لمى قنوت
تخوض الناجيات والناجون كفاحًا من أجل معرفة الحقيقة ومحاسبة مجرمي الحرب في سوريا، وتسعى أُسر الأشخاص المفقودين في سوريا، بمن فيهم المختفون قسرًا، والمخطوفون، والمحتجزون تعسفًا، والمفقودون في سياق وانتهاكات النزاع، إلى مقاومة الإفلات من العقاب وتبيئة بعض أركان العدالة الانتقالية، مستغلين المساحات المحدودة المتاحة، ومتحدين استعصاء الانتقال السياسي، والهيمنة على القرار السوري من قبل دول إقليمية ودولية، واستقواء وكلائهم المحليين على المجتمعات بقوة السلاح وسطوة المهيمن.
تمر الذكرى العاشرة على مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري بالغوطة الشرقية في 21 من آب 2013، والتي قُتل فيها 1400 شخص، وآثار معاناة الناجين والناجيات لا تزال طويلة الأمد. فقد أسهمت الصفقة الروسية- الأمريكية القاضية بتسليم السلاح الكيماوي وانضمام سوريا إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية في 14 من أيلول 2013، بطي صفحة محاسبة النظام على تلك المجزرة، وجعلته شريك المجتمع الدولي في عمليات تقنية تقضي بتسليم سلاحه الكيماوي، وأتاحت له تكرار استخدامه ضد المدنيين. وحتى الآن لا يوجد أي تقدم بشأن القضاء على البرنامج السوري للأسلحة الكيماوية، وما زالت جهود الأمانة الفنية التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية والمخولة بتنظيم المشاورات مع النظام غير ناجحة.
واجهت تقارير منظمة الأسلحة الكيماوية، ومن ضمنها التقرير الثالث لفريق “التحقيق وتحديد الهوية” الذي أكد أن النظام في سوريا استخدم الكلور في الغوطة الشرقية، سيلًا من المعلومات المضللة حول عملها، وواجه فريق التحقيق ظروفًا صعبة، تضمنت هجمات إلكترونية متطورة، وعدم احترام بعض موظفيه. وقد عبث النظام بالأدلة في موقع الجريمة، وجرف مقبرة “السنديانة” التي تحوي رفات بعض ضحايا الكيماوي، وشكك وحليفه الروسي بحدوث الجريمة، فمثلًا، تعرض الطاقم الطبي وشهود محتملون في الغوطة للتهديد من أجل إنكار وقوع الهجوم الكيماوي.
بينما تسعى بعض أُسر الضحايا والناجون والناجيات من الحصار والقتل والقمع والتهجير القسري والتشرد والسلاح الكيماوي إلى توثيق الانتهاكات والجرائم، وحفظ الذاكرة وإبقاء أولوية محاسبة مجرمي الحرب، “يتفذلك” الأسد على الدول العربية التي طبّعت معه وتعاملت معه كرئيس “يفي بالتزاماته”، وفق منهجية خطوة مقابل خطوة، مقابل إيقاف إغراق أسواقها بـ”الكبتاجون”، وإيجاد تسوية سياسية بالحد الأدنى، تنسجم مع قرار مجلس الأمن رقم “2254”، وتعزيز التعاون بين “الحكومة السورية” والدول المضيفة للاجئين واللاجئات، لتنظيم وتسهيل العودة الطوعية بالتنسيق مع هيئات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
لا يعبأ الأسد بحجم الضعف الذي أوصل سوريا إليه، بسبب خياراته السياسية والاقتصادية والحربية والإجرامية، وبالمواقف التي قد تتخذها الدول الإقليمية للدفاع عن أمنها ومصالحها، فالأردن الذي أصبح معبرًا لـ”الكبتاجون” المُصنع في سوريا، لم يتوقف التهريب إليه بعد اتفاق عمان في 1 من أيار الماضي، وبعد اجتماع لجنة التواصل الوزارية العربية بشأن سوريا في 15 من آب الحالي، بل تطور الأمر إلى تهريب متفجرات من نوع “تي إن تي” بطائرة مسيّرة، كما تجاهل النظام قائمة سلّمها الأردن له، فيها أربعة أسماء من كبار تجار المخدرات، من أجل اتخاذ إجراءات أمنية بحقهم، لكنهم استمروا يعملون في سوريا بحرية تامة.
يدرك الأردن وجميع الدول أن تصنيع “الكبتاجون” وتهريبه يتم برعاية النظام وحمايته، لكن رسميًا، حمّل الأسد مسؤولية ازدهار تجارة المخدرات إلى الدول التي أسهمت بخلق الفوضى في سوريا، وذلك في حواره مع قناة “سكاي نيوز عربية” في 9 من آب الحالي. يخشى الأردن من تطور وتغير حمولة المسيّرات من مخدرات إلى أسلحة ومواد متفجرة، وخاصة مع وجود ضعف تقني يحول دون تمكن الرادارات من اكتشافها خلال التسلل، لكن تتم رؤيتها نهارًا بالعين المجردة وببعض الأجهزة الإلكترونية.
مع ضعف النظام وتحلل المؤسسات، لم يعد الأسد يكترث بعمليات الابتزاز التي تسم سلوكه، داخليًا مع المواطنين والمواطنات وخارجيًا مع الدول، وأصبحت حماية الحلفاء لنظامه تتعارض مع مصالح الشعب والوطن، ولا تصب إلا في مصلحة العصابات والميليشيات وأمراء الحرب. لم يتبقَ من هذا النظام سوى ماكينته القمعية- الإجرامية، ورغم ذلك ازدادت بشكل واسع وملحوظ الاحتجاجات ضده، وانضم لها جيل جديد ورث التهميش والإفقار وتخلي الدولة عن مسؤولياتها، ونظام بمنزلة علقة يتغذى على دماء واضطهاد الشعب وينهب ما تبقى من موارد الوطن.