات خدمية، مرروا خلال مقابلتهم رسائل تخديرية للشعب.
وخلال الأسبوع الماضي، تمحور لقاء وزير الإدارة المحلية والبيئة، حسين مخلوف، حول اللجان المشكّلة لضبط الأسعار في الأسواق، فيما تحدث وزير الكهرباء، غسان الزامل، عن جديد القطاع الكهربائي، ووزير الزراعة، محمد حسان قطنا، ووزير الموارد المائية، تمام رعد، عن استراتيجية مواجهة التحديات التي تواجه الموارد المائية والزراعية في سوريا.
سبق هذه اللقاءات لقاء مع وزير الاقتصاد، محمد سامر الخليل، الذي تحدث بإسهاب عن الواقع الاقتصادي والمعيشي وواقع الاستثمار، تخللته عدة وعود بضبط أسعار الصرف، بالإضافة إلى لقاء مع وزير النفط، ووزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، بعد يوم على رفع أسعار المحروقات النفطية، القرار الذي أثار حفيظة المواطنين ودفعهم للتظاهر.
وتزامنت الاحتجاجات في الجنوب السوري مع تحسن طفيف لقيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، الأمر الذي اعتبره بعض الخبراء تحركًا اقتصاديًا ترويجيًا لجأ له النظام، حتى لا تنهار الليرة بشكل متسارع، وتزيد من شدة غليان الشارع.
ومن ناحية المراسيم الرئاسية، أصدر رئيس النظام السوري، خلال الفترة الأخيرة، عددًا منها، تضمن أحدها تعديل نسبة تعويض التفرغ لأعضاء الهيئة التدريسية والفنية، ومنح المرسوم الثاني تعويض طبيعة عمل للأطباء البشريين.
وفي 16 من آب الحالي، أصدر الأسد “أمرًا إداريًا” بإنهاء الاستدعاء والاحتفاظ لفئات محددة من القوات العسكرية، في أمر إداري مشابه بعد الذي أصدره في 17 من تموز الماضي.
مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، يرى أن النظام السوري حاليًا بمرحلة غير مسبوقة من الضعف الاقتصادي بتاريخ سوريا منذ الحرب العالمية الأولى، وهو يشعر بالتهديد، ويحاول الخروج بسياسات ترقيعية للواقع الحالي.
وأوضح شعار لعنب بلدي، أن الحلول الجذرية استنفدت ولا يمكن تطبيقها حاليًا، لأن المخرج الوحيد الممكن لسوريا يتمثل بتسوية سياسية تعيد القطاع الخاص للاستثمار، وتعيد الكفاءات التي خسرتها البلاد لفتح بوابة للاستثمار والدعم الخارجي من قبل حكومات ومؤسسات معينة كصندوق النقد الدولي وغيره.
النظام غير قادر إلا على تقديم حلول سطحية في الواقعين المعيشي والاقتصادي، والأمور خارج السيطرة بالنسبة له.
كرم شعار- باحث اقتصادي |
من جهته، اعتبر الباحث في مجال الاقتصاد السياسي والإدارة المحلية بمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي، أنه يجب في البداية فهم سلوك النظام في التعاطي مع الاحتجاجات الشعبية، الأمر الذي يمكن تأطيره بعدة نقاط أساسية.
ويرى الدسوقي، في حديث إلى عنب بلدي، أن الأولوية للنظام حاليًا تقديم تنازلات للخارج وليس للداخل، ولا تنازلات إلا عند الضرورة القصوى وبحد معيّن، وغالبًا ما تكون شكلية، يؤخرها للحظة الأخيرة.
ويأتي شكل التنازلات كـ”مبادرة” من قبل النظام وليس في سياق الاستجابة للمطالب ما أمكنه ذلك، على أن تكون التنازلات ضمن خانة المفكر به وبما لا يحدث تحولًا جوهريًا في قواعد اللعبة السياسية بالشكل الذي يهدده، وفق الباحث.
بالنظر إلى الإجراءات الأخيرة التي اتخذها النظام، يلاحَظ بأنها كانت مثار حديث متداول منذ أكثر من عامين، اضطر النظام إلى إصدارها مؤخرًا على أمل تنفيس حالة السخط المتنامية وشراء الوقت، وهي إصلاحات شكلية كما عهدها السوريون، لا تؤثر على بنية النظام.
أيمن الدسوقي – باحث اقتصادي |
وترتبط قدرة النظام على تحسين الوضع المعيشي بعدة عوامل، لا يبدو أنها متاحة في الوقت الحالي، وفق الدسوقي، تتمثل بتوفر الاستقرار السياسي والموارد الاقتصادية ووجود المؤسسات الفعالة.
عامل الاستقرار السياسي غير متاح في ظل تعنت النظام عن تقديم أي تنازلات جوهرية لحل الأزمة السورية بما يجعل حالة الاستقرار والضغوط تتنامى، أما الموارد الاقتصادية فغير متوفرة بالمدى المنظور في ظل عدم قدرة النظام على جلب تمويل كافٍ لإنعاش الاقتصاد وتوفير الخدمات الأساسية، وأما المؤسسات الفعالة، فكما يظهر للعيان، لا يمكن التعويل على مؤسسات الدولة الرسمية في إدارة شؤون السوريين وبما يصب بمصلحتهم، في ظل ما طالها من فساد وتخريب، وتحويلها لخدمة النظام في ظل هيمنة مؤسسات النظام وشبكاته غير الرسمية عليها، وفق الباحث.
“انتفاضة مؤجلة”..
هل تصل إلى الانفجار؟
أدى التعامل الأمني للنظام السوري واختياره الحل العسكري منذ عام 2011 في مواجهة المظاهرات التي نادت برحيله، وتعنته للتوصل إلى حل سياسي، إلى ظهور أزمات حادة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، تمثلت بالأعداد الكبيرة للاجئين في الدول الأوروبية ودول جوار سوريا، بالإضافة إلى من سافر للحصول على فرص عمل في دول الخليج العربي ومصر، أما اقتصاديًا فانهارت الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، وأصبح 90% من السوريين تحت خط الفقر، وارتفعت تكلفة المعيشة لتصل إلى حدود غير مسبوقة.
من جهة ثانية، مثّلت عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية ضمن ما عُرف بـ”المبادرة الأردنية” أملًا لبعض المواطنين السوريين القاطنين في مناطق سيطرته ضمن المحافظات السورية، بتحسن للظروف الاقتصادية والمعيشية، إلا أن ما حصل منذ أيار الماضي، تاريخ عودة الأسد بشكل رسمي لحضور اجتماعات جامعة الدول العربية، كان بعكس التوقعات.
لا يمكن ضمن الظروف الحالية التنبؤ بشكل دقيق بالشكل المقبل للحراك الجاري حاليًا في مناطق النظام السوري، واختلفت آراء المحللين الذين التقتهم عنب بلدي حول هذه النقطة تحديدًا.
الاقتصاد محرّك.. الوعي وراء التوسع
تنعكس هذه الإجراءات الحكومية المتصلة برفع الدعم المستمر عن سلع أساسية، بما في ذلك المحروقات، على القدرة المعيشية للمواطن السوري، وخياراته ضمن المرحلة المقبلة، بما في ذلك إمكانية توسع الاحتجاجات.
الباحث الاقتصادي سقراط العلو، يرى في حديث إلى عنب بلدي أن الأوضاع الاقتصادية في مناطق النظام السوري تتجه نحو الأسوأ، مرجحًا استمرار الرفع التدريجي للدعم حتى تحرير الأسعار بالمطلق للمواد المدعومة، وهذا هو خيار الحكومة للتعامل مع الأزمة.
وفي ظل غياب دعم روسي وإيراني مالي ونفطي، فمن المتوقع موجة ارتفاع أسعار وتراجع في سعر صرف الدولار الأمريكي، وهو ما سيؤدي إلى تكرار موجات الاحتجاجات وتوسعها إلى مناطق جديدة في ظل الظروف المعيشية للسوريين، وفق العلو، دون أن تؤدي بالضرورة إلى ثورة عارمة، وهذه النقطة تحديدًا من الصعب التنبؤ بها، على اعتبار عدم تغير مناطق الاحتجاجات التي تحمل خصوصية تحميها، حتى لحظة تحرير الملف.
وحول تململ “الحاضنة الشعبية” للنظام في الساحل السوري، يرى العلو أنه رغم التململ الواضح من الصعب توقع ما إذا كانت ستدخل هذه المدن على خط الاحتجاجات ضد النظام، وكذلك بالنسبة للمدن الأخرى الواقعة تحت سيطرته.
مع مواجهة النظام السوري للاحتجاجات المناهضة له منذ 2011 عبر الحل العسكري والأمني، تبدو القبضة الأمنية هي أكثر ما يخيف الراغبين بالتظاهر ضده مجددًا في 2023.
لكن هذه القبضة الأمنية قد تتراجع بالتوازي مع تراجع قدرة الحكومة وعجزها عن دعم السلع الأساسية أو إحداث تحسن في الخدمات والدخل، وفق العلو، لكن هذا الأمر سيكون على مدى بعيد نسبيًا وليس بشكل انفجار.
وأضاف الباحث أن هذه النقطة تأتي مع وعي السوريين في مناطق النظام، بأن الأخير أضاع فرصة التقارب الخليجي، وهو عاجز عن تقديم تنازلات تسهم في تحقيق انفراج اقتصادي، إضافة إلى انعدام أي أمل في انخراط النظام بحل سياسي يمكن أن يضع خارطة طريق لعملية إعادة إعمار تنقذ ما تبقى من الاقتصاد السوري، وتلك الحالة من اليأس هي التي ستدفع تدريجيًا باتجاه حراك أوسع وأعنف قد يغير معادلة السيطرة في الداخل، ويحدث فارقًا في الضغط على النظام.
“روح 2011” بجيل جديد
ردد المحتجون في السويداء ودرعا خلال الأسبوع الماضي شعارات رددها آلاف السوريين على مدى سنوات، وتحديدًا في 2011 قبل التحول إلى العمليات العسكرية.
تبدو الظروف الحالية في مناطق النظام السوري مهيأة أكثر من أي وقت مضى لانفجار شعبي اجتماعي، على اعتبار أن هناك تدهورًا كبيرًا ومستمرًا وصل إلى حد عدم قدرة النظام على تلبية الاحتياجات الأساسية للسوريين، وهذا التدهور قد لا يتحمله السوريون، بمن في ذلك موالو النظام لمدة طويلة.
وفق الباحث الاجتماعي الدكتور طلال مصطفى، فإن الحاضنة الشعبية للنظام، وغيرها من الشرائح الاجتماعية الموجودة في مناطق سيطرته ممن منحهم الأسد الأمل بقدوم الاستثمارات وتحسن الوضع الاقتصادي، اكتشفوا أن هذه الوعود ليست سوى شعارات، لذا من الطبيعي أن تظهر الاحتجاجات وأن تتوسع جغرافيًا، خاصة مع التذمر المتزايد في مناطق الساحل.
لكن هذه الاحتجاجات وإن اكتسبت صفة “ثورة”، فإنها لن تكون على نمط ثورة آذار 2011، حتى لو كانت هناك مظاهر مشابهة لها، باعتبار أنها (أي ثورة 2011) متجذرة في نفوس السوريين.
ويأتي هذا الاختلاف من ناحية أن من يقوم بالاحتجاج اليوم، هم جيل وشباب جدد، عاشوا ظروفًا مختلفة عن الشباب الذين قادوا مظاهرات 2011، والذين هُجّروا أو اعتُقلوا أو قُتلوا خلال الأعوام الماضية، وبالتالي سيقودون الحراك بطريقة مختلفة.
وقال الدكتور طلال مصطفى، في حديث إلى عنب بلدي، إن المدن الواقعة تحت سيطرة النظام قد تنتفض في المرحلة المقبلة، كمرحلة ثانية من الاحتجاجات الحالية، وتحديدًا مدن الساحل التي يعلم سكانها أن النظام غير قادر على مواجهتهم بشكل مباشر، لأن عنصر الأمن أو الجيش سيقابل عشيرته وأهله وأقاربه.
أدى حديث الأسد الأخير في لقائه على قناة “سكاي نيوز”، وتأكيده تكرار ما فعله لو عاد به الزمن، وغياب أي خطوات مقبلة لتحسين الظروف الحياتية اليومية للسوريين، إلى استياء كبير ظهر عبر أصوات ناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع الماضية.
ويرى مصطفى أن هذه الأصوات والاحتجاجات الحالية، ناتجة أيضًا عن “خيبة أمل” من النظام، وأن الأسد عبر حديثه الأخير كان يحرض حتى من وقف إلى جانبه خلال السنوات الماضية على الثورة ضده، لذا فإن الظروف الاجتماعية الحالية مواتية بحسب رأيه لتوسع الاحتجاجات المناهضة للأسد.
رغم الضعف.. القمع خيار وحيد
لأكثر من عشرة أيام متواصلة، احتج مئات السوريين في السويداء، ولأيام متفرقة في درعا، دون أن يتخذ النظام أي إجراءات أمنية بشكل علني، من شأنها تصعيد موقفه أكثر.
بالمقابل، اشتدت القبضة الأمنية في محافظات أخرى منعًا لحدوث المظاهرات بالتزامن مع دعوات لها، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
ويفتح الحراك الشعبي الحاصل اليوم الباب أمام التساؤلات حول خيارات النظام التي يمتلكها للتعامل مع توسع الاحتجاجات، في ظل ظروفه الإقليمية والدولية التي يعتبرها البعض أضعف من أي وقت سبق.
مدير الأبحاث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، قال لعنب بلدي، إن تموضع النظام اليوم سياسيًا على الساحة الدولية والإقليمية، وإن عاش انفراجًا ما على المستوى العربي، إلا أنه بموضع قلق جدًا.
وحول إمكانية تقديم تنازلات مختلفة، يعتقد طلاع أن الأسد يتعامل مع العملية السياسية كتكتيكات، فهو لن ينخرط بعملية سياسية، والثابت الرئيس منذ 2011 وحتى اليوم أنه لن يقدم تنازلات، بل يقوم بتكتيكات هدفها كسب الوقت والإيحاء بالقبول الشكلي ريثما يتم العمل على الدخول في التفاصيل، معولًا على عاملين مهمين، أولهما تغيّر الإدارة الامريكية، وتغيّر المناخ الأمني في المنطقة.
يدرك النظام أن قوته في ضعفه، بمعنى أنه ليس هناك أطراف خارجية تريد إسقاط النظام، في ظل التوجه العام نحو التهدئة الإقليمية وتنفيس الأزمات القائمة، كما أن النظام يدرك أن هذه الاحتجاجات ذات طبيعة محلية، وبالتالي يمكن التعامل معها بأدوات عدة لا يزال يمتلكها.
أعتقد أن النظام يقرأ هذه الاحتجاجات على أنها تحدٍ قابل للمعالجة وليس تهديدًا وجوديًا له. أيمن الدسوقي – باحث اقتصادي |
الدبلوماسي السوري السابق داني البعاج، قال لعنب بلدي، إن مطالب الاحتجاجات سياسية بصميمها لأنها تعتبر القرار الاقتصادي الذي يُتخذ اليوم من رأس السلطة يضر الناس، لذا هناك وعي أن التغيير السياسي هو المفيد حاليًا.
ويرى البعاج أن الأسد لا يستخدم خيارات أمام هذه الاحتجاجات، لأنه يفهم بخيار واحد يتمثل بالقمع وإعادة السلطة، معتبرًا أن عدم امتداد المظاهرات إلى محافظات أخرى قد يجعل الأسد يترك الأمر دون تدخل ويلعب على النفس والوقت، منتظرًا تململ الناس من المظاهرات نفسها، لحين عودة القبضة الأمنية إلى المحافظة.
ويرى البعاج أن النظام حاليًا ليس بموقف إقليمي أو دولي يسمح له بالتصعيد بوجه هذه المظاهرات، إلا أنه يعتمد على حليفيه روسيا وإيران وسط غياب القرار الدولي بالتدخل في سوريا.
وبنفس الوقت، لا يعد النظام بموقف بمقدوره تقديم تنازلات أكثر، لأن التنازلات الحقيقية تعني سقوطه، الأمر الذي لن يحدث، وفق الدبلوماسي.
من أبرز التحديات المرافقة للاحتجاجات الجديدة بالنسبة للنظام، أنها تخرج من الشعب المحاصر الذي لا يُحسب بالضرورة على شعب 2011، أو (الشعب المتجانس) كما أسماه الأسد، وبالتالي لا يمكن اتهامه بنفس الاتهامات بالخيانة مثلًا وغيرها كما حدث سابقًا.
داني البعاج – دبلوماسي سابق |
وفي 15 من تموز الماضي، أصدرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا، التابعة للأمم المتحدة، تقريرًا أشارت فيه إلى “استمرار أنماط التعذيب والمعاملة القاسية في سوريا بشكل منهجي وواسع النطاق”، وذلك خلال الفترة من 1 من كانون الثاني 2020 وحتى 30 من نيسان الماضي.
“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أصدرت بيانًا، في 2 من آب الحالي، وثقت فيه ما لا يقل عن 197 حالة اعتقال تعسفي نفذها النظام السوري في تموز الماضي، لمدنيين انتقدوا تدهور الواقع الخدمي والاقتصادي في مناطق سيطرته.
وأشارت إلى أن المعتقلين يتعرضون للتعذيب منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم، مع حرمانهم من التواصل مع عائلاتهم ومحاميهم.
وفق الشبكة، هناك 135 ألفًا و253 معتقلًا ومختفيًا قسرًا لدى النظام السوري، فيما لم تؤدِّ جميع مراسيم العفو الذي أصدرها النظام إلا للإفراج عن سبعة آلاف و351 معتقلًا فقط.